}

حيّ على النجاة

جمانة دحمان 27 يوليه 2018
سير حيّ على النجاة
لوحة للفنان شوقي عزت

إلى التي أتخيّل جلدة رأسها وهي حامل بشهرها العسل، فأضحك؛ التي يستقيم العالم في الفراغ الفاصل بين أنفها وشفتيها المطبقتين شجراتُ الكرز. إلى التي يبكي أنفُها وتُعلِّق بين حاجبيها الرفيعين أرجوحة صمت، التي تصلح شامات خدّها لأن تكون لُعاب شجرة، وتصير أقدامها حلوى نصيب الضاحكين، التي ينام جبينُها على خصر حصان، ويصيرُ سائل ثقب أذنيها حبرًا ثمينًا، التي تُكثر من تحريك يديها أثناء الحديث، إلى أصابعها أبناء قصبِ السكر، بنات عمّ الجنّة، التي تضحك يداها بغنجٍ شديد أثناء الطرب، إلى السكون الذي يستقرُّ في حنجرتها المهذّبة، والكلمات التي تختبئُ في ظلِّ النُعاسِ هناك، إلى التي تَمتص بأصابعها دمّ أسنان المشط وتخجل، التي تصاحب ذاكرة الزمان، أكتب إلى صمتها، سيفها المسلول، التي سألتها مرةً كيفك؟ فضحكت وعادت يداها تصرخُ من جديد، إلى جفنها الواسع الرحمة المليء بأفواهٍ تدغدغُ أقدام المعتقل بالقُبلات، حينَ يجيء في البال ولا يذهب، حينَ تَبكيهِ بصمتٍ فيتوقف السير، هُنا، على الجفن العريض، الجفن المبلل دومًا، يقف المعتقل ليستريح، يتعلقُ أثناء الضحك من رموشِ ابنتهِ، ابنة الأعوام القليلة دومًا، عبير.

إلى هذهِ القوية التي تتربع في جسدٍ نحيل، التي تخدعنا بهدوئها الغزير بينما صحراءٌ تَلِدُ بحرًا في سماءِ سكوتها المغموم، أكتب إلى الفتاةِ التي استفاقت من رحم أمّها ووالدها أَخيذ، وصارت صبيّة وظلَّ يذهب حيثُ البعيد. أكتب إلى يديها، يداكِ نعم، وإن كنتِ تقرأين، لأنَّ لا شيء يسكن في دهاليزي إلّاها، حين ذهبتِ، أنتِ، الطفلةُ القصيرة ذات الأصابع الممشوقةِ القمحيّةِ والأظافِر المهترئة، ذهبتِ لرؤيةِ حبيبك الذي يظلُّ ذاهبًا حتى حين يجيء، أتذكر يومها اختراق أصابعك للشبك الضيّق الرحمة، أتذكر كيف طبعتِ قبلةً بالسبابة وحين صعدت تحسسُ جبينهُ وقبلها هو، إلى تلك البصمات، بصمات جبينِ المعتقل التي قد تظهرُ على هوّية اللجوء التركية الجديدة، آثارُ ذقنِ محمّد، قبلاتهُ وصلواتهُ على إبهامكِ الأيسر. قبّلي أيَّ هويةً تحمل بصماتك، آثارُ حبيبكِ البعيد، وملامحُ شفتيه.

أيها السهم الكثير الريش معنى اسمُكِ، والروائح الراكضة في عين تسنيم، أنقى مياه الجنّة. يا عبير، عبّورة بصوتِ الغائب الأسِف، التي سألتها يومًا عن اللحظات القارس بردها بينها وبينَ والدها، جلست باستكانةٍ تقول: حينَ جاءَ يركض من بين الحصار يسبقُ الريح ليلتقطني من بين يدي الموت، جاءَ يصرخُ بدمعٍ حافلٍ، وصوت غريق، جاء والمأساةُ تحوّلت قصيدة كلُّها ذهول. جاءَ فصار احتمال موتي مجزرة مذهلة.

عبير الصغيرة ذات المبسم البشير التي هاتفتني بعد حَرب، عادت. الناجيّة التي ظلَّ صمتها مغوارًا أمام ريح اليأس، عادت لتقصّ علينا كيف ينامُ المعتقلُ سابقًا من دونِ أبوابٍ تغلق، كيف كان يحدّثها عن خصامهِ للأقفال، وأغانيهِ التي لحّنها للنوافذ. إليكِ إذًا، إلى الأيام السابقة التي ستظلُّ حجرًا في سقفِ حلق الزمان، إلى الأيام الآتية التي ستكونُ قوافل رعدٍ وبرق. وتظلُّ تمشي باتجاه الرحيل، تظلُّ ذاهبة مهما استطاعت إلى الحياةِ ألفَ سبيلٍ وسبيل. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.