}

الذكاء الاصطناعي عاشقًا

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 30 أبريل 2024
اجتماع الذكاء الاصطناعي عاشقًا
(Getty)

 

لا يتوقف صديقي عن الحديث عن مستجدات الذكاء الاصطناعي، ولأن الأمر تحوّل في الأشهر الأخيرة، إلى حدث يمثل طفرة في مسلسل تطور الحواسيب والروبوتات ومختلف التطبيقات الرقمية الجديدة، المتصلة بعالم المال والأعمال والمقاولات، فقد أصبح حديث الساعة وسط النخب المهتمة بتطوير وتبسيط آلياتها في العمل والإنتاج. ولأن صديقي عاشق للتقنية وأدواتها ومبتكراتها، فإنه لم يعد يتردّد عند لقائنا، في عَرْض جديدِ الذكاء الاصطناعي، والوقوف على مزاياه في عالم يتغيّر بإيقاعٍ سريعٍ.

تعودت عند سماعي لكيفيات تمجيده لبعض أوجه الذكاء الاصطناعي وفتوحاته، أن أطلب منه الانتباه أيضًا، إلى بعض الأوجه السلبية المرتبطة بهذه التقنيات، وكنت أُشعره بأن كثيرًا من أوجه الآليات المستخدمة فيه تظل في حاجة إلى كثير من الفحص والمراجعة بعيون وأدوات الذكاء الطبيعي، وقدراتها على التمييز والتدقيق... وكنت أحيانًا أنخرط معه في نقاش حادّ، حول البعد الميكانيكي في نظام عمل الحواسيب الذكية، التي تستوعب معطياتها حسابيًا، وتعيد ترتيبها في ضوء المنطق الحسابي وعدته الميكانيكية، بالرغم من أن الذكاء ليس مجرد علامات رقمية، بل إن بعض أوجهه ومعادلاته تتحكّم فيها حسابات أخرى بمنطق آخر ومعايير أخرى. ولا أتصوّر أن التطبيقات الذكية تملك اليوم أي صلة بها، فهي لا تعرفها... إنها سجينة التركيب الذي صُنعت من أجله، والوظيفة المرتبة لآلياتها في التركيب والعمل.

لا أجادله في المكاسب الناتجة اليوم، عن بعض أوجه وآليات عمل الذكاء الاصطناعي في مجالات مختلفة، في التطبيب والعلاج ومختبرات البحث في العالم، وفي عالم المال والأعمال. إن ما يستوقفني في الموضوع، هو إرادة التعميم المنطلقة من قواعد حسابية خالصة، في الوقت الذي لا تشكل فيه القواعد التي ذكرنا، سوى أحد أوجه العمل والمبادرة والذكاء، وتبقى هناك أوجه أخرى ذات أهمية كبرى، من دون أن تجد لها المقابل المناسب في أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت اليوم تملأ جوانب هامة في حياتنا.

يرد صديقي على تحفظاتي بحماسه الزائد، فيخبرني بأن تعميم آليات الذكاء الاصطناعي ستحول المجتمعات البشرية في المستقبل القريب إلى مجتمعات أخرى، مثلما ساهمت وتساهم تقنيات التواصل الاجتماعي، في تقريب البعيد ونيل المبتغى في دقائق معدودة... يبتسم ويلوّح بيديه مشيرًا إلى المتع التي حققتها الأجيال الجديدة منذ نهاية القرن الماضي، وفي مختلف مجالات الحياة مقارنة مع حياة الآباء في النصف الأول من القرن العشرين... لا يعير أي اهتمام لأسئلتي وتحفظاتي ومخاوفي، سعيد بما يسمع ويرى، ولا يتوقف عن تذكيري بأن الجيل الجديد من روبوتات الذكاء الاصطناعي، يسعى جاهدًا للتغلب على الطابع الميكانيكي الذي يُعدّ اليوم سمة أفعال ومنتوجات الذكاء الاصطناعي. وهو لا يتردد في الدفاع عن مشروع إنتاج آليات، تمتلك القدرة على القيام بوظائف العقل والضمير، وحسابات الحاضر والماضي والمستقبل...

يدعوني صديقي إلى الاهتمام بمكاسب ومنجزات الذكاء الاصطناعي، وهو يدرج المنجزات الحاصلة ضمن مكاسب الثورة الرقمية، وخطواتها المتصاعدة بإيقاع يفوق إيقاع كثير من الثورات التي سبقتها، وضمن هذا الأفق، يدرج صور تحفظي ويعدني بالطفرات القادمة، حيث ستعرف مجتمعاتنا التعايش المأمول بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الطبيعي، وتتقلّص حدود التمييز والتمايز بينهما... يواصل حماسه مستعرضًا بعض أدوار الذكاء الاصطناعي في حياتنا، في تدبير ملفات عديدة لم نكن نعتقد يومًا أنها في عداد الممكنات... أستمع إليه متحمسًا، أُغبطه على تفاؤله وثقته بكل ما ذكر، ولأنني أشعر بكثير من الخوف أمام حركة الروبوتات ونظرتها وطريقة حركتها، أشعر بكثير من الخوف من غزوها لبنية المجتمعات البشرية... أتحفظ على حماسه الزائد وإيمانه المطلق بمزاياها في الأسرة وفي المجتمع، في المختبرات والإدارات، وفي مختلف دواليب الحياة... ومن أجل مواجهته، ومحاولة وقف يقينه المطلق بأدوار العلم والتقنية في حياتنا، أسأله هل يمكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي في باب العشق والغرام؟ هل يمكن أن يكون له دور في حياتنا العاطفية وفي حياتنا السياسية؟ وأضيف هل يمكن أن يمارس الذكاء الاصطناعي ما يمارسه الصمت في حياتنا؟

وقبل أن أمنحه فرصة مواصلة دفاعه عن مزايا التقنية اليوم وغدًا، انتقلت لأحدثه عن بعض النتائج المترتبة على برنامج تلفزيوني، ظهر منذ سنوات بلغات متعددة وفي بلدان عديدة، وهو يحمل عنوان "زواج من أول نظرة". يعتمد هذا البرنامج على نتائج فريق من الباحثين، مكلف بجمع معطيات تتعلق بعشرات الشباب الراغبين في الزواج، حيث يقوم بترتيب المعطيات الشخصية المتعلقة بالراغبين في الزواج من الجنسين، وهي معطيات تشمل نمط عيشهم وتطلعاتهم، ونمط تصورهم للزوج أو الزوجة. يتم تفريغ هذه المعطيات في جداول محدّدة، ثم التفكير في صور تطابقها أو تباعدها... وفي ضوء نتائج هذه العملية في الترتيب والحساب والمقارنة، ويتم ترتيب الأزواج بدرجات تَوَافُقٍ تَضيقُ أو تَتَّسع. يُرَتَّب الأزواج وأمامهم نِسَب مائوية في التوافق بينهم. يتم بعدها إخبار من يعنيهم الأمر، كما يتم استدعاؤهم ليحضروا حفل الزفاف بعد حصول الموافقة بينهم من النظرة الأولى، وفي حال عدم حصولها، يواصل فريق البحث عن الآخر من جديد.

وقد أخبرته أن متابعتي لنتائج هذا البرنامج المؤسس على أسس نفسية واجتماعية محدّدة، لم تكن دائمًا طريقًا سهلًا لولوج عالم الحب والزواج، حيث كانت تعترض المشاركين فيه باستمرار صعوبات لا علاقة لها بحسابات الجداول، التي تصنف فيها الرغبات والأحلام والتطلعات... وغالبًا ما تتخلل الأيام الأولى المشتركة بين مشروع الزوجين أحداث ترتبط بوقائع أو معطيات لم تكن حاضرة في الاستمارات التي تَمّ ملؤها، أثناء الإعداد للبحث عن الطرف الآخر، فيحصل النفور والتوقف.

يلتقي الذكاء الاصطناعي عاشقًا أو راغبًا في الحب والزواج، بروح البرنامج الذي كنّا بصدد عرض بعض جوانبه، يلتقي معه في نسيان من يقفون وراء العملين، نسيان درجات أو مستويات تعقد التركيبة البشرية عندما يتعلق الأمر بالمسائل الحميمية في الحياة، وهي في أغلبها مسائل عسيرة على الحساب الآلي المنظم. لا يعني هذا، أنها لا يمكن أن تفهم حسابيًا، بل إنه يفيد أساسًا، أن درجة تعقيدها تفوق نظام الحساب وحتمياته السببية المباشرة، إنها تخضع لبعض أوجه النظام الحسابي وتتجاوزه في الآن نفسه، حيث تمتلئ الحياة العاطفية للإنسان بكثير من الوقائع والهواجس، تمتلئ بكثير من الأوهام والأحداث، ورغم أنها جزء من الظواهر الاجتماعية العامة، إلا أنها تخضع لكثير من المعطيات غير القابلة للقياس أو للحساب... فكيف يمكن تنظيم وترتيب ما يصعب قياسه، وحساب أبعاده الممكنة والصعبة والمستحيلة؟

كان يستمع لكلامي مُبتسمًا، ورغم أنني لجأت إلى هذا المثال لأوضح له جوانب من محدودية الذكاء الاصطناعي، في المستويات المرتبطة بحميمية الحياة الإنسانية في المستوى الآدمي والمستويات الأخلاقية، والمستويات التي ترتبط بمساعي التسامي والرياضات الروحية. وعندما توقفت عن الحديث، ارتفعت درجة حماسه فبدأ يتكلم بإمكانية ابتكار روبوتات قادرة على ممارسة الخجل والخوف... ممارسة الجرأة وتَمَلُّك القدرة على المبادرة، ولا تتردّد في القيام بأفعال مشابهة لمختلف أفعال البشر... قادرة على فعل المتناقضات، والغرق في الصبوات، والتغنِّي بالمستحيل... وطلب مِنِّي التَّأَنِّي في إصدار أحكام سريعة عن الذكاء الاصطناعي، منطلقًا من إيمانه بأن المستقبل سيصنع ما لا يمكن تصوّره.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.