}

أمجد ناصر: ليلى تنتظرنا يا صديقي

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 13 يونيو 2019
يوميات أمجد ناصر: ليلى تنتظرنا يا صديقي
(إميل منعم)
إن ما نتوقعهُ نادراً ما يحدث
وما نستبعدُه غالباً ما يحدث

دزرائيلي


في سنة 1996 عاد أمجد ناصر إلى بيروت بعدما كان غادر تلك المدينة قسراً في سنة 1982، فترافقنا أياماً جُلنا فيها في الأماكن القديمة كالفاكهاني والطريق الجديدة ومحلة أبي شاكر والمقاهي الباقية قي شارع عفيف الطيبي وفي مقاصف شارع الحمراء، فضلاً عن جريدة "السفير" وبعض مرابع وسط بيروت التي أشاح عنها فوراً. قليل جداً من أصدقائه كان بقي في بيروت آنذاك، ولعل عباس بيضون كان من بين هؤلاء القلة. ومنذ ذلك التاريخ لم نفترق حتى وهو قابع في جريدة "القدس العربي" في لندن، وأنا في جريدة "السفير" في بيروت.
كنتُ أُرسل إليه مقالاتي الطويلة منذ مطالع تسعينيات القرن المنصرم، فينشرها فوراً. وكثيراً ما طلب مني مقالات بعينها، فكنتُ أكتبها بشوق. وفي "القدس العربي" أخذ أمجد ناصر على عاتقه نشر حواراتي المسهبة التي صدرت لاحقاً في كتب مثل الحوارات مع صادق جلال العظم، وأدونيس، ونبيل الشويري، وأنيس النقاش، وكريم مروة. وحين توفي محمود درويش هاتفني ليقول لي: أرسلْ لي صُوَر محمود في أثناء زيارته مثوى شهداء صبرا وشاتيلا، والتي تظهر فيها أنتَ والياس خوري وسمير قصير وليلى شهيد ومارسيل خليفة وإسكندر حبش وماهر اليماني؛ كان يعرف حتى تفصيلات الصور. وأرسلت إليه تلك الصور بالفعل، مع مقالة نُشرت في الملحق الخاص عن محمود درويش، والذي كان كله من الصفحة الأولى حتى الأخيرة من صنائع أمجد ناصر.

***

عشنا، نحن الإثنين، في بيروت في موسم تحطيم الأيقونات المقدسة القديمة. لكن بيروت كانت

آنذاك عوالم شتى لا عالماً واحداً. كان عالم أمجد ناصر هو عالم الماركسية الجديدة الموروثة من مخلوقات حركة القوميين العرب، أي عالم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان عالمي هو عالم الحركة الوطنية الفلسطينية الفتحاوية مع ماركسية متطرفة آتية إلينا من ثورة أيار/ مايو 1968 الباريسية بلا أي مرجعية سابقة. لم تتلاقَ دروبنا مباشرة آنذاك، بل تقاطعت، مع أن بيروت صغيرة بحجم راحة اليد؛ وهذه العبارة الأخيرة هي عنوان كتاب حار وحارق لأمجد يروي فيه ذكرياته عن حرب 1982 (عمان: الدار الأهلية، 2013). وفي بيروت نشأنا، كل في عالمه، نافرين كظباء البراري، ومندفعَين كالعجول الصغيرة إلى ضروع المعرفة في شتى ميادينها، فإخال أننا قرأنا في فترة متقاربة "النقد الذاتي بعد الهزيمة" لصادق جلال العظم، و"نقد الفكر الديني" للعظم نفسه، و"حفلة سمر من أجل 5 حزيران" لسعد الله ونوس، و"الثابت والمتحول" لأدونيس و"أغاني مهيار الدمشقي" و"مفرد بصيغة الجمع" لأدونيس أيضاً، علاوة على "الثالوث المحرم" لبوعلي ياسين و"المرأة والجنس" لنوال السعداوي"، ثم "الحب والحضارة" لهربرت ماركيوز، و"الخوف من الحرية" لإريك فروم، و"البديل" لروجيه غارودي، و"أين الخطأ؟" لعبد الله العلايلي، وشاهدنا "زوربا" و"الموت في البندقية" لفيسكونتي، و"حالة حصار" لكوستا غافراس وأفلام بازوليني ولويس بونويل السريالي الإسباني مثل "سحر البورجوازية الخفي" و"شبح الحرية"، فضلاً عن أفلام أندريه تاركوفسكي المنشق على النظام السوفياتي.

***

في المنطقة الممتدة بين جسر الكولا غرباً وحرج بيروت شرقاً، وبين كورنيش المزرعة شمالاً

حتى السفارة الكويتية جنوباً، كان هناك عالم غريب وساحر وخطير. في تلك البقعة، وعلى تخومها في الشياح وعين الرمانة، أحدق الموت بي مرات، واقترب الموت من أمجد مراراً، خصوصاً في اجتياح 1982. هناك في ذلك الزمان المتقادم كانت تصدر ثلاث عشرة جريدة يومية ومجلة أسبوعية فلسطينية، وتنتشر في أرجائها مراكز إعلامية وبحثية كثيرة مثل مركز التخطيط (حيث كنت أعمل) ووكالة وفا والإذاعة ومؤسسة السينما، ومجلات كالهدف (التي عمل فيها أمجد) والحرية وإلى الأمام والجيل (وهي ذات تراخيص رسمية لبنانية)، وأخرى مثل فلسطين الثورة وفلسطين المحتلة والقاعدة ونضال الشعب والصمود والثائر العربي والكرمل وشؤون فلسطينية والكاتب الفلسطيني وFree Palestine وForeward. وعلى تلك الشوارع تقاطر العالم كله من الساندينيين في نيكاراغوا والحركة البيرونية الجديدة في الأرجنتين حتى الجيش الأحمر الياباني، وما بينهما كالألوية الحمر الإيطالية وبادر – ماينهوف الألمانية ومجموعة كارلوس والجيش الأرمني السري الذي أسسه أغوب أغوبيان (مجاهد)، و"مجاهدو خلق" وحركات تحررية لا حصر لها من آسيا وأفريقيا. وفي تلك الشوارع أيضاً تزاحم شعراء العالم العربي ومثقفوه وموسيقيوه ومناضلوه، فمن مصر أحمد الأزهري ومحجوب عمر وأحمد بهاء الدين شعبان (أحمد المصري) وعدلي فخري وزين العابدين فؤاد وحلمي سالم وسلوى بكر، ومن سورية طلال رحمة ومنير الشعراني (عماد حليم) وسليم بركات ونوري الجراح وجميل حتمل وعادل محمود وحيدر حيدر وهادي دانيال، ومن العراق مظفر النواب وحيدر صالح وآدم حاتم وشريف الربيعي وهاشم شفيق ومؤيد الراوي وسعدي يوسف وزهير الجزائري وعواد ناصر وجليل حيدر ولميعة عباس عمارة، ومن الأردن أمجد ناصر وميشال النمري ومؤنس الرزاز وغانم زريقات وغالب هلسة، وكان أمجد أكثرهم قلقاً وتطلعاً إلى افتضاض أختام الشعر. وحاول، مع غسان زقطان وزكريا محمد وربما نوري الجراح، وسأضيفُ إليهم وليد خازندار وسعادة سوداح (على عزلتهما الدائمة)، أن يشق ثمار الشعر الحلوة للوصول إلى النواة المرة، أي إلى لغة شعرية جديدة متأثرة بالتجارب الشعرية في بيروت، ولا سيما قصيدة النثر التي ازدهرت على أيدي خمسة شعراء سوريين مهاجرين (أدونيس ويوسف الخال وفؤاد رفقة ونذير العظمة ومحمد الماغوط) قبل أن ينضم إليهم أنسي الحاج وشوقي أبو شقرا.

***

تخلى أمجد ناصر في بيروت عن قصيدة التفعيلة واختار قصيدة النثر، وعاش سياسياً في الفاكهاني، وشعرياً في شارع الحمراء (أنظر: أمجد ناصر، طريق الشعر والسفر، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2008، ص 35 و37). لذلك قلما كان من رواد مقاهي

الشموع والزاوية والتوليدو وأبو علي (التوسعي) وأم نبيل وأبو فراس، ولعله أطلّ قليلاً على التجارب الشعرية المجهضة وانصرف عنها مثل "الديوان" لميشال النمري الذي رغب في اقتفاء تجربة "الديوان" للمازني والعقاد، أو "المانيفستو الجنائزي رقم صفر" للصافي سعيد و"رصيف 1981" لعلي فودة ورسمي أبو علي وآخرين.
اكتشف أمجد ناصر طريق الشعر في مدينة الزرقاء الأردنية، لكنه لم يلبث أن قذف بنفسه في عمان التي لم تكن مدينة آنذاك بل محطة، وأقام فيها فترة مع صديقه زكريا محمد. وكانت "الندّاهة" في بيروت تندههما بإلحاف وإلحاح، فانتهبا الطريق إليها عبر حوران ودمشق، ولحق بهما غسان زقطان. وهكاذا تحول الفتى النعيمي، مرة واحدة، من قفار الأردن إلى مدينة بيروت الوثابة. ومنذ سنة 1982 لم تهدأ رجلاه عن الترحال، ولم يهجع وجيف قلبه. وفي بيروت سكن في محلة أبو شاكر بجوار زاروب أم زكور الذي تجولنا في نواحيه في سنة 1996. وهناك في تلك البقعة التي لا تنام على كثرة حراسها، تجاوز ثقافة وعي المظلومين البدائية، وامتلك أفقاً جديداً من التفكر ومساءلة العالم. وأحسب أن أمجد ناصر عاش أيامه وأحلامه متسربلاً بترويض الهلع الوجودي الذي غمره في بيروت، وحوّل الشعر ملاذاً فاخراً يقيه مكابدات الحياة وعذاباتها.
كنا معاً في إحدى المرات في أبو ظبي بضيافة الشاعر أحمد محمد السويدي الأمين العام للمجمع الثقافي، ورغبنا في التلصص على الحياة اليومية الخفية لتلك المدينة الجميلة والأنيقة، وترافقنا مع خليل النعيمي ونوري الجراح. واكتشفتُ في تلك الليلة أن أمجد ناصر يعبث بالحياة ويعابثها كأنها لعبة، ويبادر إليها كأنه أبو نواس، لكنه في داخله كان قديساً زاهداً منصرفاً عن الناس ويومياتهم. ومع ذلك فإن صخبه اليومي إنما يعكس نفوره من بلاهة الأشياء والأشخاص، وتبرمه من رتابة الحياة اليومية، وضيقه بإكراهات الواقع كأنه يفتش عن ينبوع صافٍ في بيداء مترامية.
"فاجومي" لا يخجل من عري الكلام؛ أَليس العري هو النقاء الكامل؟ أَلم تكن الحياة في الجنة، قبل الخطيئة الأصلية، بلا ملابس؟ ولعل فاجوميته ألجأته أحياناً إلى العيش متوحداً كمؤذن في مالطا أو كبطريرك في مكة، أو مثل كركدن في الأدغال؛ ذلك الكائن الذي أفاض الشاعر السوري – الفلسطيني توفيق صايغ في الإشارة إلى حكمته وسموه وتفتيشه الدائم عن أنثى يهجع إليها ويضع رأسه في حضنها ويمنحها الحياة، بينما الأنثى ما هي إلا شرك يرسله

الصيادون إليه للإيقاع به، وبدلاً من أن تمنحه الحياة تمنحه الموت. ومهما يكن أمر هذا التأويل والتشبيه، فقد بقي أمجد ناصر نافراً كالأيائل وظباء البوادي، وكان في الوقت نفسه مثل أوراق السنديان: ناعم الملمس شوكي الحواف، باسقاً أخضر في جميع فصول العمر. ويلوح لي أنه ظل لابثاً عند براءته الأولى كعصفور يختبئ بين الأشواك كي يُفلت من بنادق الصيادين. كان نافراً حقاً كنتوء في صخرة دهرية، فلم يشعر يوماً بأنه في مكانه، فلا الأمكنة أمكنته، ولا الناس أهله، ولا هذا المدى المتباعد وطنه. وإخال أن روح المُهاجر استولت عليه وعلى تفصيلات أيامه، فواجه مصائره أعزل مجرداً من أي حماية غير الشعر والكتابة الراقية. وفي معمعان هذه المواجهة كتب شعراً كموسيقى الرعاة وهم يترنمون في أرجاء جلعاد. وكان صوته الشعري هادراً مثل أجراس الشهوة، أو مثل صوت يوحنا المعمدان وهو ينهر العصاة.

***

ما جاء مرة إلى بيروت إلا ترافقنا أياماً. كان مكانه المفضل مقهى ليلى في حي الجميزة حيث نتمكن معاً من مراقبة الغاديات والرائحات. وعشنا أياماً مفعمة في الدوحة مع صديقنا الأثير معن البياري وصديقنا الدائم حسام كنفاني علاوة على الصديق القديم بشير البكر، أمضيناها في التفكير والتدبير واقتراح الأسماء في أثناء الإعداد لصدور جريدة "العربي الجديد" الذي تولى فيها إدارة التحرير قبل أن يتولى الإشراف على موقع "ضفة ثالثة". وكم عاتبني لأنني لم أقبل أن أتولى إدارة مكتب بيروت لجريدة "العربي الجديد"، وكان يظن أنه سيرغمني على القبول بذلك بقوة الصداقة والمحبة المديدة بيننا، لكنني خيّبتُ ظنه، واكتفيت بالكتابة الدائمة فيها، وتفهّم موقفي كصديق يعرف ما أكتم وما أبوح.
عثرتُ في ديوانه حياة كسرد متقطع (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2004) على نص حارق عنوانه "حديث عادي عن السرطان"، وفيه يعلن رغبته في أن ينام بهدوء في يوم ماطر في لندن، وأن يغفو في المفرق قرب والدته التي ماتت بالسرطان في عام 2000، وكانت مقتنعة بأن أي مكان لن يضمهما ذات يوم بعدما غادر الشاب يحيى النعيمي بلدة المفرق الأردنية الحورانية ليترحل تحت أكثر من سماء (عنوان كتاب له صدر في عام 2002)، ولا يستقر.
كتب أمجد ناصر كثيراً عن "يوليسيس" والعودة إلى "إيثاكا". أَتراه هو هو الذي غادر مكانه الأول إيثاكا ليشارك في حروب طروادة، وبعدما أثخنته آلام المنفى ونجا من أهوال الحرب، أمضى سنوات في طريق العودة. وعلى تلك الطريق ذاق الحب بين يدي إلهة البحر بطريقة لم يذقها أحد قبله. مع ذلك أصر على العودة إلى مكانه الأول؛ إلى "بينيلوب" التي أفنت شبابها في انتظاره. أَتراه هو هو؟ يحيى الذي غدت به راحلته إلى أمكنة كثيرة، لكنه ما انفك راجعاً إلى مكانه الأول ولو في أحلامه، لأن لا خلاص لروحه المرتعشة إلا بالعودة حتى لو اكتشف أن ما مضى لن يعود قط.

***


















أمرّ بالأماكن كراكب القطار التي ما إن أحدّق فيها حتى تختفي، وأكتشفُ أن الحياة ليست إلا رحلة في الزمن لا نتعلم فيها إلا الخسارة تلو الخسارة. ومع ذلك نواصل العيش برغبة فائرة. هذا ما استخلصته من رحيق دواوين الصديق أمجد أمثال "مديح لمقهى آخر" (1979) و"منذ جلعاد كان يصعد الجبل" (1981) و"رعاة العزلة" (1986) و"وصول الغرباء"

(1990) و"سُرَّ مَن رآكِ" (1994) و"أثر العابر" (1995) و"مرتقى الأنفاس" (1997) و"حياة كسرد متقطع" (2004)، علاوة على روايتيه "حيث لا تسقط الأمطار" (2010) و"هنا الوردة" (2017) ورحلاته التي سجلها في "خبط الأجنحة" (1996) التي "لطش" مني نسختي الوحيدة، ثم لم يُعدِها إليّ، وكذلك "الخروج من ليوا" (2010).
لكل واحد من أصدقائي خصلة. حسن خضر حين جاء إلى بيروت بعد غيبة طويلة بادرني برغبته في تناول الفلافل، فقدتُ سيارتي إلى مطعم صهيون، وأطعمته ما يشتهي. والصديق يحيى يخلف (أبو هيثم) مغرم بالشاورما. وفي إحدى المرات اصطحبتُه إلى مطعم بربر وتناولنا معاً رقائق الشاورما، ومازحته بالقول: ما رأيك بصورة الآن أنشرها وأكتب تحتها: وزير الثقافة في فلسطين يزدرد الشاورما في بيروت. أما أمجد ناصر فكان يحلو له الاسترخاء في مقهى ليلى وأمامنا كؤوس العصير وفناجين القهوة، وهات يا نميمة.
ها هي الأمكنة تتباعد، والزمان يضيق. وها نحن صرنا مرصودين لنلتقي بالقبلات ونودع بعضنا بالدموع، ونتبادل أرقام الهواتف. وها هي الأيام "تفرفطنا" مثل تويجات الزهر بين أصابع شقي أرعن. جيلنا المتمرد الذي انغمر بالعنف الثوري، ثم انثنى إلى العزلة بعدما كابد رعباً مديداً، كان مصيره إما الموت انتحاراً أو الموت بالجلطة أو العيش بالجنون. ومن نجا من أهوال أيامه عاش كأنه يمشي ضاحكاً إلى غير هدف. أما أمجد ناصر، ذلك الشاب الحالم من بلدة المفرق، فعاش قريباً من زوربا اليوناني، وغير بعيد عن "يوليسيس" الإغريقي، مجللاً بالجمرات وثراء الشعر، كأنه يغرف من ينبوع حزن.
أنا في انتظارك يا صديقي في مقهى ليلى كي تعيد كتابة "مديح لمقهى آخر"، وترعى العزلة كي تبقى للعابر آثاره. أما زالت رائحة صابون zest على جسد صبية تدالكتما يوماً تفعم أنفك، وتحفّز حواسك البدئية؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.