}

كايا

عماد البليك 4 سبتمبر 2018

عزيزي كريستوفر، هاهي شمس يوم جديد تكاد تفلت وراء الهضاب الشامخة، وهناك.. وراء كل شيء.. كل ما يمكن تخيله في محيط الذاكرة وربما محاولة صياغته في الدماغ الهزيل، فدائما توجد أشياء كثيرة يمكن أن تروى. لكن دعنا من رواية القصص. ودعني أقول لك الآن وأنت بعيد في مكان قصي من هذا الكون الغريب؛ إنني أتذكر تلك اللحظة بذاكرتي المتعبة في معظم الأحيان.

تبدو الشمس بائسة، شقية، أو هكذا وصفتها أنت.. وأنت تقول ذلك بما يشبه الطرفة، بما يعني أنك غير مهتم بشيء سوى الغروب. وفي الليلة نفسها كلمتني عن الفيلم الجديد الذي تعد له بالاسم نفسه "الغروب". هكذا كانت استعاراتك كلاسيكية وبسيطة، لكنها ذات مغزى عميق وقوي. ربما لم أكتشف ذلك إلا بعد سنين، يبدو أني وقتذاك كنت بسيط التخيل، أو لم أكن كما أنا اليوم.. أو كما أظن؛ صافي الخواطر، عميقا في روحي، ولي أكثر من بعد أعيش به في هذا العالم المدهش والحزين.

من بعيد لمحنا غروبها.. شمس كيب تاون، ربما كنا عند الأرض المنخفضة أسفل الجبل المسمى بالطاولة، يشبه مائدة طعام إلهية كبيرة أعدت ليوم ما، أتخيلها لتلك الساعة الأخيرة من قيامة الكون. لكنك كنت تسخر مني، وتقول لي إنك أسير ترهاتك الدينية. أنت لا تعرف كيف تفكر خارج مجازك العقائدي، وإرثك.

حاولت أن تشرح لي الاختلاف بينكم وبيننا، صحيح إننا بشر جميعنا، لكن ثمة اختلاف عميق لا يمكن ردمه بسهولة. هوة. كلمة "ردم" قلتها لي باللغة العربية التي كنت تتكلمها بشكل جيد. لن أكذب وأقول ممتاز. لكنه جيدا بما يكفي لكي تقارع الآخرين بها.

في ذلك اليوم والشمس تتدلى، تختفي هناك. وراء الأفق. أخبرتني بل طلبت مني ألا يعلم أحد بأمر علاقتك باللغة العربية التي كنت قد تعلمتها في ظرف عامين بالقاهرة. لم يكن تهديداً ولكن كان رجاء من محب، كما حددت بهذا الوصف. ولم أجد في نفسي الشجاعة – كعادتي – لأسألك، ولماذا يجب أن أصمت؟ أو بشكل آخر، لماذا لا تريد أن يعرفوا ذلك؟ لماذا تدسه؟.. ثم توصلت لقرار مبدئي أن كل إنسان حر في أشيائه وعلى الآخرين احترام ذلك.

تقدم الليل بنسمات من الطاقة العجيبة التي دخلت في مسامات روحك؛ أتى بها ذلك الشبح الأفريقي الغريب، الذي كان يتقدم منك، الذي سوف تتعرف عليه بعد قليل، عندما وجدت أنك تسير وحدك في ممر شبه مظلم من الفندق، كأنك تمشي في سرداب من قرون قديمة مهجورة، بائدة.. أو لكأنك في حلم أو كابوس مخيف بالأحرى. وسمعته يهددك أو يستلطفك، لم تكن قادراً على التمييز في ظل غشاوة انتباتك، وتوقفت لتجيبه:

"أعرف من أكون.. من أنت؟"

لم يكلمك.. كان الشبح يشير في الظلام، وهو يرسم في الطقس حولك بهجة البرودة، وبعد قليل تلاشى عنك، لم تعد إلا وحدك ومزيد من خيالات الطفولة البعيدة في ديارك.. هناك.

بعد ثوان ربما دقيقة بالدقة التامة، وأنت خارج من الحمام في الطابق الأرضي بالفندق الذي بني على شكل هرمي على ما تذكر، وقف كريستوفر أمامك من جديد، تخيلته في البدء ذلك الشبح وقد أطل مرة أخرى، هذه المرة في الضوء.

تلاقت الابتسامة، منك ومنه، ثم رأيت أنك تريد أن تكلمه بسر ما، فالذي يبدأ صناعة الأسرار لا بد أن يكون مستعداً لسماع الكثير من الطرف الآخر.

أمسكت بيده مثل صديق، حميم، قديم، وكانت حرارة يده تشير لغموض تشعر بأنك قادر على تفسيره مثل أمور كثيرة في العالم، تراها سهلة في البداية ثم تقترب منها تفكيراً وفي النهاية لا تصل لأي شيء مطلقاً، سوى الإحساس بالضعف والوهن النفسي، والرغبة في البكاء العميق، أنك تخسر المعنى الذي كان كامناً فيك، فالمرء قد يفهم مرات ومع الإصرار لا يعد يدرك ما كان يعرفه في الأصل، تضيع عنده كل خرائط الإدراك والبصيرة.

الأيادي لها لغة، وهي تصفق بعضها بعضا، وهي تتلامس مثل أغصان الشجر المهتزة في الليل البهيم مع إحساس بصباح جميل قادم، فهذه النباتات تفهم الكون، تدرك لغته وأسراره أيها الجاهل؟

هل سمعت العبارات الأخيرة منه، من صاحب هذه اليد، أم ذاكرتك الضحلة، التي لا تكاد يصل عمقها إلى بضع سنوات فأنت سريع النسيان، قلما تستطيع أن تبقى الوقائع في دماغك وحتى المشاعر تفرمها مع الزمن وتهرسها فلا يعود لها من شكل ولا ظلال فيك أبداً. تلك كانت واحدة من الخطايا التي تؤرقك، ومرات تسمع صوت من داخلك، من مكان مجهول يخبرك. رويداً لا تقلق. هذه هي حقيقة الإنسان، ألا يُبقي على شيء. لا بد من ممارسة الكنس المستمر لتفاصيل العالم والحياة من حولنا.

يبدو ملمس اليد صافياً مثل قلبه، فكل أجزاء الجسم البشري، ذات صفة واحدة. القلب واليد واللسان والكبد والطحال والأنامل، تعزف الأنعام نفسها، وتعيش الخواطر ذاتها. البراءة تولد وتنكسر وتعيش وتهيم. عندما يكون من قصص مسلية أو محزنة، أو رهف إنساني أو حب عميق. كل ذلك لا يتجزأ، لا يمكن للقلب أن يخالف الروح الذكية ولا اللسان الطيب. إلا عند أولئك البلهاء أو الكذابين، أو المراهقين في درب العالم، الذين لم يتدربوا على الإمساك بالوجود بدرجة صادقة، فسوف تهتز عندهم العلاقات بين بعض أجزاء أجسامهم وهذا دليل علّة وقد يكون له معنى آخر متعلق بالشفاء المقبل.

تحاول أن تشرح له علاقتك بهذه الأمور بدقة تامة، وكيف أنك منذ زمن ما، يصعب تحديده، كنت قد عرفت الاكتشاف المبكر لخواص جسدك وأسراره في تعاطيه مع الآخرين، الناس. ليس في مجاز اللذة الحسية العابرة، بل في معنى أعمق من ذلك بكثير. الإحساس بدفء أو راحة لا يمكن تفسيرها أو فهمها إلا بالتجربة، فثمة ما نعيشه في هذا العالم ولا نقدر على تلاوته إلا في حدود التجربة التي يجب أن تعاش لتفهم، وحسب.

عندما أدركنا الباب الخارجي للفندق، الزجاج الدوار الرأسي، حيث على الجانب الآخر توجد منصة لكابينة الهاتف، ومعها تتذكر ضرورة الاتصال بأهلك في البلد، تنسى ما هو أهم في تلك اللحظة، أن كريستوفر، كان يسأل سؤالا لم تنتبه له، كان يكلمك عن ذلك الشبح، هل رأيته؟

لم تنتبه أو لا تعلم ما الذي حدث بالضبط؟! في تلك اللحظات، وليس بإمكانك الآن أن تتذكر أي شيء. فقد مضت أكثر من عشر سنوات على تلك الهنيهة التي تستعيدها اليوم وأنت جالس في مكان آخر. ليس ذلك الفندق ولا البلد ولا الناس.

أنهيت المكالمة، وضعت السماعة الثابتة في مكانها على الكابينة، وأنت شبه سكران، تترنح، هل كانت بضع قطرات من ذلك العرق كافية لجعلك تخرج عن نطاق سيطرتك على روحك وعالمك الخارجي؟ هل أصبح سجنك الداخلي لا يعرف كيف يتحكم في الوجود؟ مثلما كان يظن من قبل؟

أسرع كريستوفر للإمساك بك وهو يهز رأسك إلى أن أوقفه في وضعية مستقيمة، وقد يكون صفعك بهدوء على خدك، ليخبرك أنت بخير، وأنك لم تسقط على الأرض، ويجب أن تعود الآن إلى الغرفة لتنام، فقد أسرفت في الشراب بعد العشاء في القاعة المستطيلة من الفندق، التي أعدت خصيصاً للوفد الضيف، وأنت عضو فيه، مثلما كان كريستوفر عضواً آخر.

في القاعة كان هناك صفان بمواجهة بعضهما بعضا، كل واحد يتكون من مجموعة من الرجال والنساء، بعضهن جميلات، باسقات ورشيقات، ومع لذة العرق والطوفان الذي يغمر روحك كنت كمن يطير إلى أعلى ومن ثم يشاهد كل شيء من فوق.

كانت الفتاة البولندية، والروسية وواحدة هندية، ورابعة من كوبا.. وكان الشباب العرب وبعض الهنود والأوروبيين يصيحون بعد أن غرقوا في السكر، ولم يعد من أحد يميز سجنه أو حدود عالمه الواقعي أين تنتهي ليبدأ خياله، وفي ركن بدأ الجميع يرقصون على أنغام يصعب تذكرها الآن، لكن الموسيقى كانت فواحة نعم كان لها رائحة مثل الورد، في تلك الأيام كانت الأنغام بروائح ذكية، والروائح لها موسيقى.. كان للعالم بدايات حرة ثم تاهت بعدها البوصلة وعدت في العمى الكلي بعد أن انتهى بك حلم أسبوع أو عشرة أيام بصحبة كريستوفر ونانسي التي أحبت كليكما، بلا أدنى فرق.

والغريب أن نانسي لم تكن من المجموعة الرسمية، بل كانت فتاة شبه غجرية إذا جاز الوصف، تقول مرات إنها من جزر القمر، وأحيانا تضحك وتحتال علينا وتخبرنا أنها من زنجبار، جاء أبوها ليقيم في جنوب أفريقيا منذ سنوات وهو مالك هذا الفندق العتيق، وهو أمر يصعب تصديقه أو فهمه بأن تكون الأميرة خادمة. ومرة قالت إنها من المالديف. وإذا كانت بشرتها سمراء تميل لحمرة مشوشة، فهي تشبه إلى حد ما قمرا سماويا ضل طريقه إلى مجرة درب التبانة في ليل بهيم.

التشبيه الأخير من خيالها هي، وهي تتكلم باللغة السواحلية التي سوف تكتشف أن كريستوفر يعرف القليل منها، وأنت لا تفهم منها أي شي. قام بمهمة الترجمة والتفسير وأنت تثق في قدراته، والأهم لا تفكر أنه يكذب عليك أو ينسج قصصاً من خياله وهو ينقل لغة إلى أخرى، في حين لا تعلق نانسي ولا تبدي أي ملامح ما يجعلها على الحياد.

في نهاية الليل، وأنت عائد إلى غرفتك بعد أن أوصلك كريستوفر خشية أن تقع مرة أخرى في الطريق، كنت تحاول أن تستجمع ما قلته لوالدتك في الهاتف، فلا تتذكر أي شيء سوى وعدك لها بأنك قادم إلى البلد في وقت قريب، وأنك تشتاق للسودان كثيراً، وأن الغربة هي الداء اللعين الذي لا يشبهه شيء سوى الموت. ولأن اليوم كان يصادف عيد الأضحى الذي لا يهتم به الناس هنا في هذه البلاد، فقد بكت هي كثيراً، ويبدو أنها اشتمت رائحة فيك رغم بعد المسافات، وهي تسألك بنشيج بكائها وصوتها المبحوح، أنت سكران، ألهذا انتهيت، أبوك كان رجلا صالحا؟! كنت أعلم أنها كاذبة.

كانت تعيد ذكريات لا أحب أن أعيدها، بل ليس لي أدنى رغبة في أن أرى صورة الأمس تطل في دماغي حتى لو أني سكران، تلك الليلة التي دفناه فيها في المقبرة الشرقية من البلدة، حيث لا قمر ونجوم متناثرة ثكلى في السماء، وقليل من البشر الذين جاؤوا في برد قارس إلى الخلاء بعكس عادة الناس وهم يشاركون في الأفراح والأتراح. والسبب يتعلق بالنهاية التي انتهى إليها ذلك الأب، ليس لك الآن سوى البكاء كما أمك، وقد أغلقت الهاتف، وأنت تصرخ في المجهول، كفى، حرام، اتركوني وحالي لست أنا من يعيش في الأوهام، لقد ضيعت نصف حياتي ولست على استعداد لإضاعة النصف الآخر.

هل كنت تخاطبها وأنت تعرف أنها لا حول لها ولا قوة، وليس لها من رجاء في هذا العالم سواك، أنت، لا غير، كم كانت تسهر لأجلك أيام الحصبة وهي تغزو جسدك، وفي الليالي التي كانت العقارب تصطادك بسمها الزعاف وأنت نائم في قنّ الدجاج بعد أن هربت مختبئاً من ويلات ذلك القدر اللعين الذي كان بلا اسم، ذلك الكائن الذي يشبه هذا الشبح الذي رأيته قبل قليل في الممر.

لحد ما تتداخل عندك الصور وأنت تلقي بجسدك الهامد على اللحاف الأبيض، تستطيع أن تميز اللون حتى لو أن الإضاءة قد أطفئت، فقد كانت الستارة مفتوحة وهناك نور يأتي من بنايات المدينة المتناثرة حول الفندق، يغمر الغرفة تماما كأنها ليلة القدر. وكأنك سوف تنام في قارب فوق بحر مضطرب من الضوء، ثم تحفك ملائكة طيبة وأخرى كريهة، وأنت وحيد إلى أن تسمع أو يخيل لك أن ثمة طرقا على الباب، تتغافله للحظات بظن أنه من إملاء خيال اللاوعي، لمخلوق بين اليقظة والأحلام والهلوسة.

ويرتفع الطرق، في الغرفة الواقعة بالطابق السابع من الفندق الذي يصل ارتفاعه سبعة عشر طابقاً، تقوم وأنت شبه عار، بالمايوه فقط، والعرق يبلل جسمك فقد كان الغطاء كثيفاً وقد نسيت أن تفتح التكييف، ولم تكلف نفسك بالنظر في العين السحرية من الباب، لترى من يكون بالخارج. وما أن تفتح الباب إلا ويقع جسد عليك، يأخذك إلى السرير، إنها هي ما الذي جاء بها؟ لم تفكر هكذا إلا فيما بعد، بعد أن غسلت روحك بروحها، كانت نانسي هي الأخرى غارقة في السكر.

في الصباح بدا كل شيء عادياً، كنت أنت وكريستوفر تتناولان الإفطار مبكراً في المطعم الرئيسي للفندق بالطابق الرابع، الذي يطل على السطح ويشكل استقبال الفندق، فهو من جهة يتماس مع الأفق السماوي وفي الجانب الآخر يبدو مع سطح الأرض، في المنطقة ذات الطبيعة المنخفضة والمرتفعة التي تشبه تضاريس الجنة كما تخيل كريس، وهو الاسم المختصر لصديقك الذي أطلقته عليه نانسي.

من المطعم وإذا نظرت إلى جهة الشرق أو الغرب، حيث تختل عندك الاتجاهات وهو مرض أصابك منذ أن فارقت بلدك، حيث لم تعد تملك تلك البوصلة القديمة؛ سوف ترى بإطلالة لتلك الجهة، ملعباً للجولف، وكان في هذا الوقت المبكر عدد من الرجال الذين يمارسون اللعبة التي لا تفهمها فأنت لست من زمرة البرجوازيين، أنت فقير وستموت فقيراً، تخبر نفسك وتضحك معها، وتتذكر أنك مثل هذه الأشياء التي تكلم بها ذاتك قد تكون مخفية أحياناً خاصة عندما تأتي من مكان مجهول داخلك، لا تعرف أن تتأكد أين هو بالضبط!

لدقائق لا تعد تسمع سوى صوت الملاعق والشوك في المطعم، وربما حركة السكاكين الصغيرة وهي تقطع الكيك والبيض والجاتوه، وتحاول أن تفكر خارج كل هذه المشاهد التي أمامك في ما يجعلك كائناً يفهم من يكون بالضبط؟ فتعجز! ومن ثم وأنت في هذه الحالة من الغضب الجواني غير المبرر أو المفهوم، تلمح من بعيد نانسي وهي تدخل إلى المطعم بملابس العمل، ترتدي مريلة معتمة وقد نفشت شعرها بطريقة عبثية وبدت بهية الطلة.

معها وهي ترسل عطرها الروحي في المكان، تحاول أن تبدو مثل كائن جدي، ويلاحظ كريس هنا أنك تتحرك في الكرسي كثيراً، وكأنك تنوي أن تنهض دون أن تفعل، يكتفي بأن يبتسم لك ابتسامة واضحة ومفهومة المعنى، ولا يعود يتكلم أو أنت الآخر. ومن ثم تواصلان النظر إليها، وهي تدخل إلى الجانب الآخر من المطعم حيث الغرفة الداخلية لإعداد الطعام.

يمضغ كريستوفر الطعام ببطء حتى لا تكاد تسمع له أي صوت، بعكسك أنت الهمجي، حيث لا تعرف أن تحرك اللقمة إلا مصحوبة بضجيج وألم في الأسنان التي بدأت في التساقط منذ عامين، في سن قد تكون مبكرة، فأنت الآن لا تزال في الحادية والثلاثين من عمرك، كيف يحدث ذلك، فأبوك مات ولم يفقد أيا من أسنانه يوم دفنته، لكن يبدو أنك تأثرت بأمك التي فقدت معظم أسنانها في سن صغيرة، ربما بسبب كثرة العويل والهموم التي تجعلها تصطك دائما.

انتظرت أن تخرج نانسي من الغرفة الداخلية، لكنها تأخرت، إلى أن ظهر الرجل المكلف بترتيب أمور الرحلة لكما في هذا الصباح، وكان يشير لكما بأن الوقت قد آذن ويجب الاستعداد، وكان عليك أن تذهب إلى الغرفة لتغيير ملابسك وقبلها تأخذ دشاً سريعاً.

كان رذاذ المطر في الصباح رائعاً، ومن تحته بدا تراب المدينة غارقاً في تيه لحكاية غامضة سوف تفهمها ذات يوم. فأنت فكرت بهذا الشكل في تلك القصة غير الواضحة، نسبة لأنه خلال تلك اللحظة كنت تفكر من داخل مكتسباتك المعرفية في تلك الأيام، أن الإنسان هو أسير ما يقرأ وما يرى وما يسمع. ومعظم اطلاعك الأخير قبل أن تصل هنا، كان يدور حول ما يمكن أن تطلق عليه البعد الخفي لحياة كل إنسان، ذلك الجانب العميق الذي لا يفهمه حتى المرء نفسه، يحاول أن يمارس وجوده بهدف أن يصل لذلك. يصلي أو يسكر أو يسترخي بالتأمل واليوغا. كل ما يمكن أن يحرره كما تتخيل.

التراب لم يصبح طيناً، كان الماء يذوب في الأرض حتى لو استمر المطر يصب لساعات، في قصة مشوقة لحكاية الأرض والماء. وهي القصة التي سوف تحاول أن تقول لنفسك إنها تشبه ما بداخلك من وعي لذاتك، كل ما تتعلمه أو تحاول أن تهضمه من معارف يصبح بلا وجود، وتعود ذلك الجاهل الذي يقارع المجهول والهوى الذاتي مجهول المعنى.

تصعد إلى الحافلة بخفة فراشة، وتجلس بجوار صديقك كريستوفر، وأنتما تثرثران بالإنكليزية، لأن السر يجب أن يبقى سراً، وكان المطر لا يزال مصراً على الاستمرار في الهطول، في حين أن المعطف المبتل لا يبدو عليه أنه يكره الماء فقد نشف في وقت وجيز، وهي معجزة لم تفهمها، وكان كريس يعرف أنك فكرت في ذلك وقد ضحك ربما لأنه يدرك السر الذي لا تدركه. وانطلقت الحافلة تأخذكما في ذلك الصباح حوالي الساعة التاسعة إلا الربع، إلى واحدة من الغابات البرية المغلقة، حيث محمية للحيوانات المتوحشة، أسود ونمور، وغيرها. وقبلها كان لا بد من استبدال الحافلة بسيارة خاصة ذات شبك قوي وزئير قوي.





*كاتب من السودان



****

 

إشارات:

- كايا مدينة في جنوب السودان على حدود أوغندا

- خلّفت المواجهات التي اندلعت بمدينة كايا الواقعة جنوب غربي البلاد على الحدود مع دولة أوغندا 15 قتيلا في صفوف المعارضة الموالية لنائب الرئيس السابق، ريك مستشار، فضلا عن مقتل ثلاثة جنود حكوميين، بينما جرح 20 آخرون ومات فيها الصحفي الأمريكي كريستوفر ألين.

- الصورة من أرشيفي مع الصحفي الأمريكي كريستوفر ألين الذي قتل في معارك جنوب السودان 26 أغسطس 2017. الصورة تعود إلى ديسمبر 2004 وكنا في رحلة عمل بجنوب أفريقيا - كيب تاون. كان كريستوفر يجيد اللغة العربية وشغوفا بالحياة وبسيطا وله العديد من الأفلام، فعمله الأساسي يصب في مجال الأفلام الوثائقية وقد صور "فلاي" عن اللاجئين السودانيين الفارين عبر القاهرة إلى أمريكا ومعاناتهم.

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
4 سبتمبر 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.