}

يوميات في بكين: قول المغرب

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 19 مايو 2018

 

15 ماي 2018

وصلت من المطار الفرنسي شارل دي غول إلى مطار بكين في حوالي الساعة الثالثة والنصف زوالاً. ما يفوق عشر ساعات من الطيران في الجو. جلس جنبي فرنسي ضخم ومغرور، لا يبتسم لأحد، حتى للمضيفة التي قدّمت له الأكل والقهوة. لم يعرف كيف يشغّل التلفاز الصغير المثبت على المقعد. وظل ينظر إليّ كأنه أراد استفساري عن كيفية تشغيله. كنت في المقعد الوسط بينه وبين فرنسي آخر له ملامح مختلطة بين أوروبية وشرقية. ظلّ الضخم ينظر إليه كأنه يستجديه ليساعده في تشغيل التلفاز. لكنه ظلّ يتجاهله عن قصد. نظر إليّ من جديد ولما التفتُّ إليه حاول أن يبتسم، لكنه لم يفعل سوى فتح ثغره وتصغير عينيه. يبدو أنه لم يبتسم مرّة واحدة في حياته، ولا يعرف معنى أن تبتسم وكيف حين تريد طلب خدمة من شخص غريب عنك. وحين يئس طلب من المضيفة الانتقال إلى مقعد أمامي فارغ. لكنها اعتذرت له بذكاء قائلة إنها ستحجز المقعد له، وحين تقلع الطائرة، ويبقى المقعد فارغًا يمكن أن ينتقل إليه. نمت قليلًا، وحين استيقظت لم أجده جنبي ولا في المقعد الأمامي الذي أراد الانتقال إليه. أين ذهب؟ لقد تبخّر، لأنني لم أره ينزل من الطائرة، ولا في المكان المخصّص لانتظار الحقائب. لو كنا على متن قطار أو حافلة لقلت إنه نزل في إحدى المحطات. لكن في الطائرة؟ هل سقط في الجوّ؟

وجدت في استقبالي طالبًا صينيًا يحمل اسمًا عربيًا مستعارًا، على عادة الصينيين الذين ينتقلون للدراسة في البلدان العربية، اسمه طاهر. رأيته يحمل ورقة كُتب عليها اسمي، ولما لمحني لوّح بيده وابتسم، بادلته التلويحة، حملنا الحقائب وتوجهنا مباشرة إلى فندق "زهونغ كسي". ويقع بعيدًا قليلًا عن مركز المدينة، قريبًا من جامعة بكين، حيث كلية اللغات التي جئت لأدرّس بها.

16 ماي

أخبرني طاهر أن الأستاذ ورئيس قسم العربية بالجامعة، واسمه الصيني كسو كينغ غو والعربي بسّام، والأستاذة بنفس الكلية واسمها الصيني يو ماي، ومعناه الزهرة التي تتفتّح في الشتاء، سيأتيان للفندق الساعة العاشرة صباحًا لأخذي في جولة صباحية أزور الجامعة وكلية اللغات، وغيرها من المرافق الجامعية كالمكتبة والحجُرات والجو الدراسي العام، تمهيدًا لانخراطي التدريجي في المناخ العام.

خلال جولتنا حدثني الأستاذ بسّام عن تجربته في ترجمة الشاعر أدونيس إلى الصينية بمساعدة يو ماي، وعن اشتغاله على أعمال نجيب محفوظ، وترجماته أيضًا لمنتخبات من شعر محمود درويش.

اشتدّت الحرارة في بكين، وبدأ الاحتباس الحراري يُظهر أسوأ ما عنده. الجو حارٌّ جدًّا لكن الشمس غير موجودة في السماء. طمأنني الأستاذ بسّام بأنها موجة حرارة عابرة، وكانت مناسبة أبرز فيها معرفته الكبيرة بالطقس في المغرب: مراكش، الرباط، فاس، الدار البيضاء، بلسان عربي فصيح. افترقنا عند باب الجامعة ضاربين موعدًا في محاضرة الغد التي اقترح عليّ أن تكون حول المغرب، الإصلاح والانفتاح، وهي المحاضرة التي هيأتها تحت عنوان "قول المغرب".

17 ماي

اتصل بي في غرفتي بالفندق عبر الهاتف طالب ماستر بقسم اللغة العربية واسمه توفيق. قال إن المطر يهطل وإنه قادم لاصطحابي في جولة بمركز المدينة، وأيضًا من أجل اقتناء بطاقة الهاتف بغرض الاتصالات الداخلية. فتحت النافذة وراقني منظر المطر، والسماء الهادئة، والمحيط الهادئ مثل زهرة ترتوي من ماء السماء.

عشر دقائق كانت كافية لوصول توفيق إلى الفندق. حمل معه مظلة لي، ولم أعرف كيف أشكره لأنه فكّر في أمرٍ فكّرت فيه قبل قليل. خرجنا نمشي ببطء، يتكلّم توفيق وأنصت إليه، وأتكلم أنا وينصت إليّ، كأنّنا في حوار مسرحي مضبوط الكلمات والجمل لا أحد منّا يجرؤ على الارتجال فيه. لم أعرف كيف بدأنا نتحدث عن الأدبين العربي والصيني. هو يكلمني عن نجيب محفوظ وأنا أكلمه عن مو يان، فخر الصين الأدبي، الحائز على جائزة نوبل. حملت معي من المغرب رواية مو يان "الصبي سارق الفجل"، على غلافها يظهر وجهه المضحك، لا يحمل قسمات جميلة، بل وجه، كما قال الروائي الصيني أ. تشنغ: أشبه ما يكون بحزمة فجل تم اقتطاعها من حواف الحقول. لكنه مع ذلك هو وجه، كما هي وجوه الصينين جميعًا، يحمل علامات فريدة، وتكمن في زواياه أشياء كثيرة غير عادية.

ضحك توفيق من ملاحظي وأفادني بمعطيات عن الكاتب أهمّها أنه ريفي قحّ، وأن لغته فيها عنف، هو نفسه، أي توفيق، لا يفهمها. تذكّرت ملامح مو يان، ورفعت نظري مباشرة إلى ملامح توفيق، فوجدت نفس الفيض من الإشراق والتسامح.

17 ماي، بعد الظهر، كلية اللغات

  تكاد الجامعة تتخذ حجم مدينة صغيرة. لها جناحٌ غربي، وآخر شرقي، هو الذي تمشينا فيه والمطر يهطل، على ممرّ يسميه الطلبة "ممرُّ العُشّاق". ولجنا مقهى صغيرًا في غاية الجمال والهدوء. مقهى فنّي لا مثيل له. رفوف من الكتب، طلبة من كل الجنسيات، ذلك لأن الجامعة تدرّس تسعين لغة، ووزارة التعليم تطمح إلى الوصول إلى تدريس مئة لغة. إن لغات العالم تجتمع هنا في مؤتمر. ريّاح اللغات تعصف بالصينيين وتفتح عقولهم على ما يحدث في الكرة الأرضية. تناولنا قهوة سريعة، وفي الثالثة بالضبط رافقني توفيق إلى مكتب الأستاذة ماي، ومنه إلى عميد الكلية الشاب والمتواضع، الذي يتحدث لغة عربية صافية. ثم التحقنا بالقاعة حيث سألقي محاضرتي "قول المغرب".

17 ماي، الثالثة زوالا، قول المغرب

الشمس التي سألت عنها في الصباح ظهرت الآن ساطعة وقوية. استبدلت الطالبات واقيات المطر بمظلات من كل الألوان. الذكور حملوا حقائبهم فقط نحو قاعات الدرس أو الملاعب التي تشبه أفخم نوادي الرياضة. أخبرني الأستاذ بسّام أن أحد الأساتذة هو عربي واسمه فراس السوّاح. قلت إني أعرفه وأعرف أبحاثه في الميثولوجيا.

ولجنا أنا والأستاذة يو ماي قاعة الدرس، نظيفة وصغيرة تشبه قاعة اجتماع الوزراء. حضر حوالي ثلاثين طالبة وطالبًا من سلك الماستر والإجازة. تساءلت أمامهم: ما الذي نحتاجه للحديث عن أوطاننا؟ هل نحتاج إلى أسماء أماكن وتواريخ وأسماء شخصيات، وأرقام عن دخل الفرد، والقوانين التي تنظم حياة الناس؟ ماذا نحتاج بالضبط؟ لا أخفي أنني كنت في تلك اللحظة شديد الحاجة إلى الشاعرية لا إلى المعرفة العامّة. طلبتها فجاءت مطيعة، وبدأت أتحدّث. كان مدخلي عن إعجاب رئيسهم ببلدنا وبمستوى التطور الذي بدأ يعرفه المغرب، وعن الصينيين الذين بدأوا يعتبرون المغرب بلد سياحة جديرًا بالتوجه إليه. أحسست أن الحديث عن بلداننا هو شيء فلسفي لا يشبه الأشياء الفلسفية الأخرى. ومهما قدمنا من تحاليل لأوطاننا واستخلصنا النتائج، فإنه يبقى أكبر من التحليل، ويبقى الغامض فيه أكثر من الواضح. فلجأت إلى المقارنة، وأخرجت من حقيبتي رواية "ريح الشرق وريح الغرب، امرأة صينية تتحدّث" للروائية الأميركية بيرل باك، التي كتبتها سنة 1925 خلال رحلة العودة من الصين إلى الولايات المتحدة، وتحكي عن شابّة صينية تجد نفسها في صراع بين تقاليد الماضي وبين الفرص المتاحة في العالم الحديث. أطلت في الحديث عن الصراع المرير، الصّعب، الغامض النتائج بين تقاليد الماضي وبين العالم الحديث والفرص العديدة التي يمنحها. وهو شيء يشترك فيه المغرب والصين. إن آباءنا وأجدادنا في حضارتينا عاشوا دون أن يكون أي واحدٍ منهم عصريًّا أو امتلك الرغبة في تغيير نفسه. لقد عاشوا حياة مستقيمة مليئة بالهدوء والوقار. كما عاش أجدادهم على مدى خمسمئة سنة في هذه المدينة من المملكة الوسطى.

انتهت المحاضرة وتلتها أسئلة عن "الربيع العربي"، والأدب المغربي، والرواية التي بدأت تُكتب عن الحروب والتدمير الذي عصف بعدد من البلدان العربية. ثم خرجت انا والأستاذة ماي وطالب الماستر حكيم، الذي يهتم بالرواية العربية بعد "الربيع العربي". عبّر عن إعجابه برواية "ساق البامبو" لسعود السنعوسي، وتساءل كثيرًا عن الرواية العراقية، وما بدأت أحدثه عنها حتى انكبّ على مفكرته الصغيرة ليسجل الأسماء: غائب طعمة فرمان، عبد الخالق الركابي، فؤاد التكرلي، إنعام كجه جي، علي بدر، أحمد سعداوي. وقد كانت الأستاذة ماي تساعد ذاكرتي على ذكر أسماء أخرى. وهي باحثة تعرف أجيال الرواية العربية معرفة جيّدة.

18 ماي

أسرعت الخطو نحو مقهى الجامعة لأنه يقدّم قهوة سوداء جيّدة، والعاملون فيه من الطلبة. عن طريق هذا المشروع وفّرت الجامعة لأبنائها فرص شغل عديدة. المقهى يطلّ على مسبح كبير، ويضمّ مكتبة كثيرة الرّفوف والكتب باللغتين الصينية والإنجليزية. والأجمل من كل ذلك أنه فضاء خالٍ من المدخّنين. ذلك راجع إلى صرامة المؤسسات الصينية في إلحاق العقوبات على كل من يخالف قانونها. ففي السابق كان يتمّ تعقيم كل من يكثر من الإنجاب، وفي فترة لاحقة أصبح يُطرد من العمل. وكل من يزين جسمه بالوشم يُمنع من الخدمة العسكرية. وكل من يرتكب خطأ كبيرًا وسط الجامعة يُطرد. لذلك تجد المواطن الصيني منضبطا وشديد الاحترام للقوانين التي يضعها بلده.

بعد أخذ بطاقة خصّصتها لي الجامعة كأستاذ زائر، وتخوّل لي التسوق والولوج إلى المقهى والمطعم، توجهت رفقة توفيق إلى الجانب الغربي من الجامعة، وهو مدينة جامعية أخرى يفصل بينها وبين الجانب الغربي شارع على جَنَباته ممرّات مُزهرة. ولجنا مصلحة النشر، وهي مكتبة من مؤلّفات تُصدرها الجامعة باللغتين الصينية والإنجليزية.

جاءتني رسالة من الأستاذة ماي تقول فيها إن الطالب طاهر سيرافقني غدًا إلى سور الصين. وأوصتني بأن آخذ راحة كافية لأنني أحتاج إلى طاقتي البدنية أثناء زيارة السور. كنت أشعر بتعب شديد، فتغيّر التوقيت غيّر مواعيد النوم والأكل. اضطراب شديد أشعر به في جسدي وجهازي النفسي. لكن حين أشرقت الشمس، وظهرت لي أضواء في السماء شعرت بأنني بدأت أتطهّر من الداخل، وأن خفّتي بدأت تعمل. لاحظ توفيق أنني بدأت أبدو مرحًا فحكى لي نكتًا عن بُخل اليابانيين، ضحك عاليًا وهو يحكي عن ملك البخلاء اليابانيين الذي التقى به في الأردن. حكيت له نوادر عن بخل الفرنسيين، وذكرت له نوادر من كتاب "البخلاء" للجاحظ. وما إن ذكرت له الاسم حتى استرسل في الحديث عن ابن النديم الذي ترجم له خمس عشرة صفحة من كتابه "الفهرست". أنا أعتبر توفيق من أنجح النماذج التي أنتجتها هذه الجامعة العظيمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.