}

المَبيت في الفيافي

مي عاشور 6 مايو 2019
تخف حدة الآلام عندما نؤمن بأنها عابرة

يصير ما يقرأه المرء خريطة تؤدي به إلى الوصول، حينما يضيع ويضلّ الطريق. منذ أشهر قرأت نصّاً للكاتبة الصينية بي شو مين تحت عنوان "السفر عشبة تداوي عطرة"، حكت فيه الكاتبة والطبيبة النفسية الأشهر، بي شو مين، أنها عالجت امرأة من الاكتئاب الحاد بالسفر. ولكن كان شرطاً أن تذهب إلى رحلات شاقة متتالية، لترى وجهاً آخر من الحياة. طلبت بي شو مين من المرأة أن تذهب إلى مكان ظروفه الجوية غاية في السوء، بل وأن تختار رحلة زهيدة الثمن، حتى المأكل والمسكن كان صادماً لها. وفي لحظة، كأن المكان امتص تدريجياً الهموم التي ثقلت صدرها، بُدد الاكتئاب، وغير السفر نظرتها إلى الدنيا بشكل أو آخر، وجعلها تُقدر قيمة الحياة.
ثمة ألم يلاحقك، تحاول الفرار منه، فتركض وتركض وتركض، تبدو أمامك كل الأمكنة محدودة ومغلقة، لا تتسع للصراخ أو القفز من فرط الوجع. قادتني قدماي إلى السفر... السفر إلى مكان بعيد شديد الرحابة....
أنهكتني المسافات، ولكنها جعلتني أفكر وأتأمل وأحرك التساؤلات الراكدة في داخلي: كيف لا يستوقف المرء ما حدث له في حياته، وخاصة تلكَ الأشياء التي حدثت له في ومضة عين، ووقعت على رأسه دون تمهيد؟ كيف يعقل أن لا يدفعه ذلك للتفكير والتساؤل، وكيف لا يُعقد لسانه عن الكلام، ويقوده عقله للتأمل طويلاً في ما جرى. كيف يمكن للمرء أن يرضى أن يعيش هذه الحياة بمنطق عابر السبيل، أو ينظر إليها بعيون راكب يسند رأسه على نافذة حافلة... يرى مرور المشاهد سريعاً دون أن يتعلق بصره بأي شيء. وكيف يرضى أصلاً أن

يكون أشبه بتمثال موضوع في ميدان، أو كخيال مآتة في حقل، يمر كل شيء من حوله، ويظل هو مكانه لا يلتفت ولا يتفوه، وكيف يمكن للمرء أن يتجاوز كل الآلام التي لا يطيقها، يجعل جروحه تلتئم، حد أن تصير ندبة جافة، لا تؤلم إلا بالنظر إليها، لأنها تذكره بكل ما عاناه.
لا يمكن أن يتغاضى الإنسان عن أي شيء يحدث له في حياته بحجة أنه مضى إلى حال سبيله، أو انتهى أو تلاشى، كما يتلاشى البخار المتجمع على المرآة، دون أن يسأل نفسه: ماذا حدث، ولماذا، وكيف حدث؟ وسيظل السؤال الأهم دائماً، كيف تعامل معه؟ هل كان جد صادقاً وشفافاً ومخلصاً حينها؟
قلة النوم التي توهن الجسد، والطريق الطويل المتعرج الممتلئ بالحصى، وفوبيا آلام المعدة، كلها مخاوف تجتاح تفكيري، ولكن ما يخيف المرء أحيانا يدفعه إلى التجاسر على هواجسه. إن عالمنا ضيق، والسفر عالم آخر لا حدود له، واتصال عالم المرء بعالم السفر يشبه التحاق كويكب بمجرة ضخمة، تتزاحم فيها آلاف النجوم والكواكب، فيسبح المرء في رحابها، يتسع أفقه، وتتصاغر آلامه وأحزانه أمام تجارب مختلفة يمر فيها.
أفكر في التراجع عن فكرة الذهاب إلى التخييم في الصحراء، صورة اتساعها اللامتناهي يربكني، تستدرجني بعض الأفكار والمشاهد السائدة عن الصحراء: كالضياع، والرمال المتحركة، والجن الذي يسكن الأماكن المقفرة، وزحف العقارب والأفاعي على الرمال الناعمة، فتلدغني وأنا مستلقية عليها.

أدفع نفسي إلى الذهاب...
نذهب قبيل الغروب لنبدأ التخييم، يبدأ الهواء اللطيف في تسليم دوره إلى برودة الصحراء، جو بارد يتسلل إلى الجسد، ينفذ إلى الخلايا إلى حد تجميدها، لا يحميك منه سوى ملازمة الجلوس

إلى جانب النار، أرى ظلي ممشوقاً ومتماوجاً مع حركة اللهب.
تدهشني قدرتي على التخلي عن الأشياء، والتي خيل لي أنني لا أستطيع الاستغناء عنها ليوم واحد. المبيت في الفيافي يعزلك عن العالم، يمر الوقت بشكل مختلف، وكذلك أيضاً تتدفق المشاعر والأفكار بشكل مغاير. صورة أخرى للحياة ترتسم أمام عينيك، تنقلب بعض الأمور رأساً على عقب، فأدرك أنه لا يحتاج المرء إلى الكثير ليكون راضياً، يكفيه الشعور براحة في داخله، لا يشوبها الألم.
لا توجد شبكة للهاتف الجوال. صار الماء شحيحاً، لا يمكن الإسراف فيه، زجاجة واحدة هي كنز. لا توجد سوى خيمات صغيرة هشة، وتشكيلات صخرية جيرية، مخيفة المنظر. نحن في الصحراء البيضاء.
هدوء تام يطوّق المكان، تجربة جديدة، رمال ناعمة الملمس، وظلام يلف السماء بوشاح شديد الحلكة، لكنه في نفس الوقت مرصع بالنجمات والشهب. أتوسد الرمال، أسمّر بصري إلى الأفق، وأسبح مع أفكاري، تطفو بعض الآلام مجدداً، ولكنها لم تعد بنفس الحدة. هل تصادمي معها أدى إلى انشطارها مثل كوكب صغير ذاب فتاته في الفضاء؟ قد يكون كذلك.
أشعر أنني على وشك الخروج من هذا الممر، أنا الآن على الحافة أقف. خطوة... خطوة واحدة، تفصلني عمن أعيشه وما طويته. أقف وظهري للظلام، ووجهي يستقبل النور... وظلي ضخم يتمدّد ورائي على أرض الممر المعتمة. يتباطأ وجيب قلبي، يهدأ تماماً، وتنساب كلمات من بين شفتاي: من يهربون من آلامهم، يحاصرهم الوجع في وقت لاحق، أما من يواجهون آلامهم، فيرتحل الوجع عن قلوبهم ولو بعد حين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.