بعد امتحان الربيع العربي، وكما يقول أحد الباحثين، بات المثقف موضع إشكالٍ بعدما كان حلاً للإشكال، وأضحت قضاياه مطروحةً على الساحة الثقافية والفكرية، بل السياسية بشكلٍ أوسع، وبالخصوص في هاته المرحلة التي تشهد تحولات سياسية أثّرت أو تأثّرت بالمثقف باعتباره فاعلاً أساساً في قضايا السياسة والفكر. وفي هذا السياق، يأتي المؤتمر السنوي الرابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات في المغرب 19 آذار/مارس الجاري، ويخصص أحد محوريه لمعالجة "أدوار المثقفين في التحولات التاريخية" فرصة لإغناء المكتبة العربيّة بدراسات أكاديمية جادة ورصينة تتناول ظاهرة إشكالية في الماضي والراهن والمستقبل.
من هو المثقف؟
ليس ثمة تعريف واحد أو محدد للمثقف، بل تعاريف مختلفة ومتعددة تختلف باختلاف الزمن، والوظيفية، نظرته لنفسه ولدوره، والانخراط في الشأن العام. ففي العصور الإسلامية السالفة، ومع وجود لفظ " ثقّف" في اللغة العربية بمعناه الدلالي، فإن مصطلح "المثقّف" في عصرنا كان يشير إلى "الفقيه" المهتم بالعلوم الشرعية والدينية تمييزاً له عمن يكتب الشعر والأدب، أو المهتم بالعلوم الدنيوية. وغالباً ما كان يجيّر هذا المصطلح للدلالة على علماء السلطان وناصحيه من دون أن نغفل وجود نماذج مختلفة لشخصيات شكّلت استثناءً، لما يمكن أن نطلق عليه مجازاً "القاعدة السابقة". كالمعري وابن رشد اللذين كانا من أهلم العلم بعيداً من السلطان وحاشيته، أو ابن حزم وابن تيمية اللذين لم يقتصر اختصاصهما، كفقيهين، على العلوم الدينية.
وفي أوروبا وخلال القرن التاسع عشر، كان مصطلح "intellectual"، وترجمته العربية "المثقف" يطلق على العاملين في الشعر والأدب تحديداً، الذين اتخذوا مواقف من الشأن العام. ثم تطور المعنى الدلالي للمصطلح لاحقًا ليشير إلى من يتخذ مواقف "نقدية" تجاه الواقع القائم، وهما ما فرض التمييز بين "المثقف" و"المثقف التقني" أو "الخبير" المهتم في اختصاصه الدقيق من دون الانخراط في الشأن العام.
بعد الحرب العالمية الثانية، اشتهر مصطلح "المثقف العضوي"، الذي أطلقه الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي. يرى غرامشي أن "كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني، لكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، وهي وظيفة لا يمتلكها إلا أصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس". وما يميز المثقف العضوي عن التقليدي أنه يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته ويناضل من أجل طبقات الكادحين والمحرومين، في حين ينأى الآخر بنفسه عن هذه الهموم، ويعيش في برجه العاجي منعزلاً. ويعتقد غرامشي في كتابه "دفاتر السجن" أن الحزب الثوري هو الوعاء أو الإطار الذي يضمن تكوين طبقة جديدة من المثقفين العضويين الذين يشكّلون هيمنة بديلة عن الهيمنة الرأسمالية. مقابل النظرة الشمولية أو الحزبية لغرامشي عن المثقف، يرى جوليان بندا في كتابه "خيانة المثقفين" أن المثقفين "عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي القدرات أو المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة"، ويضيف أنهم يشكِّلون "طبقة العلماء والمتعلِّمين البالغي الندرة، نظراً لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقِّ والعدل".
وبين التعريفين السابقين، يرى إدوارد سعيد في كتابة Representations of the Intellectual أو كما ترجمه محمّد عناني "المثقَّف والسلطة"، أنَّ حقيقة المثقَّف الأساسية أنَّه فريد "يتمتَّع بموهبة خاصة" يستطيع من خلالها حمل رسالة ما أو تمثيل وجهة نظر معينة، فلسفة ما أو موقف ما. وأن ذلك "الموهوب" هو الذي يقوم علنًا بطرح أسئلة محرجة في المسكوت عنه وأنه يمثل المسكوت وأنه الشخص الذي يصعب على الحكومات أو الشركات استقطابه.
ومع الميل السابق لتحديد ماهية المثقف وحصر أدواره يقدّم د. عزمي بشارة في دراسته المنشورة في مجلة "تبيّن" للدراسات الفكرية والإنسانية "عن المثقف والثورة" تعريفاً أوسع لما يسميه "المثقف العمومي"، وهو صاحب الثقافة الواسعة الذي يكتب وينتج بلغة مفهومة للعموم عن قضايا تهم المجتمع والدول بشكل عام، وقد تتوسط أحياناً بين البحث العلمي وجمهور المستمعين والقرّاء، إذا توافر فضاء تواصلي عقلاني. كما أنه يساهم في هذا الفضاء من منطلقه، ولا تخلو مساهمته من مواقف.
ما المطلوب من المثقف؟
للمثقف رمزية معرفية وحظوة ومكانة مجتمعية، ولدوره أثر بالغ في التحولات الاجتماعية والتاريخية الكبرى، سلباً أو إيجاباً، وثمة من يراه "ضمير" الأمة ومرآتها عندما ينخرط في الشأن العام، ويساند تطلعات الشعوب لحياة أفضل.
إن ما تمر به المنطقة العربية اليوم، من مرحلة تحول تاريخية كبرى، وإن كانت لم تستقر بعد، ولم تتوضح جميع معالمها، وهذه المرحلة مصيرية، بل ربما تتجاوز في تفاعلات أنساقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية مرحلتي تحوّل رئيستين في تاريخ العرب الحديث، الأولى؛ نهاية الحرب العالمية الأولى، والانفصال عن الدولة العثمانية إلى نظام الدولة، والثانية؛ بعد الحرب العالمية الثانية، وزوال الاستعمار والانتداب في المنطقة العربية، وتأسيس دول قطرية عربية. إن الدول والمجتمعات العربية في مرحلة التحول هذه، تواجه أسئلة إشكالية كالمواطنة والتنمية والاندماج الاجتماعي والحرية والديمقراطية والاستقلال، والحركات الجهادية، وهو ما يفرض على المثقفين العرب هجر "الحياد"، أو الاكتفاء بطرح الأسئلة والانخراط بشكل أكبر في الشأن العام وهموم الأمة وقضاياها، في محاولة لتصويب وتوجيه طاقات الشباب التي فجّرت الثورات وتاهت في ما بعدها. ويجب ألا تتوقف مساهمة المثقف عند شرح الواقع وتفهّمه بل اجتراح حلول إبداعيّة يمكن البناء عليها. ونعني بالإبداع هنا، الاستقلال الفكري بكامل أبعاده، بحيث يغدو النتاج الفكري للمثقف معلماً جديداً من معالم ثقافته في ماضيها وحاضرها وركناً أساسياً من أركان تشييد مستقبلها تشييداً ينطق بالجدة والتناسق، وتسكنه شمولية الحياة وتكامل عناصرها.
الفراغ الذي تركه المثقف خلال ثورات الربيع العربي كان له بالغ الأثر، وأحدث موقفه "المحايد" أو المنحاز للأنظمة تأزماً مع الجمهور المتعطش والباحث عن مرشد وموجّه، فتراجع دوره أمام "شيوخ"، و"فقهاء" واكبوا الحراك، ودعموه، وغدا تأثيرهم كبيراً لدى شرائح شعبية واسعة، وهو ما أدّى إلى انزياح الثورات في بعض المواقع والأماكن عن شعاراتها الجامعة بالحرية والكرامة والديمقراطية، لمصلحة شعارات دينية أو فئوية أو حزبية أو إثنية أو عرقية.
إن إعادة تأهيل الجمهور وتوجيهه يفرض أولاً إعادة تأهيل النخبة المثقفة لذاتها، وإعادة تقييم الأداء في المراحل السابقة وتجاوز الأخطاء، والانطلاق نحو مرحلة جديدة تطرح فيها الأسئلة الإشكالية السابقة من دون مواربة أو اجتزاء، وتقدم حلولاً ومقترحات آنية ومستقبلية، بما يساهم في بناء دولة المواطنين بعد عقود من الاستبداد.