}

أيها العرب عودوا إلى صحرائكم!

معاذ حسن 22 مارس 2017
آراء أيها العرب عودوا إلى صحرائكم!
صحرا، جمل، بدوي وموبايل

تصاعدت منذ بدايات ثورات الربيع العربي وما تلاها من إخفاقات وتمزقات مجتمعية، حملات العداء والكراهية لفكرة العروبة من قبل اتجاهات متعددة، إثنية، دينية (مسيحية – إسلامية)، وسياسية أو إيديولوجية ضيقة، وكأنها تصفية حساب نهائية مع هذه الفكرة كانتماء قومي وهوية ثقافية. مستثمرة ما يحصل في بعض بلدان هذه المنطقة من أهوال كارثية، لتحميلها مسؤولية ذلك.

 

السطور التالية مجتزأة من مقال قرأته بالصدفة في الموقع الإلكتروني "أليتيا -  "aleteia.org/ar منشور بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الثاني 2015 بتوقيع الأب ثيودورس داود. وقد أوردتها هنا ليس لأهميتها، وإنما لأشير من خلالها إلى نموذج تتقاطع فيه كل النماذج الأخرى من نماذج العداء المستمر لفكرة العروبة، لما تمثله هذه السطور في حدها العصبوي الأقصى والمتطرف:

"لا لسنا عرباً. يكفي كذباً وتزويراً وممالقة وعجزاً وخوفاً. لسنا عرباً، ولله الحمد.
السوري ليس عربياً، العراقي ليس عربياً، المصري ليس عربياً، اللبناني ليس عربياً ولا الأردني ولا الفلسطيني.
نحن مشرقيون، نحن روميون وسريان وكلدان وآشور وأقباط، نحن أحفاد إِبلا والرافدين والفينيقيين والفراعنة، نحن أهل المشرق وسكانه الأصليون.

أبناء العربية هم العرب (سكان شبه الجزيرة والخليج).

هم أهل بادية، أما نحن فأهل حضارة.
هم أرضهم الصحراء، أما أرضنا فأرض اللبن والعسل والتين واللوز والتفاح والعنب".

فيا أيها الرعاة والسادة المستعربون والعاشقون للعروبة إن أردتم أن تتكلموا وتتغنوا بها فتكلموا عن أنفسكم وعن جبنكم، وليس عن شعوب ذُبحت واغتصبت واختُطفت ودُمّر تاريخها وحاضرها، وربما مستقبلها باسم العروبة".

طبعا لا نجادل في صحة ملاحظة إخفاق فكرة القومية العربية سياسياً على أرض الواقع حتى هذه اللحظة، رغم المد السياسي والشعبي الواسع لمصلحتها حتى سبعينيات القرن العشرين. الإخفاق، الذي كان، كما أزعم، أحد أسباب جعل المنطقة تمر اليوم بأسوأ حالاتها في زمنها الحديث، ولعل من أخطر مظاهر هذا السوء هو عودة واسعة لاصطفافات ما قبل المرحلة الوطنية الحديثة. وما ينتج عن ذلك من حروب أهلية ومذهبية مدمرة.

لكن بنظرة فاحصة ومدققة ربما يبدو لنا أن ما يحصل اليوم ليس إلا لحظة عارضة في تاريخ المنطقة، فالانفجارات المجتمعية الحاصلة منذ سنوات تقذف معها إلى السطح كل عفن القاع الذي كان يتراكم طيلة عقود تحت سقوف الاستبداد السياسي والديني. وهو ما يبدو للبعض نهائياً وعودة للوراء.

 

الجذر الأنثروبولوجي لتشكل الحضارات

لعل أخطر مغالطة تتقاطع فيها هجمات الكراهية للعرب وفكرة العروبة، هي اتهام عرب اليوم بأنهم (بدو – عربان) همجيون غزاة، وما عليهم سوى العودة للصحراء التي أتوا منها ليريحوا هذه الشعوب المتمدنة التي غزوها منذ مئات السنين.

ولكن لنسأل الآن وقياساً على أغلب الحضارات التي نشأت وكونت أممها في التاريخ:

هل كان ثمة نواة أنثروبولوجية أولى، ما قبل مدنية، لتشكلها؟

تشير الدراسات التاريخية في معظمها إلى أن شعوب ومجتمعات الحضارات الأوروبية الحديثة كلها تأسست بداية على هجرة وغزوات قبائل "الجرمان والفايكنغ" الهمجية الشرسة من شمال أوروبا البارد جداً، منذ بدايات القرون الميلادية الأولى، هرباً من مناخ صقيعي بارد لا يسمح بزراعة الأرض وتربية المواشي. وغزوها لوسط وجنوب وغرب أوروبا. ومن المناطق التي استولوا عليها بداية هي ما تعرف اليوم بألمانيا، منذ القرن الميلادي الأول. ومنطقة استولوا عليها واستقروا فيها هي منطقة "النورماندي" شمالي فرنسا في القرن التاسع الميلادي. التي سميت بهذا الاسم نسبة لهم. فأصل التسمية هي رجال الشمال "نورث ماندرز".

ثم تتالت غزوات هذه القبائل وتوسعت فشكلت ممالك وسلالات حاكمة فيها، واندمجت مع أديان وثقافات السكان المحليين متحولة من أصلها الوثني إلى الدين المسيحي، فأدى ذلك إلى تعديل اللهجات المحلية ونشوء لغات جديدة في كل منطقة تحكمها، إلى أن تتالت حركات هذه الشعوب والمجتمعات متحولة بتركيبها الديمغرافي والثقافي الجديد إلى أمم حديثة، من خلال حروب وثورات متتالية ثم أنجزت عبر ذلك كله، عصور النهضة والحداثة الأوروبية المتتالية.

وعلى هذا القياس يمكننا القول: إن الجزيرة العربية كانت منذ ما قبل ميلاد السيد المسيح بقرون أحد الخزانات البشرية التي تفيض كل فترة، فتنزاح أعداد كبيرة منها باتجاه الأراضي والمناطق الخصبة المحيطة بحثاً عن المراعي والماء لمواشيهم مصدر رزقهم الأساس، بعيدا عن مناخ صحرائهم الحار والجاف الذي يعادل صقيع شمال أوروبا الجاف.

يقول (محمد كرد علي) في سِفره التاريخي المهم "خطط الشام" بناء على قرائن تاريخية مثبتة يورد ذكرها:

"كانت العرب تختلف إلى الشام قبل الإسلام بقرون طويلة، قامت لهم فيها وفي جوارها دول عظيمة خلفت من آثارها ما دلّ على عظمتها، فمنها دولة النبط ويغلب في أسماء ملوك النبطيين اسم الحارث وعبادة ومالك وهم عرب من بقايا العمالقة، والعمالقة قوم من عاد وهم القوم الجبارون في الشام. ولم تخلف البتراء غير تدمر وأصل ملوكها من سلالة عربية أيضا. وقد أبقت هاتان الدولتان من أصولهما وحاميتهما جندا كثيرا أصبحوا بعد من جملة سكان الشام والمادة الأولى للعربية فيه".

وحدث أنه مع انتصار الإسلام النهائي في قلب الجزيرة العربية بدأ الانزياح البشري الأكبر والأهم مدفوعا هذه المرة بتحديات مع أطماع قوى خارجية أخرى كانت تتنافس للسيطرة على المنطقة (فرس - روم)، من جهة، ومحمولا بعقيدة جديدة قوية (الإسلام) من جهة ثانية، لدرجة استطاع معها هؤلاء (العربان) جذب العديد من سكان المناطق التي غزوها ودخلوها وفرض سيطرتهم عليها من خلالها.

فما حدث في أوروبا خلال عصورها القديمة والوسيطة، كان يحصل ما يناظره تماما أيضا في منطقتنا العربية في عصورها القديمة والوسيطة.
صحيح أن الحضارة التي أقامتها قبائل البدو العرب المسلمين، لقرون عديدة في العصور الوسيطة كانت الأقوى والأكثر تفوقا في زمنها، ثم بدأت تتراجع في الوقت الذي كانت تبدأ فيه نجاحات الحضارة التي أقامتها قبائل الفايكنغ والجرمان في أوروبا، وما تزال حتى اليوم.
لكن لهذا أسبابه التاريخية الخاصة والمتعددة البعيدة عن الأصل العرقي القبلي، المتعلقة بأسباب انهيار نظم ومؤسسات العالم القديم في الغرب والشرق، وبدايات ظهور مقدمات العالم الحديث.

هكذا كانت حال المجموعات البشرية القديمة في حالة سيولة وتشكل دائمين، وهي تبحث عن المكان الجغرافي -الاقتصادي الأمثل لها، قبل أن تتموضع ديمغرافيا في شكلها المجتمعي الحضاري الجديد المتحول باستمرار. ومن الطبيعي أن يأخذ هذا الحراك بداية، شكل غزوات وحروب همجية أحيانا.

كيمياء مجتمعية جديدة

على هذا الأساس – وكما أفترض هنا - يخطئ جداً، حسب رأيي الخاص طبعاً، من يعتبر أن "العروبة" هي مجرد انتماء قبلي عرقي إثني. فمنذ حقب تاريخية بعيدة لم يعد ثمة وجود لأعراق بيولوجية صافية إلا في أوهام عتاة التفكير العنصري المتطرف.
ليس هذا فحسب، بل إنه حتى كل الأفكار القومية في التاريخ الحديث وحدود دولها السياسية الحديثة، صنعتها "مخيلة المجموعات البشرية" على حد تعبير الباحث الإيرلندي (بندكت أندرسن) في كتابه البديع والمهم "الجماعات المتخيلة – تأملات في نشوء القوميات والأمم"، كجواب لحاجات أو لتحديات أنثروبولوجية أو سياسية واقتصادية طرأت على حياتها فجأة في لحظة تاريخية ما.

لذلك يمكن القول: إن فكرة "العروبة" ولدت في مخيلة طيف واسع ومتعدد الانتماءات من أعلام عصر النهضة العربي، من مفكرين وسياسيين، أواخر القرن التاسع عشر لحظة تداعي تركة الرجل المريض آنذاك، كأفضل لاحم جديد ممكن آنذاك لشعوب المنطقة في حال خروجها من اللاحم الإمبراطوري العثماني المتداعي.

أيضا، يمكن القول، إن العروبة هي فكرة تختزل سيرورة تاريخية مجتمعية وفكرية ثقافية أدبية كبيرة، شارك في صنعها طيف متعدد وغني من شعوب المنطقة وأعلامها ومفكريها منذ ما قبل الإسلام وحتى اليوم، وإن كان الإسلام أدخلها، بحكم حامله العربي الكبير لغة وبشرا، في منعطفها النوعي الكبير منذ القرن السادس الميلادي، نحو التمدد والاستيعاب ضمن المناطق الجيوسياسية التي كانت خاضعة لسيطرة إمبراطوريته طيلة قرون.
هي خلاصة الانتماء لهذا المكون التاريخي المجتمعي والثقافي الكبير العريق والمتعدد بمشاربه الإثنية والدينية والفقهية، ومدارسه الفكرية الفلسفية والأدبية. ومحاولة الالتقاء من جديد على أرضيته لإنتاج مخيلة جديدة تستطيع شعوب هذه المنطقة، من خلالها، الدخول في زمن تاريخي حداثي أفضل.
ومع غياب اللاحم الحضاري البديل لشعوب المنطقة، ورغم أن أغلب الطغاة العرب حكموا باسمها كشعارات سياسية قومية فقط، تبدو فكرة "العروبة" راهنا، كأنها ما زالت اللاحم المجتمعي الثقافي الوحيد لكل شعوب المنطقة التي تتمزق اليوم، لأنها ولدت بالضد من حالة القبيلة والانتماء العرقي الضيق وتجاوزاً لهما.

إنها كيمياء مجتمعية جديدة تتيح إنتاج معادلة سوسيولوجية متقدمة لكافة شعوب هذه المنطقة بتحولها النهائي من حالة القبائل (عربان وغير عربان) إلى شعوب في أوطان.

الحياة والطبيعة والتاريخ لا تقبل بالفراغ

لذلك أزعم أن الإصرار على معاداة فكرة العروبة وتجاوزها، كما أسلفت، في زمن التجمعات الكبيرة، بدون الالتقاء على بديل تاريخي حضاري كبير مواز لها كلاحم ثقافي سوسيولوجي لمجتمعاتنا، هو بمثابة الوقوف على حافة هاوية العدمية الكونية.
وقد أكون مخطئاً..



*كاتب من سورية

 

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.