}

كان الجوُّ غائمًا

يوسف الخضر 30 يونيو 2021
سير كان الجوُّ غائمًا
(جورج ويسلي)

كنتُ في الثانيةَ عشرةَ من عمري عندما قدّمني أدهمُ لألقيَ قصيدةً في إحدى أمسياتِه كنوعٍ من التشجيع لي. وعندما انتهيتُ من الإلقاء، تقدَّمتْ إليَّ امرأةٌ ستينيَّةٌ وقالتْ لي بنبرة هادئة واثقة:

-  "إنتا متأثّر ببودلير!"

أخافني الاسمُ حينَها لأنني في الحقيقةِ لم أكنْ قد قرأتُ لأحدٍ غير نزار قباني.

لاحقًا وبعد أن كبُرتُ فهمتُ أن تلك العجوزَ المسكينةَ مدّعيةَ الثقافةِ لم تكنْ تحاولُ أن تثبتَ نفسَها أمامي. فلقد كانتْ تعِي تمامًا أنني مجرَّد طفلٍ، ولكنّها كانت تحاولُ أن تُثبتَ نفسَها أمامَ نفسِها.

لاحقًا وبعد أن كبُرتُ، عذرتُها فكلٌّ منَّا لديه فجوةٌ في مكان ما في أعماقِه، وكلٌّ منّا يحاول سدَّ تلك الفجوةَ بطريقتِه. وبغضِّ النظرِ عن الطريقةِ التي استخدمَتْها المرأةُ العجوزُ والطرقِ التي تستخدمونَها أنتم، إليكم طريقتِي: بدأتُ حياتي بائعَ وردٍ مشرَّدٍ في طرقاتِ وزواريبَ بيروت. تخيّلوا لو أنني لم أكتُبْ. ما الذي كان سيحدُثُ لي لاحقًا؟!

أنتم مثلًا منكم مَنْ درسَ الطبَّ، الإخراجَ، المسرحَ، الصحافةَ. وأيٌّ منكم لو لم يخلقْ فنانًا، لمارسَ الاختصاصَ الذي درسَهُ وانتهى الأمر. أما أنا فكنتُ سأمضِي بقيّةَ حياتي مشرّدًا.

لهذا صِرتُ كاتبًا، لأنني لم أجدْ خيارًا آخر.

إنني أكتبُ لأنتقمَ. لأثبتَ للحياة أنّها آذتْ كاتبًا، ولم تؤذِ شخصًا عاديًا.

لذا سأكتبُ نصوصًا قاتلة، ولا أقصدُ المعنى المجازيَّ للكلمة، بل سأبحثُ عن نصوصٍ، حين تُقرأُ، تنفُذُ كرصاصةٍ من عين القارئ إلى مخيّلتِه.

لم تكن مجرد رواية (*). لقد وجدتني أكتب شيئًا من لحمٍ ودمٍ، ليكون كيانًا، ألجأُ إليه حين أحسُّ بأنّني لا شيءَ. ولهذا كانت اللغةُ التي استخدمتُها هي اللغةُ التي أستعملُها في حياتي الواقعيةِ فقلتُ زواريبَ بدل أزقّة. ربّما لأنني أفضّلُ دائمًا أنْ أكونَ أقربَ إلى ما أفهمُه وأستوعبُهُ في أعماقي.

لستُ مُضطرًا للقول: كانتِ السماءُ ملبّدةً بالغيوم. أنا شخصيًا أرى أنَّ مفردة "ملبَّدة" مفردةٌ لعينةٌ لم ولنْ يخطرَ لي أن أستعملَها في يومياتي وفي تفاصيلَ حياتي، لذا اكتفيتُ بالقول: كان الجوُّ غائمًا. لأنني حرٌ في أن أرى الجوَّ غائمًا، بدل أن أرى السماء اللعينة ملبَّدة بالغيوم..

ويا لَكثرةِ ما كانت سمائي غائمةً، وبدل أن تُمطِرَ، كنتُ أبكي.

 (بيروت - 20/6/2021)

 

(*) "الهامستر" هي الرواية الأولى للكاتب بعد ديوانه الشعري "مطر على ملامح غربتي" الصادر عن دار نلسن - بيروت. الرواية صدرت عن منشورات إيبيدي في مصر وسيتم إطلاقها ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في 30 حزيران/ يونيو 2021.

مقالات اخرى للكاتب

شعر
3 ديسمبر 2022
شعر
19 نوفمبر 2022
يوميات
25 أكتوبر 2022
شعر
12 أكتوبر 2022

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.