}

سيرج بي مجنون المورسيكيين وطفل الشعر

د.حاتم الصكر 7 أغسطس 2017

 

حين استضاف المركز الثقافي الفرنسي في مقره  بصنعاء الشاعر الفرنسي ( من أبوين إسبانيين) سيرج بَي عام 2002 أتيحت لي فرصة محادثته بعد إلقاء قصائده عبر زميلي جساس  من قسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب. كنت قد قرأت ترجمة للقاء مطول مع سيرج بي في الصحافة الثقافية، ترجمه بنعيسى بو حماله وقدم له بمعلومات  ضافية عنه، فضلا عن نصوص قليلة كان أدونيس قد نشرها في مجلة مواقف بترجمة محمد عضيمة. ونصوص ترجمها المركز ووزعت خلال القراءات ومنها قصيدته (حلم خريطة) التي يعتمد فيها التكرار الذي لفت انتباهي إلى أنه متعد إلى نصه من الشفاهية التي يعتمد عليها كاستراتيجية شعرية جمالية تنظم صلته بالمتلقي، لكنها تنعكس فنياً في مركز الشعرية النصية وشكل التكوينات البنائية.

 أعجبته حينها ما كانت لدينا من ملاحظات حول طريقته الشعرية الفريدة والمفاجئة ،حيث يعتمد الإلقاء الحركي.أي مرافقة حركات الجسد وخاصة حركة القدمين . والأداء الشامل بتلفظ الكلمات والتمثيل والصوت المنبعث من سيره طوال الإلقاء.

كان سيرج بَي قادماً للمساهمة في ملتقى للشعر العربي والفرنسي .لكنه انفرد بتلك الأمسية التي كانت صدمة لجمهور لم يتدرب على تسلم غرائبيات الإلقاء الحركي. يضع سيرج بي في قدميه حذاء تتصل بنهاياته حلقات معدنية  وأربطة متحركة تصدر إيقاعاً صوتياً كالأجراس خلال حركته في القاعة.ممسكا بعصا قال إنه يصنعها عادة  بنفسه تساعده على  عدم السقوط وتحفظ توازنه كما قال.لأنه يصل ذروة انفعاله وهيجانه وهو يجوب المكان مشيا أو جلوساً واتكاء، يصاحبه لهاثه وصراخه في أداء تمثيلي  يكاد ينسلخ فيه عن  مشهد القراءة ،وما يحيط به.وقد تعرض بسبب ذلك لمقاضاة قانونية في أكثر من بلد. ذكّرته بأن العرب في الفترة الشفاهية كانوا ضمن تعويلهم على الإلقاء والإرتجال والمناجزات الشعرية يحملون العصا وسواها من الإستعانات الأدائية التي تحدث عنها جيمز مونرو في تنظيراته للشفاهية. وكانت له التقاطات ذكية لأصوات الناس وموسيقاهم في المنطقة العربية كبيروت وصنعاء.هنا توقف طويلاً عند الآلات الشعبية التي كان الفنانون الشعبيون التلقائيون يحملونها وهم يدورون في الأسواق.

كان سيرج نفسه يؤمن بالإرتجال أو الشعر الفوري.فلسفته أن لغات الشعوب يجب أن تمتزج بالقصائد .  وألا تقتصر صلة الشاعر بموروثه على الصلة الأدبية الخالصة.لذا نجده يستمد  حركيته من رشاقة أجساد راقصي الفلمنكو الأسبان، وحركات مصارعي الثيران، وهم بملابسهم المميزة وأيديهم الملوّحة بخرقة التمويه وإثارة  أعصاب الثيران حتى تهيج وتندفع لمنازلة خصومها. تلك بعض من استعانات بمراجع بصرية وحركية شعبية يعيد لها الشاعر الهيبة ويحييها خلال الإلقاء.


بي وليس باي

سيهديني سيرج بَي كما وعدني بعد عودته إلى فرنسا كتابه الشعري وبخط يده كلمات مؤطرة برسم تخطيطي هو خطوط خارجية وبعض الأنجم..إنه يرسم أيضاً وكتابه فيه بعض خبرياته الكثيفة..كان اسمه يعلو الكتاب(Serge PEY) إذاً هذا هو اللفظ الصحيح لآسمه وليس (باي) كما في الترجمات التي أنجزها بعض المترجمين العرب. ويضم الكتاب أعمالاً له  لفتت نظري بوجود أعمال خطية وتشجيرات و قصائد تجريبية لا تتوافق ونزعته الشفاهية وحماسته للإرتجال والشعر الفوري. ومنها نصوص مكتوبة بتكرار حرفgمثلا داخل مستطيل  عمودي تتفاوت مرات إعادة الحرف من سطر لآخر ،مشفوعاً بعلامات تنقيط كالاقواس .وهي بعض تأثراته بالدادائية، وبشعراء فرنسين يذكر في حوار معه أنهم أساتذته ..

في تلك المحادثة تكلم عن شاعرين عربيين يعدهما صديقين له ، وتعامل معهما ،ولديه فكرة عن منهجهما الشعري وانشغالاتهما: أدونيس وعبداللطيف اللعبي.

لم أكن - وما زلت مع الشعر المنبري.المنابر والإلقاء الخطابي تصنع هيجانات عاطفية وشعورية  مؤقتة الأثر. وتخفي شعرية النصوص ،وتسطح الدلالة وتعلي الإيقاع بدل جوهر النص وأسلوبيته.

لكن سيرج بي دافع عن ذلك المنهج معتقداً أن الأساطير والموروث ملك للجميع ، ولهذا لا يراها تتناقض مع الحداثة.لاسيما وقد بدأ مراحله الشعرية بالقراءة بمصاحبة الموسيقى.

حقيبته القماشية بألوانها المتنافرة و المتدلية من كتفه على طريقة الغجر وصدى لهاثه وصرخاته وهمهماته في فضاء القاعة سائرا  يحمل عصاه داعكا حبوب الطماطم التي يكرر مشهد دعسها بقوة وهو يصل إلى ذروة نشوته بإلقاء قصائده حتى يسيل لونها الدموي؛ ليؤاخي خوفه من مجازر تدبر للبشرية وتمر فوق دماء الضحايا .


طماطم، بندورة، جينيه

ولكن حبيبات الطماطم المدعوكة ترجع في استخدامها إلى ما سمعه الشاعر من جان جينيه إثر زيارته لبيروت بعد الحرب الأهلية وحواجز المسلحين الذين يختطفون البشر احتكاما إلى طريقة نطقهم كلمة بندوره بفتح النون أو تسكينها ليحددوا هويتهم كلبنانيين أو فلسطينيين. أصبحت حبة الطماطم  فاصلا بين حياة وموت .وذلك ما أثار سيرج بي وجعله يعرضها  للدعك حيث يحل في آسيا وأوربا وأميركا ليسيل ماؤها الدموي مقارنا ذلك بقنبلة الطيار الأمريكي على هيروشيما ، والذي قضى بأمر تقني واحد وبيد عجولة على حيوات سلالة من البشر ،ودمَّر الميزة الحيوية للمحيط البيئي ومظاهر الحياة بالكامل ..تلك الإدانة جزء من معتقد سيرج بي الذي عانى والداه من العسف خلال  حكم فرانكو الدكتاتوري والحرب الأهلية تحديداً تلك التي أجبرتهما على الهجرة إلى فرنسا ،حيث ولد سيرج عام 1950 في مدينة تولوز. وما عانته أسرته كلها من العمل الشاق والبائس مادياً.

يمتلك سيرج بي ذاكرة إنسانية جعلته يرثي مصارعي الثيران في الحلبات  مذكراً بمثله الشعري والكفاحي غارسيا لوركا. كما يكتب  مرثاة عن طفل فلسطيني  مات بصعقة التيار الكهربائي، وهو يرفع - مذعورا  من جنود الاحتلال الإسرائيلي- علم فلسطين فوق عمود نور في مدينته المحتلة.

بعد حين سيخبرنا صديقنا  الشاعر  أمجد ناصر الذي عاش فصول الحرب الأهلية في لبنان، وفترة إجتياح بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية ،أن قصة الطماطم أصلا هي من فولكلوريات الحرب الأهلية ، وليست واقعة حقيقية. بالنسبة لي كما لسيرج بي  كانت  لها دلالتها الرمزية وقوة الحدوث الفعلي ؛ فغدت مصدر ذعر  تحسبا لإمكان حصولها.

لم يكن وقتها  قد خطف الإرهابيون الطائفيون ابني عدي  غرب العراق  في طريق  بغداد -عمان بعد أن سألوه  أن يؤذّن ليميزوا طائفته من خلال الأذان ،وهو الجاهل بتلك الطقوس ومغازيها ، ثم ليغيبوه هذه السنين دون أن نعرف مصيره.فهل ستكون قصته وسواه من العراقيين المغيَّبين رمزاًبعد حين ،وهو يعمق في القلب مساحة الجرح كلما امتد الزمن وكبر صغاره وابتعد أمل عودته؟

 كان روفائيل ألبرتي  في إهداء له يسمي سيرج بي ( مجنون المورسيكيين)  ملمحا  لهجرتهم القسرية، وضياعهم في موج البحر باتجاه المغرب ، وممارسته لطقوس كثيرة خلفوها في أسبانيا ومنها الشفاهية التي اختارها سيرج بي لتوصيل قصائده التي توصف بالفورية والارتجالية والتلقائية.ألبرتي الذي أنجز معه سيرج بي أول قراءاته الشعرية هو صديق يستشهد به سيرج بي كثيراً.

لكن مؤثرات تجربته في الإلقاء كما يقول– في ذلك  الحوار المطول  الذي تصدر كتابه المرسل إلي والذي أجراه راميرو أوفييدومطلع عام 1999-في تولوز- تعود إلى تأثره بالشعر الحركي وطقوس مصارعة الثيران التي كانت شائعة في تولوز، ويستمد من راقصي الفلمنكو حركية أجسادهم وتوقيع أقدامهم على الأرض..لكنه يحيي تقاليد الشعر الشفاهي والإلقاء الذي - وإن كنت أعترض على ما يسببه في الحداثة الشعرية من عناية بالتلقي السمعي على حساب الدلالات واللغة الشعرية  - أجده فنا خاصاً بمهارات تعضد قراءة الشعر ، أو هو  ممارسة  مستقلة تحتاجها القصيدة لتحقق شكلاً من أشكال التواصل. 

اداء، صوت

اليوم مع ظهور الكتب المسجلة على السيديهات والأقراص المدمجة والفديوهات والمتضمنة قراءة النص بصوت ليس هو صوت المؤلف بالضرورة ،ستعود تلك التقاليد ؛لأن الملقي سيستنفر مهاراته وقدراته للتأثير في مستمعه الذي يمكنه أن يتخيل حالة مشهدية مكانية ،تصل عبرها إلى أذنيه معان وصور مصحوبة بأداء تمثيلي يحاكي اتجاه المعنى وتركيب الجمل في الشعر والنثر معاً.

 قضية الغجر ومعاناتهم في التشرد والعسف والتهميش، ومآسي المهاجرين الذين سيعملون كبعض افراد أسرته في شحذ السكاكن وبيع السجائر والخياطة، والخوف من الحروب وما تجره على البشرية..كل هذا وسواه وضع سيرج بي في صف الرفض الثوري المستند إلى إحياء تقاليد شعبية تعين في توصيل أفكاره.

ما انا سوى هندي أحمر.يقول سيرج بي. يصف نفسه بأنه طفل الشعر الأسباني والأمريكي اللاتيني. وعبرهذه القناعة يجسد سيرج بي في قصائده إنسانية فريدة ستجعل السكين عنوانا لآثنتين من مجاميعه الشعرية(اليد والسكين ) و(شحاذو السكاكين) مقرباً خطر العنف من مخيلة قرائه. وعزز ذلك بصرياً بتلك المقومات الأدائية التي ظل محافظاً عليها حزءاً من تميزه وفرادته.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.