}

ترويض الذائقة..

وفاء صبيح 23 مايو 2018
يوميات ترويض الذائقة..
لوحة للفنان السوري مجد كريديه

 

وفاء صبيح

على مبدأ "أنت لست ذكيًا إلى هذا الحد" الذي اتخذه الصحفي الأميركي المخضرم ديفيد ماكريني عنوانًا لكتابه المترجم إلى العربية في 2014، راحت وسائل الإعلام العربية، الإلكترونية منها على وجه الخصوص تعبث بهذا الذكاء، وتمارس سطوتها علينا فرادى وجماعات في صياغة عقولنا واتجاهاتنا النفسية، وأذواقنا البصرية والسمعية.

أبني على ما تقدم في تفسير "الهجمة" اللافتة على حضور حفلة المطرب السوري، المغرق في الشعبية حسين الديك، التي أقامها قبل فترة في ألمانيا. وعلى تأثير الإعلام استند في تفسير تراجع الإقبال على حفلة (أقامها في برلين أيضًا)، الفنان السوري، سميح شقير صاحب الباع الطويل في "الأغنية الملتزمة".

أمام الضخ المستدام، نتحول جميعنا إلى ما يسميه أحمد فهمي، في "هندسة الجمهور"، إلى "غريق إعلامي لايصارع الأمواج بل يتماهى معها ويدعمها"، ولذلك تماهى الكثيرون مع أمواج علي الديك وراحوا يدعمونها بنشر الخبر بين المعارف والأصدقاء، ما نجم عن كل ذلك الضخ هجمة على بطاقات الدخول، جعلها تنفد قبل شهرين من موعد الحفلة. في الوقت الذي تراجع فيه الضخ عن حفلة شقير. نحن بالمحصلة ضحايا "الصانع" ضحايا المالك، الذي خطط للاستحواذ على "المتلقي وجعله مجرد غريق. ألا يساهم الإعلام في تشكيل وعينا للواقع.

التباين في الإقبال أثار ردات فعل مختلفة بين السوريين، فقد إمتلأ الفضاء الأزرق، بتعليقات انقسم خلالها السوريون إلى"طرفي نزاع" سلمي.

نفدت بطاقات الديك قبل شهرين من إحياء الحفلة في مدينة آخن الألمانية، على الرغم من أن  سعر البطاقة يراوح بين 100- 200 يورو. في حين أن حفل سميح شقير الذي أقامه في برلين قبل شهر حضره نحو خمسين شخصًا، على الرغم الدخول المجاني.

جمهور الحفلتين هم من اللاجئين السوريين، التفسير حسب البعض سببه "فني" وليس سياسياً؟ هل هناك تفسير عميق وموضوعي يُحيل إلى دور الإعلام في تقديم "الفني"على "السياسي"، وكيف أن الإعلام من خلال اعتمادة على "التكرار" يجعل من الحبة قبة، كما يقول المثل. وهنا لا نشهر ولانشير ولا نقف مع طرف ضد آخر.

التباينات بين الطرفين انطلقت من "شو بدي بسهرة سميح شقير كلها هم وغم. الناس تبحث عما يبهجها وتجد ضالتها عند حسين الديك. القصة ما بدها إيدين ورجلين.. بسطها بتبسط". على حد تعبير أحد الزملاء في (فيس بوك).

ظاهرة تقديم المغرق في الشعبية، على "النخبوي"المألوف ليست آنية، هي امتداد لتكريس ما يمكن تسميته بـ "الترويض الإعلامي للذائقة الفنية للجماهير العربية"، وهي تتعدى الظروف السياسية التي تمر بها سوريا منذ 8 سنوات مثلا .

مؤخرًا حرصت بلدان الماكينات الإعلامية، مثل لبنان ودول الخليج، على ضخ ثقافة فنية تُعلي من شأن التأثيرات البصرية المتعلقة بالفيديوكليب مقابل الاستخفاف، حدّ الإهانة، بالكلمة واللحن.الأولوية في تلك المحطات للخصر وما دونه، من دون أن أي دور اجتماعي يعير الأهمية إلى تهذيب الذائقة اللفظية والسمعية.

على سبيل المثال، لا الحصر، برنامج علي الديك "غنيلي تا غنيلك" الذي حظي بشعبية كبيرة عربيًا رغم ترويجه لمطربين دون المستوى من عائلة الديك، وفي أمكنة أخرى لمطرب ال (جنونطو) لم يلتفت على الإطلاق إلى إفساح المجال لما يتوائم مع فكرة الربيع العربي، والتي أعادت إحياء مارسيل خليفة وأحمد قعبور والفنان سميح شقير الذي سمي – مغني الثورة السورية - بعدما أطلق أغنيتة الشهيرة "يا حيف" وكانت له حظوة شعبية في سورية..

المدرسة "الديكية"، كما يحلو لأحد المعلقين تسميتها تهكمًا، تضعنا في مواجهة شديدة القسوة مع ما مثلته مدرسة الرحابنة أو الكلثومية. "نحن أمام ذائقة عامة تزداد انجرافاً نحو الهاوية"، قالها فيسبوكي أيضًا.

حسين الديك، يقول فيسبوكي آخر، من "المدرسه الديكية للفن. ليس من اللاجئين وإنما بعض المغتربيين القدماء الأثرياء يقومون بدعوته. أما سميح فحجز الصالة لأنه لا يوجد تمويل" ثم ألغيت فلا حضور ولا سميعة!

ببساطة وهدوء. نعرف نحن المشتغلين في الإعلام، أن "التكرار" هو كلمة السر في أي دعاية، ونعلم كذلك أن البرنامج السيء يطرد البرنامج الجيد، والصحيفة الوقورة المحترفة توزع أقل من تلك الصفراء. ولذلك لا أستغرب أن يتصدّر أشباه موهوبين، في المقصورات المخصصة للموهوبين المبدعين.

لا أستغرب، ولا أستهجن أن يحظى فيديو على يوتيوب بمليون مشاهدة في عدة ساعات طالما يتناول قضايا، من الدرجة العاشرة، ولكن اليوتيوب الذي يتناول قضية جادة لن تتعدى مشاهداته أصابع اليدين. كل الحق على الإعلام، فهو يعدل، يغيرّ. يصنع. ولن نكفّ عن جعل الحمقى مشاهير.

 

*صحافية سورية

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.