}

وحش بثلاثة خطابات

فراس سعد 2 أبريل 2017
آراء وحش بثلاثة خطابات
لوحة للفنان الروسي كزما بيتروف فودكين (Getty)
على خلاف ما يقوله المفكر المغاربي محمد أركون أو توضيحًا لما يقصده على الأغلب، لا يعطل الخطاب التاريخ إلا بقدر تحوله إلى أيديولوجيا، فالخطر ليس في الابتكار الفكري مهما كان، لكن الخطر في تحول الخطاب إلى عقيدة لها أظافر أو أجنحة تسرق بواسطتهما العقل الجمعي، فتمنعه من الاشتغال، أو تحتجز النفوس خوفًا وترهيبًا.

لا يوجد في العالم الآن خطاب مباشر يتوجه للجماهير سوى الخطاب الإسلامي، لا يوجد مثلاً خطاب مسيحي مباشر شعبي على شاكلة الخطاب الإسلامي، موجه للمسيحيين من قبل رجال دين مسيحيين يعتلون منابر الكنائس، أو منابر اليوتيوب، كذلك لا يوجد خطاب يهودي موجه لليهود بنفس الطريقة سالفة الذكر.

إذا كان الخطاب المباشر الوحيد، الواضح، في العالم المعاصر، هو الخطاب الإسلامي، وهنا المشكلة، فهذا الخطاب تتحكم به قوى سياسية ومالية، وحتى استخباراتية أحيانًا، وبتقديرنا أن هذا الخطاب على هيئته الحالية وفي كل تجلياته سيذهب بالعرب إلى الاستعمار المباشر الخارجي بأشكال جديدة، أو سيذهب بهم إلى الفناء.

لكن لماذا نذهب إلى هاتين النتيجتين؟

في الإجابة سنستعير مفهوم هيغل حول وعي السيد لذاته وتبعية العبد، لنقول إن الخطاب الإسلامي السائد هو خطاب تجهيل وتعمية، بل تعميق للجهالة، خطاب يستعيد خرافات القرون الوسطى، كأن العالم توقف هناك، وبهذا فهو، أي الخطاب الإسلامي الحالي يؤدي إلى المتاهة أو الضياع أو امتناع الوعي، بحيث لا يمكن استعادة الوعي إلا بعد الخروج من سيطرته أو الفكاك من سطوته.

لكن الفكاك من سطوة هذا الخطاب المعيق للتاريخ العربي بحق لا يعني أن العربي أو العرب عمومًا سيصلون إلى وعي الذات، فالمشكلة المزدوجة هنا أننا أمام مصادرة أخرى للوعي تتمثل في الخطاب الغربي أو التأثير الإعلامي الثقافي للسيد الغرب الذي يسيطر على من تبقى من العرب المفلتين من سطوة أو تأثير الخطاب الإسلامي، بحيث أننا كعرب نواجه غياب الوعي في كلا الجهتين، والوعي الوحيد الممكن لنا هو "وعي" السيد المسيطر، أي الغرب، وهو ما يوهم بعضنا أننا نملك وعيًا. والحقيقة أن سطوة السيد الغرب على وعينا لا تقل ضراوة عن قوة وسيطرة الخطاب الإسلامي، وكلا الخطابين يغيّبان أي إمكانية للوعي العربي، بحيث أصبح العرب اليوم شعوبًا غائبة عن الوعي، وربما تستحيل إمكانية امتلاكها لوعي ذاتي، لغياب أدوات الوعي.

الخطاب الثالث وهو أشبه في مباشرته بالخطاب الإسلامي هو خطاب النظام العربي، وهو خطاب مفوت، يعتمد ثيمة قديمة أساسية هي ثيمة الممانعة والمقاومة ضد إسرائيل، بغاية تضليل الشعوب العربية وإلهائها عن العدو الحقيقي، الذي ينهبها ويعيق حياتها الطبيعية ويمنعها من التفكير والتقدم. لكن الشعوب العربية أدركت متأخرة أن عدوها الحقيقي ليس سوى الأنظمة العربية الحاكمة. بالطبع فهذا الخطاب الثالث أي خطاب النظام العربي بات مفضوحًا ويتراجع تأثيره يوماً بعد يوم.

لقد خرقت الشعوب العربية الخطاب الإسلامي وخطاب النظام العربي، ففجرت الربيع العربي، رغم القمع الوحشي واستراتيجية الإلهاء التي تحسن الأنظمة العربية تطبيقها على شعوبها.

أفلس النظام العربي أمام الربيع العربي، وهو إذ أدرك إفلاس خطابه استجار بالخطاب الإسلامي، يعيد شحنه من جديد، فيدخله في صميم الإعلام السياسي للربيع العربي، فيستولي على خطابه السياسي، وبالتالي يحدث الانقلاب على الربيع العربي من داخله. هذا ما حدث في مصر وانتهى سريعاً لكن إلى عودة ديكتاتورية بشعة سافرة، وحدث في ليبيا ذاهبًا بها إلى حرب أهلية قبلية، ويحدث في اليمن على شكل صراع مذهبي إقليمي، وكذلك يحدث في سورية على شكل تورط عربي إيراني تركي يغذي صراع تيارات إسلامية ومذهبية.

لكن الصراعات العنيفة التي تشهدها دول الربيع العربي؛ سورية ليبيا واليمن، ليست في اعتقاد البعض سوى محاولة السيد الغرب تطويع العبد العربي الذي حاول التمرد عليه وعلى وكلائه الديكتاتوريين، ما يجعل الشعوب العربية الثائرة تعيش تحت وطأة خطابات ثلاثة، كوحش برؤوس ثلاثة، يبدو أخطرها الخطاب الإسلامي ليس لقدرته على التجدد ولكن لعجز الشعوب العربية حتى الآن عن الإفلات من سحره، والربيع العربي يبدو لذلك على غاية قصوى من الأهمية لأنه يمثل المحاولة الأولى لهذه الشعوب للإفلات من هذا الخطاب السحري.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.