}

ماذا يكتب شعراء غزة وأدباؤها اليوم

راسم المدهون 24 أكتوبر 2023
يوميات ماذا يكتب شعراء غزة وأدباؤها اليوم
"الحالمون" للتشكيلي الفلسطيني عايد عرفة

 

تبدو الحرب في المشهد التلفزيوني "سهرة دامية" تصيبنا بالاحباط والكآبة ولكنها تصبح في غزة أقرب إلى حياة "طبيعية"، أي أنها تتحول إلى إقامة دائمة في الشوارع والبيوت، كما في غرف النوم التي صارت في الشوارع واستدرجت مع تطور الحرب وانتشار الخراب المطابخ وأماكن التقاء الناس.

في غزة بالذات تصبح الحرب هي المتن فيما الحياة كلها هوامش تقترب وتبتعد مثلما تشاء لها الطائرات وآلات التدمير الأخرى. إن حياة كتاب غزة وشعرائها هي عادة موسم بين حربين، وقت لترميم البيوت كما لترميم الأرواح وربما لاستعادة كتابات نثروها خلال أيام سابقة هنا أو هناك ولم تزل لها سخونة الرماد وبعض ناره الكامنة والقابلة للاشتعال مرة أخرى وثالثة ورابعة فتحرق في طريقها وفي تنقلها المدروس الجدران والكتب والأطفال والآباء معا كأنها طاعون يوزع لهبًا قاتلًا أينما مرّ.

غزة الرابضة على ساحل المتوسط ترنو إلى الحياة من خلال تناقض وجودها، فهي من جهة مساحة تمتد لخمسة وأربعين كلم بعرض ثمانية، لكنها تحضر في نشرات الأخبار ومواسم توزيع القنابل أكثر من حضور مدن العالم الكبرى التي يفوق عدد سكانها العشرين مليون كنيويورك وطوكيو مثلًا.

مع ذلك تبدو "فواكه" المحرقة المتنقلة عابقة بدخانها ولهيبها وحولها الناس يجدون– رغم ذلك– وقتًا للتعبير عن أرواحهم وعن تفاصيلهم اليومية بلغات بسيطة وإن تكن مشحونة بما في الحياة من قوة عظمى قد لا يدركها البشر في بلدانهم الأخرى، لكنهم بالتأكيد يحسون سخونة رمادها، ذلك أن البشر "العاديين" في حياتهم "العادية" يعشقون أن ينتحوا بين وقت وآخر بالرصيف، يختارون "مقهى رصيف" يلتقون فيه لقراءة جريدة يومية أو للتسلي بما تجود به هواتفهم الخليوية، فيما تتحول غزة بأكملها إلى رصيف كبير يحيط به من الجهات كلها ردم الأبنية المدمرة وما يحمله من أشلاء ودم.

في صفحته في "الفيسبوك" ينشر الشاعر يوسف القدرة ابن مدينة خانيونس:

"على الرصيف

قرب موت وشيك

ومباغت

نسرق وقتًا نحسبه لحياة"

وفي نص آخر:

"يتجمد قلبي

يصير المدى موحشًا

ويبدو من هنا القمر وحيدًا وبائسًا

تصير خطواتي لفرس تائه في صحراء

تصير البلاد غامضة كأسماء من غادرتهم الحياة

تصير البيوت سجونًا أو أشباح

والشوارع لا تؤدي إلى شيء

وحده الله يربت على كتفي ويبتسم"

أما الشاعر المقيد في خانيونس أيضًا جبر جميل شعث فيكتب:

1

"في الحرب

كل حجر يسقط

يسقط معه نص لما يكتمل

وتكف الكلمات عن اللعب الحر

في سديم المجاز

2

لا نص في الحرب إلا نص الحجر

وعليك أن تتهجاه مكرها

كتلميذ أبله تشابهت عليه الحروف

وترادفت مفردات الجمال لديه

ومفردات الخراب

عليك أن تقرأ النص وحدك

دون التلفت ذات اليمين

وذات الشمال

فلن تأتيك أجنحة سماوية

تهصر فوديك

وتضم كتفيك

لتهييء لك النص

وتقدح لك الشرارة"

جبر جميل شعث يشير في صفحته على "الفيسبوك" إلى ندرة الحصول على شبكة الإنترنت في غزة بسبب انقطاع الكهرباء الذي ينتج عنه "فراغ" البطاريات التي يستخدمها مواطنو غزة في الإنارة وأيضًا في تشغيل الهواتف الخليوية وأجهزة اللابتوب.

الشاعرة فاتنة الغرة التي تعيش في بلجيكا والتي تزور عائلتها في غزة هذه الأيام تكتب على صفحتها في "الفيسبوك" عن يوميات الحياة في غزة وتقدم مشاهد حية للحياة اليومية للناس في زمن الغارات الجوية. كان لافتًا ذلك "البوست" الذي كتبته عن رجل يحمل كيسًا من الطحين وحلة طبخ معدنية ويمارس بين وقت وآخر عجن الطحين وإعداد الخبز وسط زحام المتجمعين من القصف في الشوارع المدمَرة.

الشاعر الفلسطيني ناصر رباح يكتب على صفحته نصًا يعبر عن حالة الحرب التي تعيشها غزة بين وقت وآخر والتي عادت إليها من جديد: "هي حرب واحدة أخرى وتمضي، هكذا قلت في الأيام الأولى لحرب سابقة. في الأيام الأولى لم تكن تعني الحرب لي شيئًا أكثر من مجرد ضيف ثقيل سوف يأخذ وقته ويمضي حيث لا تشغلنا الحرب في غزة كثيرًا فنحن في حرب دائمة ويومية مع الحياة، حرب من أجل الكهرباء ومن أجل المياه ومن أجل السفر ومن أجل فرص العمل. لقد اعتادت الحرب علينا واعتدنا عليها، في غزة نذهب للحرب كأننا ذاهبون لنشجع فريقنا في لعبة الكرة، نهتف ويشتد صراخنا كلما أحرزنا شهيدًا إضافيًا أو هدم لنا بيت آخر. نحن في غزة مصابون بهستيريا الشهادة فلم يعد لدينا شيء نقدمه لحياتنا البائسة سوى الموت، لذا نذهب إليه باحتفالية كبيرة وبضجة مبالغ فيها".

كتابات الحرب هي في العموم تلامس الحالة النفسية المباشرة لمن يعيشون الحرب اليوم، وهي نصوص لها نصيب كبير من السردية ومن دراما الحياة اليومية التي تعكس الأحداث وتعبر في الوقت نفسه عن روح الناس وأحوالهم النفسية في مواجهة الأخطار. من اللافت هنا أن شعراء وكتاب غزة في هذه الأيام يميلون إلى كتابة النصوص المباشرة، الواضحة والقادرة على التعبير عن "يومياتهم" حتى وهم يكتبون شيئًا آخر مختلفًا عن اليوميات، وهي كتابات تعكس قلق اللحظة التي تولد فيها والتي تبدو لهم كمبدعين ولنا كقراء نوافذ مفتوحة على الجحيم ترينا صور الحرب ببشاعاتها ليس من خلال السردية التقليدية التي تصف الحروب ومعاركها، ولكن التي تصف البشر باعتبارهم أفرادًا لهم ذواتهم الخاصة وخفاياها الداخلية والذين يواجهون الموت في كل لحظة.

من النصوص اللافتة هنا تلك التي كتبها الشاعر عمر حمش ونشرها في "الفيسبوك" فيما يشبه يوميات شعرية تقترب كثيرًا من الحرب ولكنها تمزجها بمخيلة الشاعر على نحو مميز:

"وصل حطام بيته ليصرخ في النابشسن:

"ابنتي كانت تستحم

والتقط نفسا وعاد يصيح

أستروها وأنتم تحرجونها

لحظتها كانت الطائرة تغادر"...

وفي نص آخر:

"أية مفردات تروي... وأية لغة؟

لا أكسجين في اللغة الفارغة وانعطب الكلام

الآن أصوم

قليلا أصوم

إلى أن يأتي الهواء

وللغتي القادمة تعود الحياة"

ستكتب الطائرات بل ستحرث الأبنية والشوارع والحقول، لكن الشعر سيظل حجارة الضوء التي تعيد تركيب المشهد الحياتي، حيث الناس يعيدون للأشياء حياتها وللحياة سيرورتها التي تحفظ كل شيء في الذاكرة الكبرى للشعب الذي يكتوي بالنار لكنه لا يستسلم ولا يكف عن الحياة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.