}

كتاب الجنوب النازف شجناً وشعراً

حاتم الصكر 27 يونيو 2017
آراء كتاب الجنوب  النازف شجناً وشعراً
لوحة للفنانة العراقي اسماعيل الشيخلي

 

1-

كأي عمل أنطولوجي تجمع  قصائد (كتاب الجنوب) سمات كثيرة كما تفرقها أيضاً.ولكن قراءتها مجتمعة منضمة لبعضها لا يمكن أن يُستبعد كموجّه قوي من موجهات قراءتها.إن المجاورة هنا ليست اعتباطية.ثمة خيط يربط المختارات دوما، إن لم يكن في زمن كتابتها فهو في مكان الكتابة أو في مناخها وتوجهها .

ذلك أمر سالب في أغلب المختارات .أن تجد الكثير مما يجمع أو يفرّق  نصوص شعراء متعددين.ولم اقل شاعرات لأن (كتاب الجنوب) الذي بين يديَّ لم يحوِ صوتا نسويا.هذه الملاحظة الجَندريّة سيتم تجاوزها عند القراءة النقدية لما هو متحقق في متن المختارات حتما ، لكنها تظل كملاحظة على عمل الشعر ذاته ورؤاه وحداثته. وليس على محرري المختارات أو شعرائها وزر ذلك.

لقد وُفق واضعو العنوان تماماً.فالكتاب يعني الجمع والتأليف بين متعدد ومتنوع بحكم مفرداته أو فصوله .وهذا ما تشعرنا به قراءة قصائد الكتاب .فقد جمع بينها أنها :

- تنتمي جميعاً إلى قصيدة النثر التي اتخذها الشعراء السبعة عشر في الكتاب  شكلا للكتابة ، فاستثمروا بقدرات - ودرجات - متفاوتة ما تتيح من حرية الاسترسال، واستضافة تقنيات كتابية وأسلوبية متعددة. يبدو الشعراء الجنوبيون هنا مطمئنين إلى اختيارهم ومنغمسين في تجربة الكتابة دون تردد- بدا في بعض تنظيرات الشعراء المتشائمين من وضع قصيدة النثرمؤخراً - ودون نكوص لأشكال قديمة أو مستهلكة كما حصل لبعض شعراء الحداثة .

- ويحضر السرد في القصائد انطلاقاً من نثريتها ، لكن استضافة السرد هنا ليس لصالح مركزيته على حساب عناصر الشعرية في القصيدة،بل يكون الشعر غالباً هو المركز، أما السرد بأحداثه وأمكنته  وأزمنته وشخصياته وحواره ، فليس له إلا دور الحامل للدلالة ،والوسيلة المساعدة لتعيُّن القصيدة أو ملموسيتها التي تنقذها من طوفان الغنائيات والإيقاعات الصاخبة.

- ولا تخطئ عين القارئ الإنتظام الكتلوي للنص أو هيأته الخطّيّة ، كالتقسيم الجملي المحتكم  في توزيعها على الصفحة إلى الدلالة والأثر الشعوري للجملة وليس لمبناها النحوي أو تركيبها.وهذا يعكس العناية بدلالات الفواصل والبياض بين الجمل والمقاطع أيضاً ،والترقيم المقطعي أو التسلسل التعاقبي للجمل داخل النص.إن حياة الجملة في التعبير الشعري لا تعني وجودها المعنوي فحسب ، وإنما ترتبط بالتوزيع الخطّي والتكتل الذي يمنحه الشاعر لها ،في وعيٍ بما يريد توصيله من خلال ذلك، وقياس أثر التوزيع الخطّي لنصه بكونه معَداً أو معروضاً للقراءة البصرية .

- وسيجد القارئ عناية فائقة بالعنونة كأحد موجّهات قراءة النصوص، والعتبة التي تستقبل القارئ عند تخوم النص الأولى ، وتتعداها غالباً لتكون جزءاً من بنية النص لا يمكن استكمال إظهار دلالاته وتبين شعريته إلا بالتوقف عندها ؛فهي تشرك القارئ أو تقحمه في عالمها.ويمكن ذكر الاستهلال هنا أيضاً كونه - ليس مجرد مفتتح أو مطلع نصي - ومن خلال توجيهه لعملية القراءة باتجاه ستراتيجيات النص وفكرته وخطابه، إنما يكشف هويته، ويعرّف القارئ بخلفية تشَكُّله ودوافعه.

- وسيجد القارئ أن الحرب وتداعياتها ومفرداتها وصورها التي تتعين وتتجسد من خلالها تركت ظلالها واضحة مباشرة، أو شفيفة موحية في أغلب القصائد،وطغت دلالياً على الإهتمامات الممكنة الأخرى .

لقد كانت حصة شعراء الجنوب من الألم  كما باقي زملائهم من شعراء العراق الذين عاصروا اشتعال أفق وطنهم بالحرب والعنف والموت اليومي ،وصعود الظواهر السلبية المصاحبة لذلك، كتراجع الحريات المدنية ،وارتفاع حدة الحواجز الإجتماعية بدعاوى دينية أو طائفية أو سياسية مرحلية ، وظهور تابوات غير مقننة ،لكنها ذات أثر سالب في الكتابة التي يجدر توفر الحرية لإنجازها كما يجب.

هكذا ازدحمت ذاكرة الشعراء بما حل بوطنهم وأمكنة صباهم وذكرياتهم وأحلامهم ؛ فكانت النصوص شاشة لعرض آلامهم التي تأخذ شكلاً درامياً لاختيارهم زوايا نظر فاجعة ومؤثرة، أفلحت في رصد جنايات الحرب وتداعياتها واغتيالها للحيوات والأحلام والمستقبل ..

- ولكن الهوية الإنسانية واضحة في النصوص.الشعراء رسل محبة وسلام وعشاق للحياة، وليست لهم سواها مقصداً أو هدفاً. تنعكس هذه الثيمة إما بعرض شخوص أو مواقف وأمكنة وأحداث يسمو فيها الشعراء فوق آلامهم، أويتعاطفون حتى مع مخلوقات الطبيعة وموجوداتها.ذلك الحس الإنساني الذي يهب الشاعر حقيقته وجوهر مهمته في الحياة.

- وتدعم ثقافة النص كما أسميها مهمة توصيل النص بطرق مؤثرة في القارئ . فالنصوص لا تفتقر للمشغّل أو المحرّك الثقافي المتمثل في القراءات المعاصرة  وامتصاص جوهرها ودلالاتها ،لاسيما ما اتصل منها بالشعراء وتجاربهم.وكذلك انتباه بعض النصوص للأساطير محلية وعالمية ، وللرموز بأنواعها واستثمار عناصرها لتكون جزءا من أبنية النصوص ، وقوة محمولها ومضامينها، بعد إسقاطها على الحاضر.

- ولما كان الجنوب مستودع حكايات وأليغورات عميقة الدلالة مرتبطة بالحياة اليومية والتقاليد البيئية الخاصة؛ فإن النصوص لم تهمل ذلك .فتوفر بعضها على خصوصية محلية تلتقط إشارات المحيط ،سواء لما هو معاش أو متخيل من خلال المعاينة البصرية أو التداول الجمعي ..

وسنجد في مستوى من القراءة بصدد ما يفرق نصوص كتاب الجنوب:

- أن القصائد تأخذ أشكالاً مختلفة من حيث هيئتها طولاً وقصراً.فبينما تكون بعض النصوص  شديدة القِصرأقرب لكتابة الهايكو المتحرر من موضوع الطبيعة التقليدي، نجد بعضها الآخر مكتوباً بطول اعتيادي .وقد تكتب القصيدة سطرياً أي بطريقة القصيدة المدورة التي  تعتمد السطر الشعري المتصل دون توقف.وهذا دليل الحرية الفنية التي يمنحها الشعراء لأنفسهم ،وتنوع أوعية النصوص وحدود التعبير ..

-  قلة المكتوب في تجربة الحب، لا بالمعنى الرومانسي أو الميوعة العاطفية والابتذال والسطحية، ولكن بما يعلي الشعور الأنساني تعويضاً عن الخسارات الساحقة التي يعانيها الإنسان ، وتمجيداً للجمال في مواجهة الموت والعنف والألم..

- لم يحظ المكان  - إلا في حالات محدودة سنشير إليها - بما يستحق كجزء من عناصر التشكل النصي ، ولما في حضوره من دلالات مضافة ومشارِكة في توصيل الدلالة ،كما يسهم في إنقاذ النص من التجريد الشكلي واللغوي.ٍ

ولم تخل بعض النصوص من تعامل مزدوج لغوياً: بين الحفاظ على آليات التعبير التقليدي المباشر ، أو استخدام النثر العادي غير المنصهر في شعرية النص.يشجع على ذلك تصور نثرية قصيدة النثردعوةً ليحل كل ماليس شعراً في كينونتها وأبنيتها.

 

2-

الوقفة النقدية عند نصوص الكتاب تتيح  ما يمكن أن نعده  تطبيقات للفرضيات النظرية المستنتجة في الفقرة1- .

فقصيدة حيدر الكعبي ( أحلام الجندي القتيل) يهيؤنا عنوانها الاستباقي لقراءة سرد يكون محوره الجندي الذي سيبث فيه الشاعر الحياة ؛ليشخص من خلاله تلك الأحلام التي لم يستطع الجندي الفتيّ في الحرب أن يحكيها.

 وهي قصيدة طويلة  تحاكي إيقاعياً طول زمنها ومكان كتابتها(1995-2016) سياتل وممفس في الولايات المتحدة...

الجندي الفتي يموت عضوا فعضوا.ويعود رمزيا ليرى الأماكن والناس، ثم ليموت في دورة زمنية ومكانية حُلمية..يسهم التكرار (مات الجندي) الذي يأتي في مقاطع كثيرة في تثبيت تلك الدلالات التي تمتلك المؤثر العاطفي، باختيار ثنائية حضور الأشياء وغياب الجندي ثم توسيع مداها لغويا وصوريا.ولا شك ان موتيفات الحرب أو عدَّتها ومفرداتها تقوّي المشهد الحربي العنيف   .ولابد من استحضار القارئ لثقافة الحرب ويومياتها العراقية ليلمَّ بالنص، فالبوق الصباحي والرقم المعدني والكنية وسواها من التقاطات الحرب لايمكن فهمها إلا في سياق الحرب الذي تشبع به النص.

 القصائد العشرون للشاعر صلاح شلوان مرقمة  تتهيأ  لتنفصل عن بعضها، ولكن لتدل على مسار شعري واحد، و بجانب رقة متناهية في اختيار المفردة والتلطف في سكّ الجمل الشعرية ، ثمة سكونية ونمو بطئء وشحة في انفتاح الدلالة.ليس المقصود هنا المطالبة بالانكشاف والمباشرة ،ولكن تقريب الصور والإيحاءات من موضوع النص أو بؤرته المولّدة التي ما إن نمسك خيطاً يدلنا عليها إلا وتقطعه استدارة مفاجئة..ولم يقلل ذلك من عذوبة تهيمن على أنحاء النص وتمدداته الدلاليةالممكنة.

ونلتقي طالب عبدالعزيز الذي يأتي بعدّته المعروفة، كونه ذا تجربة شعرية طويلة ، واختيار نصَّيْه (الهياكل المضيئة ) و(حرب أخي) اختيار ذكي، فهما من قِطع الشاعر المميَّزة التي حظيت بالدراسة والتحليل.

 الكونية الإنسانية تنعكس في موضوعات طالب ولغته.هو معنيٌّ بالأشياء أكثر من أصحابها، وبالناس- بزوجة الجندي الذي لم يعد وبالشياه التي تركها الراعي والسفن..  ويلم ُّمشاهد من حرب أخيه وسلام قريته وما تبقى بعد غيابه ؛ليدوّن مرثيته التي لا يمكن قراءتها كقصيدة رثاء ولا نص حرب ، بل هواجس إنسان إزاء مغزى الغياب وبقاء الأشياء بعده ،واستمرار دورة الحياة.وهي معضلة أو إشكالية الموت منذ جلجامش ..والسرد عنده ينقطع لصالح حضورصوته داخل البنية الشعرية ،ولا يظل جامع موتيفات ولقطات يراكمها في نصه.بجانب ذلك تبدو مهارته في الحفاظ على لغة النص بهدوء ظاهري ، يخفي في الحقيقة داخل بنيته هيجاناً صورياً ولغوياً لا يخفف من ثقل النص ورصانته .

ولتأكيد العناية بالهيئة الخطّيّة نمثّل بنص عادل مردان المكوَّن من مقاطع غير مرقمة لكن القارئ يتنبه لاستداراتها وتحولاتها الدلالية عبر ما يفصل بينها من إشارات بصرية ، ولعل حكمة النص تتلخص في أن ورثة الأرض هم المهرجون الصغار وليس سواهم ممن يتصدرون مشهد الحياة ...

ولا يخلو النص من استخدامات أسطورية تذيب مرجعها وتبقي على إشاراته؛ كعبارة (جدّي يا جدّي يا من حظيت بحياة أبدية) المحيلة إلى مخاطبات جلجامش لأوتونبشتم في الملحمة .فالنص مصهر لهذا كله ،وإن بدا أنه  يهبط  فجأة في تعارضات بين رصانة لغته واستخدام عبارة عامية مثل(شكو ماكو) وفي ظني أن شعبية الاستعارة لا شعبويتها يمكن أن تتشكل دون عامية مباشرة.

ويجري عبدالسادة البصري حواراً مع الآخر عبر استذكار شاعرَيْن: بودلير ورامبو ومسرحيَّيْن: صموئيل بيكت وآرثر ميلر.هي كما يشي العنوان(مفارقات مقلوبة المعنى ) يصفها بأنها مشاكسات سمجة ،وهي وسيلة لقهر الذات (دموعنا مسكونة بالضحك/وابتساماتنا يشوبها البكاء) فكل ما هو هنا وتاريخه مهجو بمقابل امتداح الآخر.وذلك جانب من تبعات الهاوية التي وصلت إليها حياتنا .ويحافظ البصري على تلك الموازنة بطريق المفارقة التي اختارها مقترَباً للاحتكاك بموضوعه.

مع نصوص علي نوير تحضر كثير من افتراضات مقدمتنا. الحرية هاجس أكيد ومؤكد بالصور التي اختارها الشاعر للتعبير عن ضرورتها .في الحب ثمة ما يكمل موضوع الحرية فنواجه ما يقف دون تحققه. ويغدوالصمت ثالث المحبَّين وضيف مائدتهما.ويعقد الشاعر اقتراناً بين الأشياءالغائبة وحضورها النصي: تلك الشجرة ذكرى محفورة كجذورها.ومثلها  الأصدقاء البعيدون .لكن الأحلام وصفة شعرية مذهلة .والأكثر إدهاشاً تمكن علي نوير من تقنيات ملفتة للقارئ: التكرار في الأحلام، وقصيدة تلك الشجرة  التي تأكل نفسها رويداً حتى الخاتمة فينقص كل سطر شعري كلمة حتى النهاية. أكثر من مؤشر ثقافي وفني في شعر علي نوير يجعلنا نستذكر ما قلناه في مطلع تقديمنا حول ثقافة النص الحديث وعمقه وغناه بالإشارات التي تهيأ لها شاعر ذو قدرة على مزجها في بنية النص العميقة ؛لتغنيه وتزيده ثراء بنائيا ودلالياً.

وتتجسد الإنسانية كموتيف ولقطات شعرية في قصيدة عمّار كاصد حيث أعلى برج في العالم يغدو أعلى (قبر) في العالم ، يموت  الهندوكي  المغترب عن أسرته كغيره من العمال الفَعَلة الأُجَراء ،بينما يظل البرج عاليا .ويذكرنا بنص يتساءل عمن بنى الأهرام التي يذكر التاريخ أنهم الفراعنة الكبار وينسى من مات  كادحاً في بنائها. وتتأكد الإنسانية في السائس الذي لا يفضح سر حصانه ،وفي مجد السياب الذي يحاول الشعراء المتنفجون عبثا أن يطاولوه بالوقوف للتصوير بجانبه.سرد سلس وعذب لدى عمار لولا استغراقات نثرية تأتي بسبب الاستطراد هنا وهناك.

وهي ملاحظة وجدتها في قصيدة فرات صالح (اختلاف وجهات النظر) فالنثر ببرودته بدءاً من العنوان سلب النص المقدرة على تبرير نثريته أو الإفادة منها.فيما نجح السرد في النص الثاني لفرات( الطريق إلى الكوفة ) في توصيل فكرة ثنائية المسير والوصول: نسير منذ قرون ولا نصل.وبضمير الجمع الذي يهب النص نكهة ملحمية أوصلها السرد بوضوح. اما نصه عن نظارات جدتي فيعيد تنصيص أمثولة شعبية محكية شفاها ً، ويطوّرها ويجري تعديلا ذكياً لها ؛لتغدو بؤرة نص مدهش بتزامن تفاصيله المعاصرة ، وليصل إلى تجسيد الشخصية بتدرج شعري هادئ يقود إلى كنه الشحصية وجوهرها الإنساني.

ويعود الملمح الإنساني في نص كاظم اللايذ الذي يستثمر عنصر الشخصية في السرد ليقدم نماذج بشرية مرسومة بما يشبه البورتريت الشعري: مدرس، رجل كأنه متحف  يحفظ الشعر ولا يكتبه ، لا يمنع سلام روحه ووداعته من أن يساق لمحرقة الحرب وينتهي مقعدا يكتفي بشتم الحياة التي تغدر بأبنائها الطيبين. وفي نصوصه الأخرى ثمة إشارات محلية تعمل بمفارقة غريبة بجانب إشارات مستعارة ؛مثل رفع القبعة للسيدة المبجلة،  وثمة انقطاع في الصلة بين الرجل والمرأة : إنها متعالية لا ترد على هاتف المحب رغم أن الزمن سلبها جمالها ..وهي لا تريد علاقة حب قدر رغبتها في أن يكون عاشقها تابعا مثل كلب الكونتيسة برادلي.

الحرب حاضرة بقوة في نصوص كريم جخيور ولكن بتداعياتها.صندوق الكتب الذي يتجول في جبهة الحرب وعلى رصيف شارع بصري .ميزة نصوص كريم أنها تحفر في عمق مفارقات الحياة ،وتصنع منها صوراً أخاذة مؤثرة.مفارقة الذات في (دائمو الكلام) حيث تنشطر الذات في لحظة رهاب عسيرة وعصية.فنثرثر عن الحداثة ونكتب الشعر الموزون المقفى! ونتكلم عن الجوع  نهاراً ونتقلب متخمين ليلا.وبخبرة شاعر ذي تجربة يتفنن كريم جخيور في اصطياد ثيمات دالة ومؤثرة.

وثمة حضور للمكان المحلي (الحيانية )-أحد أحياء البصرة-  في تذكير بصلة الشاعر بالفضاء المكاني مسقطاً عليه وعيه وشعوره، وغير متعال على إشاراته حتى الشعبوية منها والهامشية شخوصاً ودلالات.

وتأكيداً لمفارقات قصيدته يلجأ كريم إلى السرد عبر انتقاء شخوص لهم دلالة زمنية ومكانية مثل نصه(ناظر المحطة) حيث يراقب  بتقنية القناع واستبطان دواخل الناظر المراقب  صعود القطار لبغداد ونزوله إلى البصرة . لكن مهمة ناظر المحطة  في النص تنزاح ؛ لتغدو شعرية بامتياز، فهو  بعد مغادرة القطار محطته ،يجمع شجن المسافرين ورسائلهم وماتبقى من عطر على الرصيف.

يجرّب محمد حبيب القصيدة السطرية التي لا تتوقف عند البيت الشعري التقليدي أو السطر القصير، بل ثمة استمرارية تذكرنا بالقصيدة المدورة في الشعر التفعيلي الموزون.هذه المرة يطارد النثر كلمات النص وجمله الشعرية؛ ليسوقها في دوران يشد الانتباه لنثريتها ،كونها متصلة كصفحة واحدة دون تقطيع.ولكن إيقاعها يتوافق ودوران الفكرة ذاتها في النص.مثلا: المسافة بين بيته والمقهى طويلة حيث الدروب لا تؤدي إلى نهاية..تجربة جديرة بأن تقرأ في ضوء أو توجيه هذا التوافق الحيوي بين طول السطر والإحساس بثقل الأشياء .الإعلان عن الحزن في نص ( حياة آيلة للسهو) ليس بحاجة لبيان أو إشارة.الانزياح في  العنوان :(..آيلة للسهو) لا السقوط يضع النسيان كقدر يتحدى الذاكرة والوجود ،ويحف بالحياة بلا هوادة.لقد وضع  الإفصاح كل شيء في متناول القراءة، حيث لا أسرار بين الشعر وقارئه.وهكذا تتسق النصوص: الموت يغدو أخاً بالتماهي، وكذا الوحيد يتماهى بشجرة حديقته الوحيدة.

سنبتهج بنص منذر خضير الأول( الجهة التي أمسك بها الحلم) ، فهو عن الحب الذي تهمش كموضوع في قصائد النثر التي نقرؤها ، ولكن الرجل حاضر فيه طرفاً يدير الحدث ويوجه التجربة.وبذا يقود النص بعيداً ليعود إلى المرأة، ويصنع منها تمثالاً جميلاً يتمنى في رغبة غير معلنة أن يظل رمزا أو شيئاً موحياً غير متعين.لكن ( الصحراء كناية) نص مؤثر لأنه يجرد الحرب من أسمائها وتعيناتها ؛ ليجردها كفكرة لا حدث وحسب.من هم المتقاتلون الغامضون هؤلاء وصورهم الملحمية ؟ ثلاثة ضد ثلاثين ؟غموض يلف النص لكنه يهبنا لقطة أو لوحة جميلة رغم احتشادها بالعنف والموت..يبقى الشاعر وحيداً يقود تلك الحرب ويستذكر أباه ،ثم يخرج بعد كل شيء بجناح واحد..ودون أن يطلق ناراً على أحد.هي حرب خيال إذن تسكن الشعور والذاكرة ،ولذا تأثثت بهذا الغموض..

تجربة موفق السواد واضحة النضج لمتابعٍ لنصوصه من قبلُ مثلي، ولقارئه الأول أيضاً.لن تخطئ العين فرط الخيال والعناية باللغة كعنصرين يميزان تجربته.وعنايته واضحة بعتبات النص . العنوان (رأيت)هو كلمة  البيت الأول كما أن ( رسمت) هو عنوان نص آخر وكلمة بيته الأول اعتبارا له جزءا من النص (رأيت رجلاً عجوزاً يجلس على رأس عمره) وتكرار الفعل (رأيت) سيحيل في تناص خفي إلى (هو الذي رأى) في ملحمة جلجامش ،ولكن بنهاية شديدة الأثر، حيث يكون الفخ هو حياة الشاعر..و المشهد هنا مقلوب تماما منذ الجلوس على الرأس.فيما تقدم القصيدة الثانية (شبيهي) إشكالية القرين في الشعر والسرد .وهي ثيمة لجأ إليها قليل من شعراء الكتاب .وتصل بنا قصيدته (رسمت) إلى تخوم الإيهام ومتابعة ماهو متخيل(مرسوم) حيث كل شيء سينقلب ضداً لإرادة الشاعر.

في شعر مؤيد حنون الذي تهيأت لي فرصة مرافقة بداياته ومتابعة تطوره ما يمكن تشخيص كثير من المزايا التي ذكرناها في التقديم،فثمة نساء ومدن وطبيعة تتواشج كلها في مصهر القصيدة.البصرة القديمة في سياق تداعيات تعضدها في مدينة أخرى وجوه  نساء حبشيات وأمكنة تعج بالموز والعبيد.وهي في الواقع ليست مدن خيال بل ربما هي أمكنة تشكلت في خبرة الشاعر البصرية وأسفاره، لكنه انتزع منها ما يؤثث نصوصه.لذا وجدت عناوين نصوصه توجه قراءتنا كما في(رفقة أخرى) ،  فهي تشي بانتخاب صداقة بديلة للطبيعة ..لحقل يمسكه الشاعر(من لونه) في انزياح مؤثر. ثم يحضر الجبل والشجر ولكن  ليس بما يقترح الرومانسيون  في أخيلتهم ، بل بما يهب المشهد المُبصَر من مفردات تحيل بدلالة القات وسواه من المرائي الطبيعية والحياتية إلى اليمن التي عمل فيها الشاعر زمنا..واكتنز تلك الإشارات ليعود إليها مستذكرا بحميمية معايشته لها.

قصائد الشاعر هاشم تايه الإحدى عشرة يجمعها عنوان واحد(حياة هشّة) ولكل منها عنوان فرعي.ذلك يثير مسالة الوحدة العضوية بين الأجزاء التي يتشكل منها النص.  وربما سنظل بفعل العنوان الرئيس نتلمس دلالة هشاشة الحياة كخيط ينتظم النصوص . حياة ينقرها نقار الخشب و يأكل شجرة الحياة ،والشاعر كأنما يقدم نيابة عنه  قريناً ظلِّياً غير واضح ،سرعان ما يتآكل مع شجرة الحياة .لكنه سيظهر أكثر جلاء  يمشي مع الشاعر كتفاً لكتف في نص آخر تهيمن عليه بنية الاستفهام (من؟)  منذ عنوان النص ،كأنما لتورط القارئ في استخلاص صورة هذا القرين الذي يتحدث عنه. والعودة لثيمة القرين تستلهم ميراث الشعرالحديث وكذلك في القص المعاصر..فيما تهبنا النصوص القصيرة كلها شعوراً برثاء خفي لتلك الشجرة- الحياة المأكولة.وقد وجدت عذوبة في نصوص الشاعر يصنعها حزن قاسٍ تسري عدواه للقارئ .ولكنه حزن يعليه النص ،وتساعد نثرية القصيدة لدى الشاعر في انثيال صورها وشكواها ..

 

قصائد واثق غازي  التي تشترك في إثارة موضوع وحدة النص عضوياً ،ذات نكهة مختلفة ، تخلقها تقنية القصائد القصيرة ،وكأنها سكيتشات أولية لبناء عملٍ تالٍ ،وهذا لب شعريتها أي طريق نظْمها ومقتَرح قراءتها أيضاً.اكتمالها في نقصانها بانتظار ترميم جزئيتها بالتحامها بسواها.ليس العنوان وحده ما يجمع المقاطع القصيرة في النص الأول( أربعون قبلة حتى وصلت) بل ذلك الاستخدام الخاص للغة وسك الجمل الشعرية بمفرداتها وصورها.. وقد استوقفني تعبيره عن شج الروح الذي يكبر، والحقل الذي احدودب ظهره للريح.مما يترك التأويلات منفتحة للقراءة ؛لتجد معادلاً للعدد(أربعون) مثلاً، وللهدف من الوصول المقصود في العنوان ومغزاه.

وأبرز أمثلة الانتباه للمكان  وشعريته هو نص (حانة سرجون) التي تتشكل قصيدةً ومكانا من موتيفات سريعة بآلة تصوير، تمر لتلم أجزاء المكان،وتنغلق كمكان متخيل ينزله غرباء او حالمون غير واضحين.وهذا جزء من عمل الشاعر المنشغل بالترميز وغلق الدلالة بغموضٍ: يلذ بالقراءة ولا يتحصل في المعنى..

في قصائد وليد هرمز معالجة موضوعية خالصة .أعني هيمنة الموضوع وتعيّناته الفرعية غزلا بشكل خاص  في نصوصه كلها . وتصبح نداءاتٍ لاستعادة صورة ذهنية للمرأة من الخارج، أي أنها غائبة أيضاً كطرف ، ينوب عنها أجزاء من وجهها وثيابها و جسدها ، ويحضر الشاعر بعائدية الفعل عليه دوما.وكما في نصه (ندف تعرق بياضاً) المتردد بين الحب كتجربة والعشق المختلط بإيروتيكية تتخفى لغويا وصوريا وراء رمزيةٍ، لا تخطئ عين القارئ مكانها وإحالاتها.وتلتمع في النص قطع ذات توهج عاطفي يقلل من الهيجان الإيروتيكي ،ويعيد تشكيل الحبيبة أو العشيقة كما يدعوها لتترمز في صفات ومزايا جمالية خالصة.وأحسب أن طول النصوص لم يساعد في تركيز موضوعها احياناً.

ختاماً  لا بدَّ من الاعتراف بشعوري بعد الانتهاء من هذا التقديم أنني ربما أفسدت لذة القراءة، واستبقت النصوص بأحكام تخص قراءتي وحدها ولا تُلزم سواي. وربما توسعت عن مهمة التقديم التقليدي المكتفي بتقريضٍ أو إشادة قصيرة .ولكن عذري أن نصوص كتاب الجنوب هي التي اختارت شكل مقاربتي ومضمونها. فالنص هو المحرك بدءا وانتهاء... لا سيما حين يكون كنصوص (كتاب الجنوب ) متعدد المناخات والوسائل والرؤى، ومحتشداً بالإشارات التي تحرض على تعقب دلالاتها وطرق صوغها.. 

 

 

 هامش :المقدمة التي كتبتها ل(كتاب الجنوب) وهومختارات شعرية لسبعة عشر شاعراً من البصرة يصدر بعد أيام.اختارهاالشعراء: واثق غازي عادل مردان  وهاشم تايه 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.