}

في البيتِ الذي كان بيتي

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 21 مايو 2024
شعر في البيتِ الذي كان بيتي
(فتحي غبن، فلسطين)

 

في البيتِ الذي كان بيتي...

تركتُ بُقَّ الماءِ للعُصْفورةِ الصغيرة...

تركتُ النوافدَ مفتوحةً

تركتُ فوقَ الجدارِ بَصْمتي الأخيرة

حفظتُ مثلَ آياتِ الكتابِ كلَّ خيطِ عنكبوت

فالبيتُ الذي كان بيتي لا يُشْبِهُ البيوت

ليس فيه الحُرقةَ التي تَنْبتُ من زوايا الخِيَام

وحينَ أُناديهِ يَرُدُّ السلام

من قال إن البيوتَ صرخةٌ من رُكام؟

من قال إنّها لا تحفظُ المعروف؟

لا تكْتُمُ أسرارًا جارحةً بينَ الرُّفوف؟

لا تستر فقرَنا... قهرَنا... ضعفَنا...؟

أنّاتَ خوفِنا على أمهاتِنا حين يَنَمْنَ قَبْلَ أنْ تكْتَمِلَ الحِكاية؟

في البيتِ الذي كان بيتي دَفْتَرُ رَسْمٍ قديم

في صفحةٍ ضائعةٍ مِنْهُ خَبَّأتْ شقيقتي ديونَ صاحبِ الدُّكان

ريشةً من عصفورِنا... عصفورِها... تُشْبِهُ الظِّلَ الذي تحتَ النافذة... الظلَّ الذي تركتْه هناك... كي لا تنسى الولدَ الضائعَ في الحارات...

في البيت الذي كان... مائدة...

لَيْسَتْ وَثيرة...

ولا مُستديرة...

طبقُ القَشِّ فوقَها... وآيةُ الكرسي...

تَحْتَها حصيرة...

جرعةٌ من حِصَّةِ النوستالْجيا التي لا تموت ولا تنتهي ولا تندثِر...

حولَها نحن: سبعُ بنات وتسعةُ أولاد...

تحفظ أمي نَبْرَةَ أكاذيبِنا ولا تتوقَّفْ... كثيرًا عند أسمائِنا...

أبي لا يأتي حين يأتي من معسكرِ الجنود...

كأنَّ أقحوانَ روحِهِ يبْقى في كلِّ يومٍ هُناك...

كأنَّ الطابورَ يَفْرِضُ هَيْبَتَهُ داخلَ عينيه...

كأنّه ضاعَ في الفرقِ الجوهريِّ بين البيتِ والثَّكَنَة...

كأنَّ حَبَّاتِ فَجْرِ النَّدى طَبَعْنَ الهديرَ فوقَ حذائِهِ المصْقولِ بالثَّباتِ والحُبور...

كأنَّ صورةَ أبيهِ ذَبُلَتْ في جيبِ الصَّدْرِ النَّابِضِ دقَّاتِ قلْبٍ قديم...

كأنَّه يعرفُنا ولا يعرِفُنا...

كأنَّ العِقالَ تحْتَ الكوفيَّةِ والأرضَ لا تدور...

كأنَّ التّيهَ مَحْضُ داليةٍ تهاوتْ في النَّبيذ...

كأنَّ اللهَ خبَّأَ بيْتَنا وأسْوارَ وعيْنِا لِيَومٍ مَطير...

كأنَّ السَّقْفَ ضريرٌ والخوْفَ بصيرٌ

والشِّقَّ الطالعَ من عينِ البابِ نضير...

يا لأيامِ بيتٍ بعيدٍ في الذاكرة...

يااا لأغنيةٍ لم تَزُرْ كندا...

يا للسَّعفِ الذي طارَ مِنْهُ النَّخيل...

يا لِلْحَبَقِ المرْكونِ عِنْدَ عَتْبَةِ الدَّار...

تستفيقُ الحكايةُ من جديد...

يجْتَمِع العواجيزُ عند الزاويةِ اليوميةِ نَفْسِها...

يستعيدونَ الأمجادَ نَفْسَها...

يحركونَ الحجارةَ نَفْسَها...

يتّكئونَ على العواكيزِ نَفْسِها...

يسْتجمعونَ بؤْسَ تركيزهِم فتهربُ من نواطيرِ حقولِهم قيثارةُ المَها... لا الرصافةُ تنفعُهم ولا لأخشابِهم جِسْرُ...

فمن أين جاء الصوتُ الذي يُشْبِهُ التَّابوت: أمطري حيث شئتِ؟

يا بيت طفولتي هل أمطرَتْ؟

هل عاد عليُّ من جُرْعةِ الآهِ في العظامِ الهَشّةِ المريضة؟

هل نامت شهرزاد؟

هل أخفى أحدُهُم عورةً مِن يزيد؟

هل ما يزال لونُ البابِ مثلَ النَّرْدِ في عينِ السحاب؟

هل فاقت أمّي التي نامت قَبْلَ أن تكتملَ الحكاية؟

كان أبي هناك في البرزخ الذي يستريح في أفيائه السابقون...

كأنّه ينتظرها...

كأنّها سمعت سَعْلَتَهُ التي كانت تَسْبِقُ كاحليه...

كأنَّ الجيرانَ بِكُلِّ أغْمازِهِم وألْمازِهِم

وشتَّى منابِتِ أصْلِهِم وَفَصْلِهِم لوَّحوا لنا...

اشتروا صفحتيْنْ... جديدتيْنْ... من قصَّةِ أيامنا...

كأنهم تقاسموا سُدَّةَ البيت ومَنْشَرَ الغسيل...

كأنَّ الشارعَ الصغيرَ الذي لا يتسع لسيارتينِ لم يعُدْ ملْعبًا لِلصِّغار... كأنَّ المخيمَ صار رُقْعَةً تَحْمي سَقْفَ السَّماء...

كأنَّهُ مُتْخَمٌ بِالوَرَمْ.

أَعْرِفها تلكَ الرَائحة...

أَفْهَمُ لَحْنها وَأَحْفَظُ مِلْحَها وَأَسْتَديرُ عن شُبْهاتِها بِالرَّغيف...

خُبْزُنا الحافي... دَكَّةُ اِحْتياطِنا في الملعبِ الورْدي...

قِنْديلُ لَيْلِنا...

هل كانت بيضةَ الدِّيكِ يا أمَّ علي تلكَ التي حَرَّقْتِ أصابعي مِن أجلِها؟ هل كُنّا صغارًا أَمْ كُنّا لصوصًا أَمْ أنَّ الحياةَ هِيَ المُعْضِلَةْ...

تَقْبَلُ الوَجْهيْن... وَلا تَتَرُكْنا ننامُ على الجنْبِ الذي يُوجِعُنا؟

البيتُ الذي يقلِّبُ حيرَتي لم يعُد بيتي... صار بيتَ الآخرين...

حَمَلْنا مَعْنا الألْبوم فلَم يعُدْ بيتُنا لَنا...

قال لِيَ الصّغير الذي سبَقَ الآخرَينَ لِاحْتلال بيتِنا:

"انْزعْ الصُّوَرَ واتْرُكْ الألْبومَ لَنا"...

سألتُ أمِّي: كم ثمنُ الأُلْبوم؟

سألتُ مَعْنايَ في مِعْراجِ الوَعْيِ الذي لَمْ أَكُنْه:

"هل يستحقُّ الأُلْبومُ أنْ لا نشتريهِ مِن بائعِ العنْبر؟"...

تراكمت ديونُ أبي وظِلالُ تنقُّلي بينَ السَّهْمِ والوَتَرْ...

بِعْنا البيتَ الذي لم يَكُن لَنا... الذي لم نشتريهِ في موسمِ المَزاد الكبير... لا لَمْ نَبِعْه... جاء البَنْكُ... جاءت الشُّرْطَة... وجاء الشامتون...

نجوى ركضت نحوي... سألتْ عيونُها... سالَ دمعُها... نادت أمَّها... ثارت أمُّي... صَرَخَ الحوت... فارَ الماءُ في البَكْرَج...

خَرَجَ السّيفُ الذي لم يَسْبِق العَذَل...

لَسْنا في سباقِ المسافاتِ الطويلة... حيث النِّهاياتُ شِيَاهُ البِدايات...

سالَ دمعُها... نادت أمَّها... جاعت أمّي...

جئنا بابْنِ السبيل...

في عينيه قهرُ اليتيمِ وَخَوْفِهِ من جوعِ الأمَّهات...

صَرَخَتْ نَجْوى... فَانْفَلَقَ البَحْر من كَرْشِ الحوت...

هل مِن مَزيد؟

لا مَزادَ مِنْ دونِ مُزيد...

لا بيعَ في سوقِ الأحَد...

لا مناشيرَ تحتَ عينِ العَسَس...

لا مراجيحَ في العيدِ البَعيد...

الأطباقُ تَحْجِبُ شَمْسَ عَمّان...

الدَّكاكينُ تُغْلِقُ الأبْوابَ من أجلِ فَتَاةِ الإِضْراب...

أيُّ بيتٍ هذا الذي يَسْتَدِرُّ كلَّ هذا الكلام؟

أيُّ حيطانٍ وَأَحْزانٍ وَنَمْليَّةٍ بِلا زيتٍ ولا مُونَة للخريف؟

أيُّ عَطْفٍ نرْجوهُ من مُختارِ الشَّتات؟

أيُّ حِبْرٍ لا يَجِفُّ حينَ لا ينتهي المَدَدْ... ولا يَنْحَني المَدادْ؟

في البيت الذي كان بيتي، سجِّلوا عندَكُم:

بُقُّ الماءِ ماتَ ولمْ يُخْبِرِ العُصْفور.

العُصْفورُ ماتَ فَوْقَ إِطْلالةِ الشُّباك.

الشُّبّاكُ ماتَ تارِكًا ظِلَّهُ فَوْقَ وِسَادَةِ أُمّي.

أمّي ماتتْ... فَماتتْ الحِكايةُ والبِدايةُ والنِّهاية.

أَبي وَحْدَه...

في البَرْزَخِ الضَّائِعِ بينَ مُعَسْكَرِ الطَّابور

وَبيْتِنا الذي ماتَ في دَوَّامَةِ التَنُّور.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.