}

إشكالية التجربة الناصرية: مقاربة سوسيو- ثقافية

معاذ حسن 13 فبراير 2018
آراء إشكالية التجربة الناصرية: مقاربة سوسيو- ثقافية
عبد الناصر على الجبهة

بين 15 كانون الثاني/ يناير 2018، الذكرى المئوية لولادة الرئيس المصري الأسبق (جمال عبد الناصر) و22 شباط/ فبراير 2018، الذكرى الـ60 لقيام الوحدة المصرية السورية، تكثر الكتابات والآراء والمواقف. وبعضها لم يتوقف منذ أعوام، وهو يُحّمل التجربة الناصرية الكثير من المسؤولية في مآلات الحال العربي الراهن في بلدان المشرق العربي وصولا إلى اليمن، بكل مآسيه وكوارثه، من حيث تأسيسها لكل أشكال الحكم الفردي الديكتاتوري المستبد في هذه البلدان، كما تزعم تلك المواقف والآراء.

السطور التالية محاولة لتقديم نظرة موضوعية هادئة لتلك التجربة ومرحلتها بما لها وعليها، من وجهة نظر سوسيو- ثقافية، أكثر من كونها رأيا سياسيا أو مقالًا في التاريخ الحديث.

ريادة التجربة الناصرية

يرى بعضهم أن تجربة جمال عبد الناصر هي تكرار أو استمرار بعد انقطاع طويل لتجربة محمد علي باشا في تحديث الدولة المصرية أثناء حكمه لها بين عامي 1805 – 1848م، ومن ثم توسيع رقعتها حتى بلاد الشام من خلال الحملة التي قادها ابنه إبراهيم باشا عام 1831م.

لكن بالعودة إلى التاريخ الحديث يتبين لنا أن تجربة محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا في مصر وسورية لم تقطع نهائيا مع مركز السلطنة بالرغم من الصدام العسكري بينها وبين الجيش العثماني بسبب أطماعه الشخصية بتوسيع أملاك حكمه في بلاد الشام وحماية مصر من النفوذ المباشر لتأثير السلطنة... حتى أن انسحاب جيوش إبراهيم باشا من سورية عام 1840 كان بتفاهم مع مركز السلطنة العثمانية من خلال تدخل الدول الأوروبية على أن يبقى حكم مصر لمحمد علي وراثيا إلى الأبد، له ولأبنائه وسلالته من بعده.

أما التجربة الناصرية التي بدأت مع حركة الضباط الأحرار بتاريخ 23 تموز/ يوليو 1952، فيمكن اعتبارها امتدادا أو استكمالا للثورة الشعبية العرابية المجهضة في مصر 1879 – 1882 نسبة لقائدها الضابط المصري الوطني المتمرد أحمد عرابي والتي كانت موجهة أساسا ضد الخديوي توفيق والتدخل الأجنبي البريطاني في مصر، في منعطف جيو- سياسي حديث ومختلف في مصر والدول العربية عموما، بدأ عشية انهيار الإمبراطورية العثمانية كلاحم قروسطي وحيد للمنطقة، وما نتج عنه من بداية يقظة للوعي القومي العربي كلاحم حداثي بديل.

لذلك كانت التجربة الناصرية في مصر أولا بمثابة ردة فعل جذرية بالمطلق ضد استمرار حكم أسرة محمد علي باشا المدعومة من أطراف أوروبية عدة، إلى ما لا نهاية، مما أدى بها للاصطدام مع القوى الدولية الكبرى في أوروبا، ومع مخلفات الاحتلال البريطاني لمصر الأمر الذي نتج عنه العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. عدا عن أنها جاءت على خلفية نكبة فلسطين وتأسيس إسرائيل عام 1948 بمساعدة تلك القوى الدولية الكبرى، الأمر الذي استنهض كثيرا مشاعر الوعي القومي العربي في الشارع المصري والعربي، وهو ما استجابت له بصدق حركة الضباط الأحرار بزعامة عبد الناصر حيث كانت مؤسسة الجيش في مصر وبقية العالم العربي هي المؤسسة الوحيدة المنظمة والقادرة على إحداث انقلاب أو تغيير مجتمعي.

كما أنها جاءت ردا على هوة مجتمعية سحيقة بين القصر وأعوانه والاحتلال الإنكليزي من جهة وبقية المجتمع المصري من جهة ثانية، نتج عنها تفاوت طبقي كبير في المجتمع المصري بين نخب قليلة تملك وتتحكم وبين شرائح واسعة وكبيرة من أبناء البلد الفقراء المحكومين من فلاحين و"ناس غلابة" من أبناء المدن.

إشكالية جمال عبد الناصر وتجربته

هكذا لم يكن أمام التجربة الناصرية، لكي تأخذ مشروعيتها السياسية والتاريخية، إلا أن تكون بمواجهة التغوّل الاستعماري الغربي في مقدرات مصر آنذاك، كما في مواجهة سلالة نظام خديوي وملكي قديم مستبد رغم واجهة ليبرالية شكلية تتمتع فيها نخبه السياسية المتحكمة فقط، بعيدا عن تخلف المجتمع وهموم الشارع ومتاعبه اليومية، بالإضافة لبعض النخب الفكرية والثقافية الليبرالية التنويرية فعلا، التي لم تسلم من مضايقات قوية ضدها (طه حسين وعلي عبد الرازق على سبيل المثال لا الحصر)، رافعة شعار التحرر الكامل من الاستعمار وتحقيق العدالة الاجتماعية مع محاولة تأهيل فكرة "القومية العربية" سياسيا كلاحم جديد لأبناء مصر وشعوب المنطقة العربية بنقلها من مستوى التنظير الفكري السابق لها قبل أن تنضج تنويريا وحداثيا في الوعي العام، إلى حيز الممارسة اليومية كشعارات حماسية متوهجة في الشارع. وربما كان هذا أحد الأسباب الهامة في خيباتها اللاحقة وتذرر جماعاتها حتى الانطفاء.

كل ذلك كان يتم دون أي سابقة ريادية له في تجربة التحرر الوطني أو القومي أو الاجتماعي في المنطقة كلها يمكن التأمل فيها والاستفادة من دروسها، وإنما باجتهاد سياسي ريادي محوره شخصية الزعيم المحبوب فعلا.

ولعله في هذه النقطة تتجسد الإشكالية في فهم شخصية جمال عبد الناصر، الزعيم والديكتاتور الذي تجمع أغلب الآراء سلبا أم إيجابا، على أنه صاحب تطلعات مجتمعية إنسانية وهموم وطنية وقومية تحررية نبيلة. لكنه يفتقد، كضابط في الجيش، إلى خبرة سياسية مع غياب تجربة رائدة سبقته كما أشرت.

إضافة إلى ذلك فإن الوعي العام في مصر والمنطقة عموما، التي كانت سوسيولوجيا مغلقة تماما على مركزية دور الأب في الأسرة كخلية أولى وأساسية في المجتمع ومن ثم تنميط ذلك على المجتمع والدولة، كان ما زال تحت تأثير فكرة البطل أو الزعيم أو القائد المحرر، حتى وهو يتحرر من سلطة الخليفة "أمير المؤمنين"، أو السلطان أو الملك. ولم يحدث قطيعة معه كما يحاول في أيامنا هذه، لأن ليبرالية النخب الشكلية و"العرجاء" إن صحت التسمية، لم تستطع أن تؤطر المجتمع ككل بثقافتها الديمقراطية الحداثية والتنويرية. لذلك كانت كاريزما شخصية عبد الناصر القريبة من القلوب بكل ما تضمره من مشروع تحرري نبيل للمنطقة، بمثابة جواب شاف لحاجة الرأي العام للزعيم الملهم في ذلك الوقت، من دون التدقيق أو محاولة التبصر فيما سيلي ذلك.

مفارقات التجربة الناصرية

ربما يتيح لنا تشخيص الإشكالية السابقة كما أسلفت، قراءة التجربة الناصرية بكل مفارقاتها بعيدا عن الأفكار المسبقة المتحيزة، مع أو ضد، بحيث نستطيع تفهم مجمل إنجازاتها وإخفاقاتها بعد وضعهما في سياقهما الصحيح دون تجن عليها أو تقديس لها.

فلا يستطيع أحد أن يتغافل مثلا عن إنجاز اتفاقية الجلاء العسكري البريطاني نهائيا عن مصر عام 1956، وتأميم قناة السويس في نفس العام، أو قوانين الإصلاح الزراعي وتطوير وتنشيط الاقتصاد المصري بتأسيس قاعدة قوية للصناعات الوطنية والتحويلية، وبناء السد العالي بين 1960 – 1970 بتكلفة أغلبها من مردود عائدات قناة السويس بعد تأميمها، وإطلاق دور المرأة بشكل واسع في المجال العام، ومجانية التعليم بكافة مراحله لكل فئات الشعب، وما نتج عن ذلك كله من ردم الهوة الطبقية السحيقة في المجتمع المصري، الأمر الذي فتح المجال لولادة الطبقة الوسطى لأول مرة في تاريخ مصر.

أيضا لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الدولي الحديث البارز لمصر، من خلال المساهمة النشطة في تأسيس منظمة دول عدم الانحياز في مرحلة الحرب الباردة.

أما على الصعيد العربي فلأول مرة في التاريخ العربي استطاعت التجربة الناصرية توحيد أغلب الشارع العربي واصطفافه تحت راية القومية العربية وحلم الوحدة العربية، بعد طول تمزق وتشتت منذ سقوط بغداد العباسية عام 1258م على يد المغول. وقد تم تتويج ذلك بتجربة الوحدة السورية المصرية التي دامت بين 22 شباط/ فبراير 1958 إلى 28 أيلول/ سبتمبر 1961.

لكن في مقابل هذه الإنجازات العظيمة حقا كان ثمة أخطاء جسيمة ترتكب وتتراكم حتى أدت إلى إخفاقات ونتائج كارثية، يتلخص أبرزها بالتالي:

1- تهميش وإلغاء دور الأحزاب السياسية والنقابات العمالية المستقلة، والتجربة البرلمانية بما اكتسبته من خبرات سابقة.

2- الإعلان عن قيام وتأسيس تنظيم سياسي رسمي واحد هو تحالف قوى الشعب العامل الذي تحول لاحقا إلى مهمة رقابية على المجتمع بدلا من دور المحرض على تنمية المجتمع وتطوير الاقتصاد.

3- تعزيز دور الأجهزة الأمنية (صلاح نصر) لضبط المجتمع والحياة السياسية الجديدة المفترضة، وما نتج عن ذلك من فتح السجون والمعتقلات للمعارضين وإرهابهم.

4- دمغ تجربة الوحدة مع سورية بختمها المصري الصرف على (الإقليم الشمالي؟!) أي السوري، كما تمت تسميته، دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية اللحظة التاريخية المجتمعية والسياسية للمجتمع السوري متعدد الثقافات والإثنيات والقوميات والطوائف الدينية، وتكونه الحديث الذي كان في بداية طور الاندماج من كل هذا التعدد الخارج من العباءة الفضفاضة والواسعة لخلافة الإمبراطورية العثمانية المنهارة، بالضد مما كان عليه المجتمع المصري الموحد في دولة واحدة منذ مئات السنين، الأمر الذي كان أحد الأسباب الهامة المسؤولة عن إخفاق تلك التجربة وانتكاستها النهائية.

وفي المحصلة يمكن القول إن إشكالية جمال عبد الناصر وتجربته هي انعكاس لإشكالية اللحظة التاريخية والمجتمعية الجديدة والحرجة التي كانت تتكون حديثا لعموم المجتمعات العربية، التي أنتجت تلك التجربة وهي تتطلع نحو المستقبل الحديث من دون أن تحسم أمرها جيدا مع ماضيها القروسطي القديم الذي ما زال يحضر ويعود بقوة حتى اليوم. ولذلك فهي ما زالت تنتج حكاما طغاة بأشد وأقسى وأكثر دموية بما لا يقاس مما كان عليه جمال عبد الناصر كـ"ديكتاتور" كما يحلو لبعضهم تسميته، والفرق كبير وواسع جدا بين الزعيم الفرد أو "الديكتاتور"، والطاغية المستبد الذي بنى على تجربة الديكتاتور بعد أن قطع نهائيا مع إنجازاتها الكبيرة، ولم يأخذ منها إلا نظامها الأمني ليطوره ويتغول من خلاله في استبداده هو ومافياوياته السلطوية والمالية. 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.