}

ما لا يفسده الكمال

منذر مصري 12 مارس 2024
شعر ما لا يفسده الكمال
(منذر مصري)

 

منذريوس: النقصان ما برأ اللـه عليه البشر.

***

قصائدي الأولى عن الرسوم واللوحات، بدأت بها منذ أواسط عقد السبعينيّات، أي في السنوات الّتي بدأ فيها الشعر يزاحم الرسم في سلّم أولويّاتي، ويأخذ، شيئًا فشيئًا، مكانته المتقدّمة فيها. وكأنّي بهذا كنت أجسّر للمرحلة الّتي صار الشعر، أو ما كنت أخاله شعرًا، يحوز على اهتمامي كلّه. وعلى مرّ السنين، تبعًا لطريقتي التي عملت بها منذ بدايتي كمشروع رسّام، أقوم برسم مجموعات، كل مجموعة لها موضوع معيّن، وأسلوب معيّن، وأدوات معيّنة، أخصّها بها وأحاول أن أقتصر بعملي عليها. أذكر أوّل مرّة زارني يوسف عبدلكي في بيت أهلي برفقة هالة، في 6/10/1977، كما هو مدوّن في دفتر مذكراتي تلك السنة، أنّه أشار لبعض رسوم مجموعة (بشر وتواريخ وأمكنة) وكانت جميعها بالحبر الصيني قائلًا: "هذه الرسوم لا تنتمي إلى المجموعة ذاتها، لأنّك أضفت عليها التظليل بقلم الرصاص"! وكان محقًّا كما هو دائمًا عندما يتكلّم عن الرسم! وكما في رسمي فإنه أيضًا في شعري، هذه القصيدة تعود لهذه المجموعة، وهذه القصيدة تعود لتلك. وهكذا رحت أقوم بمراكمتها، قصيدةً تلو قصيدة تلو قصيدة تلو قصيدة، وإن في فترات زمنيّة متقطّعة وبعيدة، وفي مناسبات متفرّقة لا رابط بينها، فقد كان يحدث، ولو بالصدفة، أن أشاهد لوحةً، أو صورةً ضوئية، على حائط عيادة عامة، أو في صفحة كتاب، أعجب بها، وإن ليس كلّ الإعجاب، أي إنّه ليس من الضروري أن أكون معجبًا بها كعمل فنّي عظيم، لكنّ شيئًا أجده فيها يدفعني لكتابة قصيدة عنها أو منها، غير محددّة الأسلوب هذه المرّة، بعضها أقتصر على نقل ما أراه فيها من زاويتي الخاصّة فحسب، كنوع من القراءة اللغوية للخطوط والألوان والأشكال الّتي تراها عيني بإمعاني الشديد والطويل فيها، أو كإعادة إنتاجها شعريًّا، أو، بتعبير أفضل، قولها، قول اللوحة، تحويلها إلى كلام، كلام شعري على نحو أو آخر. ثمّ خطر لي أن أتوسّع بها وأحاول كتابة مجموعة كاملة منها، أحاول بها تقديم قراءتي الشخصية لتاريخ الفنّ الغربي، منذ بداياته لليوم، مانعًا نفسي من قول نهاياته، لأنّ لا شيء في العالم له نهاية، كل شيء يستمر في الوجود بطريقة أو بأخرى، هذا ما علّمتني إيّاه الأربع والسبعون سنة الّتي عشتها، وأنا لا أصدّق أنّي عشت نصفها، أو حتّى ربعها، وبالوقت ذاته لا أصدّق كيف استطعت أن أعيشها كلّها. وبالفعل، بعد كتابتي العديد من القصائد عن لوحات لفنانين من العصر الحديث، أمثال غوستاف كوربيه، وبول سيزان، وفينسنت فان كوخ، وإدوارد مونش، وجدتني أعود للوحات رساميّ عصر النهضة، مبتدئًا بـليوناردو دافنشي، أوّل من وقّع باسمه على تخطيطات رسومه، ومايكل آنجلو الذي عندما عيّب عليه عدم تشابه وجوه تماثيله مع وجوه أصحابها: "ومَن بعد مئات السنين سوف يهمّه ذلك"، ورافائيل الذي قال: "الجميع يعلم أنه إذا رمينا بلون ما على الحائط سيبدو أمامنا شيئًا جميلًا"، حيث كتبت عددًا من القصائد، أقلّها كانت الناجحة، وأكثرها الفاشلة الّتي حذفتها، أو لا أدري ضمن أيّ ظرف ورقيّ أسمر، يحتوي مسوّدات قصائدي، وضعتها. وذلك بسبب شعوري بافتعاليّتها الزائدة، وأيضًا بإنشائيّتها، وهما الأمران اللذان كنت لا أعظ بتحريم أيّ شيء في كتابة الشعر، بقدر تحريمهما، بل تجريم من يرتكبهما! واللذان كثيرًا ما وجدتني أحلّلهما لنفسي وإن غير مضطرّ وغير باغ. حيث بدت وكأنّها دروس في الترجمة الحرفيّة من لغة الفنّ إلى لغة الأدب. كتلك الّتي كتبتها عن لوحات تعدّ بمثابة أمّهات فنّية في سلالات الفن التشكيلي، مثل (جوكندا) لليوناردو دافينشي، و(ولادة فينوس) لساندرو بوتيتشيلي، و(برج بابل) لبيتر بروغل، و(آنسات أفينون) و(غيرنيكا) لبابلو بيكاسو... وسواها. ما خفّف من اندفاعي للتجربة ككلّ، وأدّى بي لأن أتوقّف عند الحدّ الّذي وصلت إليه، على أن أعود مستقبلًا، معلّلًا بهذا نفسي، إلى متابعة الكتابة فيها، حتّى أصل إلى ما أعدّه خاتمةً لها. ولكنّي، كما حدث في الكثير من الأحيان، أو كما يحدث دائمًا، لليوم.. لم أفعل. ولا أظن أنّه فيما بقي لي من الوقت أنّي يومًا سأفعل:

غير مبال بكلّ هذه الفروق

(كوربيه في سان بيلاجي) غير مؤرخة وغير موقعة -آخر صورة شخصيّة رسمها غوستاف كوربيه لنفسه.

***

بعد أن وجّه الضربات الأخيرة

في رسوم الأسماك والعجول

والظباء الذبيحة

جلس بحافّة مؤخّرته

على الإطار السفليّ البارز

للنافذة ذات القضبان الحديدية

المطلّة مباشرةً

على ساحة السجن.

/

الشجيرات الثلاث

المصطفّة على نسق

بجذوعها الرقيقة

الطالعة من المساكب الترابيّة

ذات الحواف المستقيمة المرصوفة

بالحجارة البيضاء

لا يمكن أن تعني له الشيء الكثير

بل

لا يمكن أن تعني له شيئًا على الإطلاق

لو كان يبغي مقارنتها

بمناظر الأرياف الطليقة

والأحراج المتوحّشة

التي جابها

ورسم بعضًا منها.

/

غير مبال بكلّ هذه الفروقات

راح ينفخ من فوّهة غليونه

دخان نار لا ترى

عاقدًا حول عنقه

شالًا حريريًّا

ذا حمرة صارخة...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفّاحات شهوتك الصارمة

(تفّاحات وطبيعة صامتة) بول سيزان/ زيت.

***

أختار التفّاحات

بأيّ طريقة وضعتها

مستّفةً ما أمكن في طست البورسلين

أمْ ملقاةً على غطاء الطاولة

دونما اعتبار.

/

أختار التفّاحات

كيفما اتّفق وكانت

ذهبيةً تختلط بالبصل والأجاص

أم حمراء بجانب السكين

يتقاسمها البريق والظلام.

/

أختار التفّاحات

ثخينة القشرة

كاملة الاستدارة

المستحيلة على الفساد

ثمار نضجك البطيء

وشهوتك الصارمة..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تحت سماء مهجورة

(مراكب على شاطئ المريمات) زيت على القماش – فينسنت فان كوخ /1888/.

***

على رمال شاطئ مهجور

تحت سماء مهجورة

هياكل عارية من حبال وصوار

لأربعة مراكب جانحة

دون أشرعة

دون مجاذيف

أتمت استعدادها للإقلاع

في بحر

الهجران..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما يسمح بحمله شعر الفرشاة

(فينسنت فان كوخ: لوحات متعدّدة)

***

رسمها

لكنّ هذا لم يكن ما يريده تمامًا

ما أراده

لو أمكنه

هو أن يمسك بها من شعرها

ويشدها إلى داخله.

/

أن يكون في داخله

للحديقة حديقة

وللناس ناس

وللبيت بيت

وأن يحيوا جميعًا به.

/

كان ينقلها إلى داخله على دفعات صغيرة

بالقدر الذي يسمح بحمله

شعر الفرشاة.

/

كان يحملها إلى داخله

لمسةً لمسة

ضربةً ضربة

حيث يقوم بتجميعها كحزمات حطب

أو كرزمات تبن محصود

ثم لا يجد ما يفعله بها

سوى أن

يضرم فيها النار.

/

وهكذا

النجوم والغيوم

والبيوت والطرق وأشجار الزيتون والسرو وحقول القمح

وأزهار عبّاد الشمس وأسراب غربان الزرع

...

تلتفّ حول نفسها

صاعدةً إلى الأعلى

كأنّها لهب...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أرض بأعشاب حمراء

(منظر من القرية) زيت/1907/ موريس دي فلامينك.

***

ثلاثة أعمدة هاتف

ما بين أربعة أكواخ

تقطنها روحك الهاربة

ودرب ترابيّ موحل

يصل بك بخطوات قليلة

إلى شفير الأفق.

/

على الميمنة

عند باب الكوخ الكبير

يقف ليل حالك

وتستلقي على الميسرة

أرض بأعشاب حمراء

تحت سماء من غيوم ثقيلة

تنقضّ عليك

وتقتحمك

كقطيع من الثيران الهائجة...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جردل من الضوء

(طبيعة ليلية) إدوارد مونش.

***

كيف لأصبع أن يمرّ هنا

على حد لا يرى

بين الأشجار وظلالها.

/

حيث تعبر

الآن

امرأة

تحمل جردلًا من الضوء

إلى جزيرة من العتمة

تبدو وهي تنظر إلى وجهها

على صفحة البحيرة

كشفتين مطبقتين

لفم أسود...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا عاريةً دون عيب

(إلى آنا... لم آخذه المرّة الأولى لأنّي رغبت أن تعطني إيّاه مرتين)، فن مغولي 1979، مجموعة الشاعر الوهميّة.

***

يا متلألئة

يا نجومًا تنظر دون أن ترى

يا عيون عميان يبكون.

/

يا نجومًا تطلّ

دون أن تنادي

دون أن تشير

من فوّهة بئر.

/

عذراء

لا تطالك أصابع

لا ترتوي منك شهوة

يا عاريةً

دون عيب

بين فخذيّ الليل...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا أحد يلمح قفزتك

(إلى آنا... لم آخذه المرّة الأولى لأنّي رغبت أن تعطني إيّاه مرتين)، فن مغولي 1979، مجموعة الشاعر الوهميّة.

***

كإحدى تلك النجمات

تدخلين

لا وقع لقدميك

ولا ظلّ لنظرتك.

/

كإحدى تلك النجمات

تجلسين

لا صدى لأنفاسك

ولا درب لدمعك.

/

وكإحدى تلك النجمات

تخرجين

لا أحد يلحظ غيابك

لا أحد يلمح

قفزتك...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رأت قفصها خاويًا

(سيدة مفجوعة) مدرسة كانجرا، 1810، متحف فيكتوريا وألبرت، لندن.

***

في أروقة الفجر

بشهوة جسدها

ودثارها الفاضح

تركض لاهثةً

خلف آخر ذيول الليل

تريد أن

تدوسه بقدمها.

/

صرخة أيقظتها

فرأت قفصها خاويًا

وبين فكّي ثعبانها

يتدلّى

طائر روحها...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حلمي أن أحلم بها

(رحلة صيد) أسلوب باشولي، 1730، مجموعة و، ج. أرشيرا، لندن.

***

حلمي أن أحلم بها

في ليلة صيف كهذه

وكلبها الذهبيّ يلهو بعيدًا مع السلاحف

متّخذةً على راحتي وضعية الرامي جاثيًا

وقد سندت على كتفها

بندقية صيد فارغة.

/

لا بغية لها سوى أن نسدّد عليها نظراتنا

وهي تسدّد على الكراكي

فوّهة بندقيتها.

/

الكراكي البلهاء مدّت رقابها وأشعلت أعرافها

واصطفّت على ذوائب الأشجار بلا حراك

خشية ألّا تصيبها

طلقاتها..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شمّرت عن ساقها اليمنى

(نزهة ليليّة) مدرسة جارفال/ 1780،

المتحف البريطاني/ لندن.

***

إلى أين تمضي

برفقة لا أحد

في غابة الليل الفاحمة.

/

قدماها الحافيتان

تنيران لها معالم الطريق

وهي تنظر خلفها

تتفقّد ثعبانًا يتبعها.

/

عناقيد زهور

وعناقيد ثمار

دنت ولامست فمها

لكنّها شمّرت عن ساقها اليمنى

وتهمّ

بعبور النهر..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.