}

غريـب

محمود الرحبي 15 نوفمبر 2018
قص غريـب
عمل لـ تشن ليان شينغ

" هناك نوع واحد من الضحك إذا ما تذكَّرتَه غدتِ الحياة أكثر دفئاً.إنه الضحك بلا سبب، الضحك من أجل الضحك، الهادئ منه والرنّان، كلُّه بهجة، كلُّه فرح . إنّه يرنُّ في القلب مثل جرسٍ فضّيٍ، ينادي ويوقظ الروح الغافية، وكلّ مَن يسمعه يبتسم بهدوء وسرور." - نَدْيِجْدا طيفّي-

 

في حياة المكاتب لا يوجد أصدقاء بالمعنى الروحي للكلمة، إنما هم باختصار أناس يلتقون يوميا ليس أكثر، أو هم أشخاص يجب أن يلتقوا يوميا، شاؤوا أم رفضوا هذا اللقاء.

ولكن حيث أعمل، الأمر مختلف قليلا، بسبب المراسل غريب، الذي ما إن يظهر حتى تبش وجوه الجميع بهجةً، وكأنما تلك النشوة التي تنبثق من صدره وتنتشر في جسده بمجرّد ما يتقدم، شيء سحري لم يُمكَّن لسواه. 

نحن متوترون ومتوجسون ويهزنا الخذلان سريعا، خاصة حين نسمع عن الترقية السريعة لفلان بمجرد التحاقه بعمله، أو ابتعاث علان في دراسة كان العشرات قبله ينتظرونها.

ولكن كل ذلك الضيم يتبدد فور ظهور غريب، فتبش الوجوه وتتضح الرؤية ويغدو النهار صحوا طيلة فترة بقائه بيننا، حتى أولئك المنكفئون على مكاتبهم تتهلل وجوههم بمجرد سماعهم صوته القادم من قريب.

كان غريب يدخل علينا محملا بذاكرة السوق والناس والفوضى التي رآها قبل مجيئه إلى الدوام. فهو يصحو منذ الرابعة، وفي الرابعة والنصف يكون في سوق السمك والخضار في مطرح، وهناك تستقبل أذناه طراوة المكان البحري، حيث يتجمع القرويون من كل حدب وصوب ليعرضوا سلعهم أمام الدَّلال. فتتعالى أصوات الجدال، ويمور التنابز والقذف وكل ما يعني أن يكون المرء في مكان يقع خارج أسوار الدوام الرسمي.

غريب لا يشاركهم كل ذلك، بل هو يبدو كالظل بينهم. يأتي إلينا بعد ذلك ضاحكا باشا، وهو يلقي بالكلام في أروقة الوزارة، يحكي لنا عن كل ما سمع في الصباح الباكر، فيتجمع الموظفون حوله في حلقة تشبه إحدى حلقات ساحة سوق نزوى في أوج نشاطه.

كان غريب، باختصار، ينقل السوق كاملا إلى مكان العمل. كما كان يخبرنا عن آخر أسعار السمك والخضار و"تبشرات" الفواكه وأثمنتها وكم وصل سعر "بابة رطب الهلالي" و"قش بطاش".

لا يمكث غريب معنا طويلا في حلقته تلك، فهو في النهاية موظف ولديه مهام يعرفها جيدا. يأخذ المراسلات ويأتي بغيرها، ولكنه أينما حل، تتبعه البهجة كسحابة ماطرة.

غريب يحمل معنى اسمه كاملا، فهو يعيش وحيدا وليست له قرية يؤوب إليها في نهاية كل أسبوع. أيامه تعبر سريعا ويكاد لا يحس بها. ينام بمجرّد ما يضع رأسه على مخدته ويقوم، دائما، قبل الفجر. والسوق يستفيق بذلك على خطواته، كما يستفيق على إثرها النائمون فوق كراتينهم في سوق الظلام، والمشردون في مصاطب الكورنيش. كل من يمر عليه غريب كان يرشه بأنفاس الصحو. 

-ضرابه ضرابه. ضرابه. استويت اليوم ضرابه.

حتى أولئك المنكبّون على مكاتبهم يفزون من أماكنهم لسماع حكايات غريب. كان صوته حادا، كأنه يستعين بمكبر. وقد تعاطف معه الموظفون، وحتى أولئك الذين يطلق عليهم اسم المسؤولين لم يكونوا يعترضونه، فهو الكائن الوحيد الذي يبدد عنهم غمام الصمت ويبعدهم قليلا عن مخاطبة الأوراق وفوهات الهواتف. كما أن غريب عرف كيف ينسج بإحكام خريطة علاقاته، فهو كريم مع الجميع، ولا يأتي من السوق خالي اليدين، فلا بد له من تمرة لهذا وثمرة مانغو لذاك وتفاحة حمراء لتلك، وهكذا..

اجتمعت الحلقة حول غريب. كان صامتا هذه المرة، ولكنه يخفي ضحكة تصطرع في جوفه، احمر وجهه على إثرها. رفع إحدى يديه وبدأ في تعريتها حتى بانت عضلتها. حرك العضلة يمنة ويسرة، يسرة ويمنة. ثم أطلق ضحكته  المكتومة عاليا، فتصاعدت وانتقلت عدواها بين الجمع المتحفز لسماع أسبابها:

-اليوم هجم علينا في السوق واحد سكران، وأول كلمة قالها:  أنا ما سكران، أنا ما سكران، ودون أن يسأله أحد. ولم يستطع -من شدة السكر- أن ينطق بغير هذه العبارة، ثم رفع يده عاليا وعراها وبدأ يُرقص عضلتها: يمنة، ويسرة، يسرة ويمنة، وجميع من في السوق كانوا يضحكون... فضحك الجميع.

جميعنا كنا نثأر بالضحك من ذلك الروتين، وغريب هو من كان يقود معركة الثأر تلك.

ولكن غريب لم يظهر في العمل منذ يومين، وحين تطوّع أحد الموظفين للبحث عنه وجده ميتا في غرفته وحيدا، فبلغ عنه الشرطة.

لأيام، لم يُصدّق أحدنا أن غريب قد رحل عنا إلى الأبد وأننا لن نسمع مرّة أخرى صوته ولا ضحكاته ولا وقع خطواته في دهاليز الوزارة. كيف نستطيع تمضية ساعات العمل في غيابه؟  فهل مات الغريب الذي كان يسكننا؟



*كاتب من عُمان

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.