}

باسم فرات في آوتِرُوّا

صدام الزيدي صدام الزيدي 7 أبريل 2024
في كتابه الصادر حديثًا "نيوزلندا: رحلات في بلاد الماوريين"، يأخذنا الشاعر والرحالة العراقي، باسم فرات، في رحلة تجوب بلاد "آوتِرُوّا"، وهو الاسم الماوريّ لزي الجديدة: نيوزيلندا.
يفيد فرات بالقول إن رحلته الموثقة في كتاب تزيد صفحاته عن 250 صفحة (منشورات أبجد ـ العراق)، خاضت غمار بلاد الماوريين (طولًا وعرضٌا)، حيث لم يكتف بزيارة المدن الكبيرة والبحيرات والموانئ والجبال، وإنما أوغل في التفاصيل، وزار أماكن لا يفكر في زيارتها إلا قلة من الناس، ومعظمهم من عشاق الغابات، أو الطيور، ومستعمرات الطيور، والمرافئ والخلجان، والمحميات، وغير ذلك.
وثمة بصمة واضحة يتميز بها كتاب فرات، تمثلت في التوغل في أعماق تاريخ ما يسميها بلاد الماوريين (نيوزلندا/ زي الجديدة)، وعادات سكانها القدماء وتقاليدهم ومعتقداتهم، مكتفيًا بمختصرات في ما يخص دقائق الثقافة الماورية، من لغة وأساطير وعقائد وعادات وتقاليد. وسيلاحظ القارئ أن ثمة روابط بين تلك الأساطير والعقائد الماورية، وبين أساطير وعقائد العراق القديم، بل والمنطقة العربية.
يهدي فرات كتابه الجديد (وهو الثاني عن نيوزلندا) إلى زوجته النيوزلندية "جينيت"، شريكة الترحال والمغامرات وحبّ المعرفة، لكنه يعود ليأسف بأنها غير قادرة على قراءته، لكونها لا تجيد اللغة العربية، ولا يمكنها حتى قراءة الإهداء.
وثمة، أيضًا، "ماهوتا الماوري"، الذي قدم معلومات وبيانات مشيرًا إلى أرقام وشواهد تاريخية عن بلاد الماوريين، وكان لا بد من الاستعانة بجينيت في عملية تدقيق المعلومات التي أفاد بها.
والأمر الذي شجع على جمع مدونات ويوميات ومعلومات الكتاب وإخراجه إلى النور، يعزوه فرات إلى الحماس الذي أبداه ماهوتا عندما تم إخباره بصدور الكتاب الأول عن نيوزلندا، الذي حمل عنوانًا شاعريًّا بعض الشيء: "لا عشبة عند ماهوتا"؛ فبعد نشره، أخبرت السيد ماهوتا بالأمر، يفيد فرات، وأنه تم ذكره في ذاك الكتاب، وربما يكون قد ذكر لأول مرة في كتاب بالعربية، فوعدني مستقبلًا أن نلتقي، وسيكون عونًا لي على تأليف كتاب ثانٍ عن بلاده "آوتِرُوّا"، واستغرق الأمر أكثر من ستة أعوام لصدور الكتاب.
وبخلاف منجزه في أدب الرحلات الصادر في كتب، لا يخفي فرات غبطته بإصدار كتابه الثاني عن نيوزلندا، مستندًا إلى كمّ وفير من المعلومات والمعارف والصور والزيارات في بلاد يؤكد أنه وطئ معظم معالمها. زد على ذلك أنه يقيم فيها، ويحمل جنسيتها، وبالتالي توفرت لديه معارف ومعلومات عنها أوسع مما يعرفه عن سواها من البلدان التي زارها، بعد أن تجوّل فيها، وكتب عنها. فنيوزلندا تختلف عن غيرها، ذلك لأنه صار مواطنًا فيها بوثائق قانونية، وتهيأت له الفرص على نحو واسع ليتعرف على لغة البلاد وجغرافيتها وتاريخها ومجتمعها وثقافتها.
لا تخفي سطور الكتاب شعور فرات بالامتنان لنيوزلندا، كرد للجميل، فهي البلد الذي منحه جنسية، ومنحه امرأة شاركته في السرّاء والضراء، وآمنت بمشروعه الإبداعي، بل وعملت معه بصفة مساعد باحث ورحال.
ويتطرق الكتاب إلى موضوع مهم للغاية هو موضوع "مساعدات العاطلين عن العمل"، وهي التسمية الصحيحة لما تقدمه حكومات بلدان اللجوء والهجرة للاجئين والمهاجرين، مع توفير سكن حكومي لا يسكنه من أهل البلاد سوى الفقراء والعاطلين عن العمل والمرضى وغير الناجحين في حياتهم، وكثير منهم من المدمنين.
ويخصص الكاتب حيّزًا كبيرًا ضمن الجزء الثاني من الكتاب لموضوعات هي أقرب لروح علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، والكتاب في المجمل هو نتاج عشرات الرحلات التي قام بها فرات على مدى سنوات إقامته في نيوزلندا، ثم عودته إليها بعد جائحة كورونا، في مناطق وجزر مختلفة يؤرخ للبدء بجمعها في كتاب ثان، في يونيو/ حزيران من عام 2020.
وتتموضع مواد وترحالات الكتاب بلغة شيقة سهلة على قارئها بعيدة عن اللغة العلمية الجافة، لتقدم ملمحًا كافيًا عن بلد ليس معروفًا بشكل واسع في ثقافتنا العربية، أما سكانه الأقدم فعدم معرفتنا بهم تكاد تكون بنسبة كبيرة جدًا.
ويجد الرحالة نفسه متصالحًا مع كل الأماكن التي زارها وتعرف إليها، ممعنًا في البحث في جذورها وتاريخها، عادًّا ذلك التصالح نوعًا من الوفاء للمكان وللمجتمع اليوزلندي، لا سيما المجتمع الماوري، ولذلك أوغل في اكتشاف المكان والتاريخ والغابة والريف على السواء.
وثمة أسطورة ماورية للخلق ينقلها فرات لقارئه تقول: لأن الإله "السماء" (رانغي)، والإلهة الأم "الأرض" (بابا) ـ والباء أعجمية هنا ـ، كانا ملتصقين، كان جسداهما في عناقٍ أزليّ، لهذا كان العالم يغطّ في ظلام دامس، وبعد أن كبر الأبناء الآلهة بدأوا بالتململ ومحاولة الخروج، أحدهم وهو (تو ـ ماتاوِنا) اقترح قتل الإلهين الأب والأم، لكن (تانَه ماهوتا) إله الغابات والطيور رفض بشدة، وقام بفصل جسدَي الأب (السماء) والأم (الأرض) فانتشر النور في كل مكان، واستطاعوا رؤية أمهم وجمالها، وقرروا تغطيتها بكساء، فكان هذا الكساء هو الغابات والطيور والأنهار والجداول، وكل ما في الطبيعة. ثم فكر تانَه ماهوتا أن يغطي جسد أبيه مثلما فعل مع أمه، ثم ذهب بعيدًا لزيارة أخيه "أُرو"، وفي حين كانا جالسين أعلى الجبل، أخبر ماهوتا شقيقه أنه قام بكساء أمه، ويريد أن يكسو أباه، وإذا بهما ينظران إلى الأسفل فرأيا شيئًا يلمع يلعب في الرمل، ناداه "أُرو" ووضعه في سلة وأعطاه لماهوتا، ذهب الأخير إلى أبيه، فوضع أربع نجوم في زوايا الأرض، ثم وضع خمس نجوم فوق صدر أبيه، ووضع البقية على ثوب أبيه، ومنذ تلك اللحظة أصبحت السماء مضاءة بالنجوم.
ولن تتوقف الأسطورة عند ذلك، بل على القارئ أن يواصل بشغف التعرف إلى تفاصيل أخرى متواترة ضمن رحلة موازية لاكتشاف بلاد تتوارى وحيدة في الماء في أقصى جنوب شرق الكرة الأرضية، وشعبها الذي يشهد ولادة أول شروق للشمس في صبيحة الأول من يناير/ كانون الثاني من كل عام. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.