}

مالقَـة، مدينةٌ بحجْـم الإبـدَاع

محمد بنيس 10 يونيو 2017
آراء مالقَـة، مدينةٌ بحجْـم الإبـدَاع
لوحة لخوان ميرو

1.

لم يكن لي من قبل حظّ زيارة مدينة مالقة الأندلسية، رغم رحلاتي العديدة إلى إسبانيا. حانت الفرصة هذه المرة، حين استدعاني ناشر ديواني "كتاب الحب". دعوة رحبتُ بها، تحية للناشر وقرائه. هو ناشر من مدينة مالقة، التي لم أكن أكاد أعرف عنها غير معلومات مشتتة، من القديم والحديث. مدينة على ساحل المتوسط، ذات ميناء معروف أثناء العهد الأندلسي إلى جانب ميناء المرية. عاشت عهداً من الرخاء حتى سقوطها سنة 1485. وأعرف عنها في الحديث حضورها في الحركة الفنية التشكيلية والشعرية.

ذلك ما جعلني أتعلق بزيارتها. في المطار كان صديقي المترجم فديريكو أربوس بانتظاري إلى جانب كل من الناشر فرنشيسكو طوريس والشاعر خوصي لويس ريينا. فوجئت بتوريمولينوس، القريبة من المطار، برمال شاطئها وجمال بحرها. ومنها إلى مالقة. لم أكن أفكر في الجانب السياحي للمدينة، لأني كنت متشوقاً لعوالمها الثقافية والفنية.

2.

لم نتأخر في الوصول إلى مركز النشاط الثقافي. معرض الكتاب، الذي يقام في ساحة المغفرة، الواسعة. معرض يشارك فيه عددٌ كبير من الناشرين والمؤسسات المحلية، المساهمة في نشر الكتاب. ساحة المغفرة، هي اليوم ساحة الكتاب. أطأ أرضها وأنا أتساءل : هل هناك مغفرة أكبر من مغفرة ما يقدمه الكتاب لقراء الكتاب ؟

في البداية، كان لي أن أبادر إلى الالتحاق بالرواق الخاص بتقديم ترجمة "كتاب الحب"، الحدث الثقافي الذي يفتتح به المعرض أيامه. حضور كثيف كالعادة، لأجيال من القراء. كلمات، قراءات، ثم تعليقات. وفي الأخير إمضاء نسخ. حضر شعراء وروائيون إلى جانب محبـين للشعر. لم أفاجأ بالتعلق بالشعر في المدينة، لأن تشبث الأندلسيين بالشعر مؤكد منذ القديم حتى اليوم. وجملةٌ من أكبر الشعراء الإسبان الحديثين أندلسيون.

كنتُ، من جانبي، أنتظر وقت التفرغ من الالتزامات. بسرعة رافقـني صديقي فيدريكو في جولة عبر أهم أروقة المعرض. حيوية القراء ظاهرة. قراء يصاحبهم أطفالهم، قراء يتفحصون كتباً، قراء يتناقشون فيما بينهم، قراء يسألون عن عناوين. وفي رواق المدينة مجموعة من الكتب عن جيل 27، الذي تعلقت منذ شبابي بحركتهم. أعمال شعرية، دراسات، أنطولوجيات، كتب صور. لم أتوقف عن وضع يدي على الأغلفة : أفتحُها، ألمسُ الورق،  أشاهد متأملاً في فنية إخراج الكتب، نوعية الحروف. جيل 27 هو جيل الشعراء الذين أحدثوا ثورة في الشعر الإسباني. تبنوا تسمية جيل 27، لأنهم أحيوا الذكرى الثلاثمائة لوفاة الشاعر غونغورا (1561ـ 1627)، الذي اختاروا جماليةً للقصيدة تستوحي جماليةَ القصيدة لديه، القائمة على الشكل الباروكي. عشرة شعراء، من مدن مختلفة، رأوا أن الشعر يجب أن يسلك طريقة موضوعية في تناول المواضيع، مع تجنب استعمال ضمير المتكلم. جيل نشأ على التمرد من أجل قيم تحررية. لذلك التحم سنة 1931 بإعلان الجمهورية، التي كانت بالنسبة لهم ثورة سياسية وجمالية في آن. ومع انتصار الفاشية في نهاية الحرب الأهلية سنة 1936، كانت نهايتهم كجماعة وتفرقوا في المنافي. وها هي مالقة تجمعهم من جديد، لأنّ ابني المدينة، الشاعر مانويل ألتولا غييرّي، كان ناشر أعمالهم، كما كان الشاعر إيميليو برادوسْ من الطابعين لها. ثم هي اليوم تخصص، لإحياء ذكراهم التسعين، معرضاً يضم جميعَ أعمالهم في المكتبة العامة للمدينة.

3.

جنوب ساحة الغفران تشاهد بقايا القلعة العربية القديمة، وفي أسفلها المسرح الروماني. وفي الجانب الأيسر من الساحة يوجد البيت الذي وُلد فيه بيكاسو، ثم تحول البيت إلى مؤسسة متحف، تكريماً لابن المدينة. في الشارع الخلفي مكتبة الحجَلة التي تحمل اسم رواية الأرجنتيتي خوليو كورتزار. ليس في الاختيار عبث. هي رواية من معالم الحداثة في الأدب المكتوب بالإسبانية، ومبنية بطريقة الكولاج. الكتب المعروضة في الواجهة تشير إلى ذلك الاختيار.

وبمجرد الانتباه إلى معالم ثقافية أخرى، يجذب بصرك مركز بومبيدو، الباريسي، في قلب مالقة. مكعب زجاجي ملون بارز فوق الأرض، هو مدخل متحف الفنون الحديثة. يبدو المكعب كأنه حجرة ثمينة تضيء في فضاء نباتات الحديقة.

لا أضيف شيئاً. كنت أشاهد وأتأمل. هذه مدينة تكاد تكون منسية في سلسلة المدن الثقافية الأروبية. لكنك، هنا، تشاهد ولا تقارن. أنت أمام معنى أن تكون الثقافة حاضرة في مجتمع، يحب الحرية ويحب الحياة. 

  

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.