}

موعد مع صلاح عبد الصبور

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 2 يونيو 2019
يوميات موعد مع صلاح عبد الصبور
صلاح عبد الصبور
كان يريد أن يقول كل ما في صدره،
لكنها طويلة أنياب هذا الغول
فادعى الجنون..
وقال كل ما يريد أن يقول،
وحينما أراد أن يعود عاقلاً
أصيب بالجنون..

معين بسيسو


أَنْتَ لَمَّا عَشَقْتَ الرَّحيل
لَمْ تَجِدْ مَوْطنا
يا حَبيبَ الفضاءِ الذي لم تَدُسْهُ قَدَمْ
يا عشيقَ البحار، وخِدْن القِمَمْ
يا أسيرَ الفؤادِ الملول
وغريب المنى (..)
شاعِرٌ أنتَ والكَوْنُ نَثرْ..

صلاح عبد الصبور


لا أدري بالضبط متى بدأت غواية الشعر في حياتي، كما لا أذكر متى وأين التقيت صلاح عبد الصبور.. ما أتذكره جيداً، ويتمتع بوجود مادي في حياتي وذاكرتي، هو دفتر منتخباتي الشعرية، الذي أعددته بعناية في منتصف ستينيات القرن الماضي، وقد تطوَّر واغتنى في نهاية حياتي الجامعية. أتذكر أنني بدأت ألملم القصائد والمقاطع الشعرية المتنوعة، مما توفره لي مكتبة الثانوية التي درست فيها والمكتبة الوطنية في الرباط، من دواوين الشعر العربي، حيث كنت أستعير كل أسبوع وبصورة منتظمة بعض الدواوين الشعرية. أختار منها قصائد، أو مقاطع من قصائد، أُعَنْوِنُهَا وأكتبها لأنخرط يومياً في قراءتها، متوخياً من وراء ذلك تحصيل متع لا حدود لها. ولم أكن أتردَّد بين الحين والآخر في إلقاء عينة منها، أمام الأصدقاء الذين أعرف اهتمامهم بل ولَعَهُم مثلي بطعم الكلمات وسحرها..
عندما أفكر اليوم في سرّ هذه العناية بالشعر والشعراء، لا أجد جواباً محدداً، ويبدو لي أن هذه المسألة كانت عنواناً لنمط تكوين جيل كامل، يعتبر أن التعليم ومؤسساته بمثابة فضاء للثقافة العامة في مستوياتها المختلفة والمتعددة.. إضافة إلى ذلك، أستحضر وأنا أفكر في علاقتي بالشعر، صُوَّر العلاقة التي نسجت مع اللغة العربية، ومع نمط تكويني الأول في المسجد

وحفظي المبكر للقرآن، وكذا ما عودت نفسي عليه أثناء عملية استظهار القرآن، من عناية بالسور والآيات، التي تنساب فيها الكلمات والجمل والإيقاعات بكثير من الرقة والعذوبة.. فقد يكون لهذه المرحلة في عمري الدراسي، ما وَلَّد في ذهني ووجداني الحساسية المرتبطة برنين الكلمات وترانيمها، ورتَّب خطواتي لحظات اكتشافي المتواصلة لعيون الشعر وجميل البيان في الثقافة العربية.
أتصوَّر أن سنوات طفولتي الأولى في المسجد، ساهمت في تركيب أحد الأوجه القاعدية في تكويني الثقافي العام، كما ساهمت في صناعة جوانب من وَلَعِي المبكِّر باللغة والبلاغة وموسيقى الكلمات والعبارات.. ولعلها شكَّلت الأرضية المُؤَسِّسة لأشكال الافتتان التي ما تزال تلازمني إلى يومنا هذا، وتكشف شغفي المتزايد بكنوز العربية وبلاغتها.. وتزداد قناعتي بهذا الأمر، عندما أتذكِّر حرص والدي على حضوري دروس قواعد اللغة المسائية، وهي دروس تقام في المسجد القريب من بيتنا، دروس في النحو والبلاغة، يلقيها أحد فقهاء سوس، الذي كان يحرص أثناء تلقيننا منظومات قواعد اللغة على تقديم أمثلة مستوحاة من عيون الشعر والبلاغة العربية. كنت أجلس مع الجالسين متابعاً شروحه وأحاديثه المفيدة، ثم أستظهر بعد ذلك أمثلته. وقد ساعدني كل هذا على تمثل جميل اللغة ورقيق الأحاسيس التي كانت تتركها في نفسي، الآيات القرآنية ومنتخبات الشعر العربي القديم الممتزجة بلطائف البيان..
أفترض وأنا أفكر في ولعي المتجدد باللغة والشعر، أن الصدفة وحدها قد تكون هي التي رتَّبت لي موعداً آخر مع الحساسية الشعرية العربية الجديدة ورموزها، بعد أن تشبعت في مراحل تمدرسي الأولى ببعض عيون الشعر العربي. وقد حصل ذلك في منعطف تاريخي يُعَدُّ بجميع المعايير الأفق الناظم لمختلف مزايا وسمات هذه الحساسية، ففي نهاية الستينيات كنت قد التحقت بالجامعة، دخلتها حاملاً مكتبتي الشعرية الصغيرة، دفتر منتخباتي ودليلي.. وكان قد أينع بقطوف مُتَعَدِّد الألوان من شعر الحداثة العربية، المزهوة بباقات الورود والأزهار وعناقيد العنب والغضب.. أشعار السياب والبياتي وصلاح عبد الصبور وفدوى طوقان، دواوين أحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وأدونيس ومحمد الفيتوري وسميح القاسم ومعين بسيسو ومحمود درويش ومحمد عفيفي مطر إلخ.. وما تزال أغلب الدواوين الأولى لهؤلاء الشعراء، الذين عدَّدت أسماء البعض منهم في مكتبتي، تحمل تواريخ صدورها وأسماء دور النشر التي أزفتها، كما تحمل علامات وإشارات بخط يدي، تشير إلى نوعية العلاقة التي قامت بيني وبينها، وذلك رغم مرور عقود من الزمن على لقائي الأول بها، وحفظي لبعض قصائدها.. لكنني أؤكد مرة أخرى أن الصدفة مُضافاً إليها الحظ الجميل، هي من ضَرَبَ لي موعداً مع أعمال من ذكرت من الشعراء، ومع مختلف المزايا التي منحوني وأنا أقرأ وأستظهر قصائدهم، لتصبح ملكاً لي بما حملته وما تزال تحمله من إيحاءات وألوان وإيقاعات.. إنها اليوم ذاكرتي والمَخْزَن الذي ألجأ إليه، فأجد نفسي في أحضان عرس الحداثة الشعرية العربية، بكل موجاتها وأصواتها وعطورها..
تحدثت عن الصدفة التي جعلتني ألج في ستينيات القرن الماضي حدائق الشعر، وأصاحب

السياب وعبد الصبور وحجازي وأتغنى بأناشيد البياتي.. أستنشق بكثير من المتعة أريج الأزهار والورود والألوان، مُتغنياً بالقيم التي رسمتها هذه الحساسية في ثقافتنا.. ولا أكتفي بذلك، بل أعمل على تحويل مُتَع الحدائق المذكورة إلى ممتلكات تخصني، أتصرف في خيراتها ولغاتها داخل دفتر منتخباتي، من أجل أن أتمكن من الاستفادة القصوى من خيراتها الرمزية، ومخزونها الهائل من الإيحاءات التي لا تنفد.. وإذا كنت قد وضحت أنني التقيت صدفة بدواوين الحداثة الشعرية، الصادرة في ستينيات القرن الماضي، أناشيد المطر، والناس في بلادي، وأحلام الفارس القديم، ولم يبق إلا الاعتراف، والأشجار تموت واقفة، وآخر الليل نهار، والموت في الحياة، وسفر الفقر والثورة، فإن إقبالي على قراءتها واختياري كما أشرت لمنتخبات منها للحفظ، لم يكن مجرد صدفة، بل كان يشير في بعض أوجهه، إلى جوانب من شروط نشأة وتكوين الجيل، الذي أنتمي إليه، وهو الجيل الذي ولج أبواب المدارس في منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت الشروط العامة للتعليم المغربي في المرحلة الاستعمارية مُحاصرة بكثير من القيود والصعوبات.. وفي تفاعل أبناء هذا الجيل مع شروط الكفاف التي كان عليها تعليمنا، استطاع فتح بعض القنوات والدروب المفضية إلى فضاءات المعرفة والحرية والإبداع..
كما أنه ليس صدفة أن تتم عمليات نسج مفردات الحداثة الشعرية في العراق والشام ومصر، فقد كانت الشروط الثقافية والاجتماعية المؤسسة لأفق المشروع الثقافي النهضوي العربي قد ساعدت بنصيب كبير في تعبيد جوانب من الطريق المفضي إلى دروب الحرية والإبداع.. وفي السياق نفسه، نؤكد أنه ليس صدفة أن تتجه رياح الإبداع الشعري للتغني برموز الحداثة الشعرية الكونية، حيث يحضر لوركا ونيرودا وبودلير ورامبو في القصيدة العربية، فنجد قصائد تحمل أسماءهم في أشعار البياتي وعبد الصبور ومعين بسيسو، وتصبح غنائية

القصيدة الجديدة في شعرنا عنواناً لأناشيد شعر الفقر والثورة، أناشيد الناس في بلادي.
ما زلت أذكر أن حماسي للشعر وللحساسية الشعرية الحداثية دفعني، في مرحلة لاحقة، إلى تحويل بعض الفقرات في الروايات التي أقرأها إلى مقاطع شعرية، حيث أضفت إلى دفتر منتخباتي الشعرية، جملة من النصوص المستلة من بعض روايات نجيب محفوظ أساساً، وهكذا وفي غمرة حماسي لنصوص الحداثة الشعرية، في انسيابها ورقتها، وجدت نفسي منجذباً بقوة شديدة لرومانسية صلاح عبد الصبور وثورية مفردات عبد الوهاب البياتي، فرتبت لكل منهما صفحات خاصة في دفتر منتخباتي، وتغنيت بقصائدهما..
استوعبت مكتبتي الصغيرة في نهاية الستينيات، وأنا الطالب في شعبة الفلسفة، مجموعة من الدواوين الشعرية وعدداً كبيراً من الروايات الصادرة حينها، وكنت قد استأنست بعادة التغني بقصائد الشعراء.. حيث اكتشفت أن الشعر يمنحني بعض أسرار اللغة، وأن إيحاءات مفرداته المقرونة بجمل وعبارات يساهم في تلوين أحاسيسي، هواجسي وأسئلتي وأحلامي بصوَّر وإيقاعات لم يعد بإمكاني التخلص منها..
لم نكن نميز سنوات التكوين الجامعي، بين التخصص الدراسي والانفتاح الثقافي المُشْرَع على فضاءات المعرفة المختلفة والمتنوعة، فلم أكن أرى أي تناقض بين دروس الفلسفة اليونانية، ودروس المداخل العامة إلى حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية، والانفتاح على حقول فنية ومعرفية أخرى.. وقد أدركت بصورة أو بأخرى أن إقبالي على قراءة الشعر والرواية، وحرصي على مشاهدة بعض الأفلام السينمائية، أو زيارتي لبعض معارض الفنون التشكيلية رغم ندرتها إذ ذاك، أدركت أن مختلف مجالات المعرفة والفن التي أشرت إليها، تحمل معطيات ذات أبعاد فلسفية.. وقد اقتنعت بجوار ذلك أيضاً أن المشاركة في النضال النقابي الطلابي، يُعَدُّ بدوره فضاءً آخر للتكوين والمعرفة، مُتمِّماً لكل ما ذكرت.. وقد تكون لما حملته هزيمة 67 وانتفاضة 68 في فرنسا، والإرهاصات الأولى لليسار الجديد في المغرب وفي العالم العربي، وحماس وتطلعات السنوات الأولى للاستقلال، علاقة بكل ما تَرَسَّب في قناعاتي الفكرية وحساسيتي الفنية والجمالية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.