}

(بديع).. في عاصفة الربيع

جهاد بشير 16 أبريل 2018
يوميات (بديع).. في عاصفة الربيع
لوحة للفنان العراقي علي رشيد
تمورُ أرواح شباب جمعتهم فكرة كانت وضّاءة، وتغلي أفئدتهم من لهيب أيام نحسات عصفت أحداثها بالعراق، وعملت ردحًا من الزمن على اغتيال قيم عُليا تخلّى عنها حُرّاسها على حين غرّة، وقطْعِ سبل سُقيا غِراس نما بعدما اهتزت به الأرض ليغدو هشيمًا تذروه الرياح وكأنه لم يكن يومًا بهيجًا يانعًا يسر الناظرين.

خمس عشرة سنة خلت؛ على عاصفة هوجاء قاتمة هبّت فاجتاحت قلب الربيع؛ واستيقظ الناس في العراق خاصة وفي غيره من بلاد المسلمين عامة؛ على وقع مآسٍ فُتّحت أبوابها مشرعة، وأُذِن للبلايا والخطوب أن تلج دون استئذان، ليستقر بها المقام في أرض كان الناس يُسمونها أرض الرافدين، وأرض السواد، ومهد الحضارات، وغير ذلك من نعوت المدح وأوصاف الثناء الغزيرة بالعطاء والمعاني البنّاءة، قبل أن تُنسى هذه المصطلحات فتنزوي في مكان ما؛ ربما يكون بجوار حائط قديم  يطيب للتاريخ في بعض الأحيان أن يستظل عنده، فيرمقها بنظرة عابرة، ثم يتم مسيرته غير آبه بتراث لم يعد مؤهلًا ليكون سلاحًا في معركة غير متكافئة.

ومضى عقد وزادت عليه بضع سنين؛ ولم تزدد العاصفة إلا اهوجاجًا، حتى نسي العراقيون نسيم الربيع وهواءه العليل، ولم تعد أزهار شقائق النعمان البرية تلفت الأنظار إليها؛ فالمشهد كله في البلاد اصطبغ بلونها، وأخذ شباب الفكرة يسترجعون ما قاله شاعرها وليد الأعظمي ـ رحمه الله ـ قبل نحو نصف قرن، فإذا بهم يعيشون الأجواء على حقيقتها:

ذهبَ الربيعُ وثغرُه المتبسِّمُ ... فبَدَا على وجهِ الحياةِ تَجَهُّمُ
ذهبَ الربيعُ وليس ثمة ضاحك ... فالحزنُ من وقع الفراقِ مُخيّمُ
والبلبلُ الصدّاح أصبحَ ساكتًا ... فكأنما هو أخرسٌ يتلعثمُ
بالأمس كان يطير من فَننٍ إلى ... فَننٍ وفي تغريدِه يترنّمُ
والجدولُ الزاهي الذي رَقرَاقُهُ ... تهنا بمرآه العُيون وتنعُمُ
أمسى كئيبًا لا تداعِبُه الصّبا ... ليلًا ولا انعكَستْ عليه الأنجُمُ
والوردُ والريحانُ أضحى ذابلًا ... قد كانَ في أوراقه يَتلثّمُ
أما الفَرَاشُ فمات ساعةَ وقتهِ ... حيثُ الرحيقُ الحلوُ مُرُّ علقمُ
والطّلُ فوقَ الياسمينِ كأنهُ ... دمعٌ على خدٍّ وثمةَ مأتمُ
والدّوحُ والصّفصافُ لوّعهُ الأسى ... تبكي كما يبكي الصّبابَةَ مُغرمُ
ماتَ الربيعُ وهذه آثارُه ... فوق الرُّبى للناظرينَ تُترجَمُ

وصار من لوازم الحياة أن نمسي يوميًا بين مدّ الهم وجَزْر الأسى، لا ننفك نبث الهموم، ونندب الأيام الخوالي ولسان الحال يفرض سطوته ولا يجرؤ أحد على ردّه وهو يقول:

فما الناسُ بالناسِ الذينَ عهِدتُهُم                ولا الدارُ بالدارِ التي كنتُ أعهدُ

وطفق أحدُنا يستعيد شريط ذكريات يُقلّبها مفتشًا عن مشاهد من شأنها رسم بسمة حتى وإن كانت مصطنعة؛ يُعلل بها نفسه طمعًا في زوال شيء من الكدر الذي ألمّ به، فيُطلق للأمل العنان ويرجو أن ينال المبتغى بإيمان وصبر ويقين.

وآخرٌ لا يريد من الماضي شيئًا، يُحاول النسيان والانفصال عن أيام بات مقتنعًا أنه لم يعد بحاجة لها لتكون من بين صفحات تاريخه، يبحث عن بدائل لم تكن الفكرة يومًا تصنفها إلا في إطار الخصومة، ويتعاطى مع متغيرات تتجاوز في حراكها خطوطًا حمراء طالما كانت تفصل بينه وبينها مسافات شاسعة.

وثالث نصّب نفسه حَكَمًا بين عقله وقلبه وهما يخوضان معركة حامية الوطيس؛ بعاطفة جيّاشة تحضه على قول أو فعل حتى لو كان ساذجًا، وانضباط متكلف يدعوه إلى ما يحسبه رشدًا، فتراه ينحاز تارة لهذا وأخرى لذاك، ويسقط يوميًا في دوائر التناقضات.

وفي خضم هذه العاصفة، كان واحدٌ منهم يقف شامخًا يرفع لواء الفكرة ويدعو الآخرين إلى بِرّها، وكان يعلم يقينًا أنها إن سلكت مسارًا بلا عوائق فلن يبلغ بها أهدافها؛ وأن في الحياة سننًا ما كانت يومًا أحداثها رقائق مجردة سهلة المنطلق وقريبة المبتغى، فأخذ العزم والجد على أن يكون الجندي المخلص الذي يوظف هذه القيم، ويُلبس نظرياتها ثوب العمل في كافة أوجهه؛ تربية ودعوة وسياسة وجهادًا، فالحال الذي طوّق العراق يقتضي هذه الشمولية، ومن اقتصر على جانب دون آخر، أو تخلى عن واحد منها، أو أعطى وقته وجهده لأحدها على حساب الآخر؛ اختطفته دوّامة الأحداث وتلاعبت به رياحها حتى تهوي به في وادٍ سحيق.

وبسبب ذلك؛ كثيرًا ما عانت الفكرة وهي تصارع العاصفة في أجواء العراق القاتمة؛ من تشوهات وضربات ومحاولات تحجيم، وسعي دؤوب لإلباسها أثوابًا لا تليق بها ولا تنسجم مع قوامها، وما ذلك إلا بسبب التصاق أدعياء بها ما انفكوا يمارسون أنواعًا من الفوضى الفكرية والتربوية، وأدمنوا سلوكيات ابتدعوها وهي ليست من أدبياتها في شيء ولا تنتمي لمنهجها أو تمت له بصلة، فصارت مثالبهم شعارًا منتحلاً وسمة سيئة السمعة.

كان الجندي البار يسبق غيره من أقرانه بمراحل في إدراك الواقع وتشخيص الحال، ورسخ إيمانه بأن في الجهاد والتضحية سبيلاً صحيحًا وصراطًا مستقيمًا لإنقاذ الفكرة، فصار أحرص ما يكون على طلب الشهادة، ولم يُلق بالاً لما يسمع على الدوام من تنظير تبريري للقعود قائم على حجج لا يستقيم لها عماد، ولا تصمد أمام ثوابت تربى عليها، ونشأ في ظلالها، وسخر حياته وشبابه في سبيل نصرتها والوفاء لها.

إنه أنموذج صادق يعطي الجواب لكل من أشغله سؤال عن سبب بقاء الفكرة حيّة تضرب في الأرض وتترك الأثر بارزًا لا يحجبه عن الرؤية حجاب، إذ لم يكن لها أن تحيا بهذه القيم وتحافظ على ثوابت أصيلة؛ بغير رجال مؤمنين وشباب مخلصين نذروا أنفسهم في سبيل نقائها ونصاعتها.

ارتقى شهيدًا وهو في باكورة شبابه، والربيع في أوج عطائه، وبقدر ما ألمّ بصاحبه ورفيق دربه من حزن أفقده صوابه حتى حين؛ غمره إيمان عميق بأن جوف الطير الخضر السابحة في فضاء الجنة، والقناديل المعلقة بعرش الرحمن جل في علاه؛ آوت روحًا طاهرة لم يعرف في حياته الدنيا شيئًا أشد نصاعة وبياضًا منها.. لقد كان (بديعًا) بحق؛ ولكل امرئ من اسمه نصيب.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
16 أبريل 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.