}

على أرضٍ هي هُنا

حيدره عيده 30 أبريل 2024
شعر على أرضٍ هي هُنا
نزار الحطاب، سورية

 

I

على أرضٍ،

حيث تُعْدَمُ كلُّ قوانينِ الجغرافيَا،

وتنهارُ عندَها الخرائطُ ممزِّقَةً نفسَهَا

كان أننا ننبضُ بألمِ الثّمالَةِ.

على أرضٍ لا فرقَ هُنالكَ بين سهلٍ وجبلْ

ما دامَ لونُ العشبِ يتموَّجُ موحَّدًا

بشمسٍ واحِدَهْ

تضيءُ للماءِ الأخيرِ طريقَ التَّبخُّرِ:

كُنْ يا ماءُ

أكثرَ من مجرَّدِ كونِكَ ماءً؛

فأنتَ هاهُنا الوحيدُ الَّذي

يملكُ هويَّةَ الفِعلْ.

 

II

على أرضٍ هي هُنا؛ نحنُ هُنا.

نصرخُ ممزَّقينَ: هلْ مِنْ سامِعٍ لأصواتِنَا؟؛

فنحنُ هُنَا؛

نحنُ موجودُونْ.

نقيمُ ملاجِئنَا الرِّيحيَّةَ في هذي البقعةِ من الكوكَبْ؛

لا هُويَّةَ لنا سِوى اللَّاهُويَّهْ

إنَّنا النَّازحونَ تحتَ أسقفِ شقَقِنا العالية؛

غرباءٌ على الطَّعامِ الَّذي نأكلُ

دخلاءٌ على الهواءِ الَّذي نتنشَّقُ،

ولاوعينَا مثْلَنا لاجِئُ في أرضِ الفِراشْ

لا يجرؤُ القولَ: أنا أنا؛

سجنُ الأبديَّةِ لَهُ نقطَةٌ

ندورُ بِهِ حولَها،

كأنْ كلبٌ يحجُّ دائرًا حولَ طريدَتِهِ: لا تَمَسَّهَا؛

فلحظةُ الذُّروةِ أكثرُ مراحلِ الشَّهوةِ بدَدًا.

 

III

لم يبقَ في مسدَّسِ الوقتِ

سوى طلقةٍ واحِدَهْ؛

أصوِّبُ على صورةِ رأسي على المرآة:

بلادي تبتلعُ نفسَها.

أخجلُ أنْ أقولَ بلاديْ

فليسَ لي منهَا إلَّا سجلُّ جريمَةٍ تنادينِي:

لا خيارَ آخرَ لكَ،

أنا خيارُكَ الأخيرْ.

 

IV

أنظرُ إلى البيانو بحسْرَةٍ:

على منْ أكذبُ؟!

لنْ أكملَ هذهِ القطعَةَ الموسيقيَةَ كعادَتِي؛

فالمستمعُ الأخيرُ في داخِلي

بعدما استمعَ إليَّ أعزفُ قدَّاسَ جنازَتِهِ،

ماتَ من فورِهِ قبلَ أنْ يُصَفِّقَ؛

عشقًا لسيرَةِ كتبتها لَهُ:

يُحكَى أنَّهُ كانَ يُضاجِعُ نفسَهُ كُلَّ مساءٍ

مِنْ فرطِ التُّقَى.

آمُلُ ألَّا يكونَ هنالِكَ:

"عالمُ ما بَعْدَ الموتْ"؛

لا أجرؤُ النَّظرَ إلى عينيهِ ولنْ أجْرُؤَ:

لقَدْ رسَمْتُ لهُ كوكبًا لا زمنَ فيهِ

سوى إيقاعاتُ الجازِ لثلاثةِ عازِفينْ

يعزفون في قارورةٍ نبيذٍ واحِدَهْ

ولا يدري أحدٌ منهم من المسيطرُ

لكنَّهُم يعرفون أنفسَهُم جيِّدًا:

نحنُ الثَّلاثةُ زوايا المثلَّث.

لا أجرؤُ النَّظرَ إلى عينيهِ ولنْ أجْرُؤَ:

لقدْ رسَمْتُ لهُ عينينِ بلونِ المرِّيخْ

وَحُبَّا لا لونَ لَهُ، وقلْتُ:

إنْ مُتَّ فَمُتْ صامِتَا؛

قَدْ حاولَ،

لكنَّ صوتَ شبَقِ الموتِ كانَ عاليًا

حتَّى أسْمَعَ اللهَ فأيقظَهُ

منْ سُبَاتِ السُّكوتِ لينطقَ

بصوتِ شبقِ الموتِ إلى الأبدْ

لا يستمعُ إليهِ أحَدْ.

 

V

ألصمتيْ المختبئِ في حناياكِ رائحةُ الموتِ؟!

نمشي على عشبٍ له لونُ المستحيل

ونرمي أسماءنَا قفلاتٍ لجنائزِ أيَّامِنا

أجيبني يا بلادي؛ يا بلادَ الرحيل:

هل نحنُ الموتُ في صورةِ الانتظار؟!

فلم يعدْ في سجلاتِ وجودنا أرقامٌ كبرى تكفي لإقامة معادلاتِ الموتِ الجامحهْ

لمْ يعدْ في عروقنا دمٌ يكفي للثمِ آلامنا

على كل ثنيةٍ من ثناياكِ أمرُ بسكاكينِ الدمعِ

وفي خطوط كفَّيكِ أوجّهُ غصَّاتِ مكابرتي

فلا أبلغُ إلَّا شطرَ الفاجعة.

 

 VI

من نسألُ؟

إلامَ نأوي؟

لمْ يعدْ لنا سقفٌ يعطفُ على خجلِ أحلامنا؛ فإلامَ نأوي؟

يا تاريخَ التنفس الدموي:

ما الذنب الذي أهبطنا من عناوين الصحفِ؟

ما جريمتنا؟

هل لأنّنا كنا نحاول أن نغيظَ الفقرَ بضحكاتنا؟

هل لأنّنا كنا نراوغ القدر بالتناسي ونمرر أنفاسنا بين أغصان الليالي الباردة؟

هل لأننا سبقنا الموت في ابتلاعِ ساعاتِ وجودنا؟

يا تاريخ التنفس الدموي: إلام نأوي؟!

كل العيونِ أغمضتْ أمام أعيننا

إلام نأوي؟!

حتى أعضاؤنا التي كانت ملجأنا الوحيد، خسرناها...

حتى أجسادنا التي كانت نارنا الوحيدةَ، انطفأتْ

وتماهى دخانها مع الضباب الذي يلوح لنا

مخيفًا من بعيدْ

وتبعثر الرماد.

يا تاريخ التنفس الدموي:

لمَ رمادنا نحن غبار المدن الآسنة؟!

لمَ تعثرنا على وجنتي الوجودِ وسقطنا من الفلك المترامي بين عجائنِ الألمِ واحتمالاتهِ؟!

ولمَ كل هذا الألمِ؟!

يا تاريخ التنفس الدموي: لمَ كتبتَ علينا الخروجَ من لعبتكَ إلى الأبدْ؟!؛

لنعلقَ تحتَ أظافركَ دمًا يجفُّ

ننتظرُ الموتَ المتشبث بغصات الثواني ليمحي ظلالنا

وبقع دمائنا المتمازجة

عن مقاعد السيارات الخلفيةِ وشراشف المستشفيات

من أماكنَ كنا نرسمُ فيها للهِ وجهًا وفمًا وعينين وضحكاتْ

عن بزّات التصقت بلحوم أجسادنا

فاحترقت بنا.

*شاعر سوري.

قصائد اخرى للشاعر

شعر
30 أبريل 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.