}

الفروة الخضراء.. في حضن الطبيعة والطفولة

محمود الرحبي 18 فبراير 2020
يوميات الفروة الخضراء.. في حضن الطبيعة والطفولة
باب بو جلود في مدينة فاس المغربية (Getty)
ذهبنا يوماً، زوجتي وابني وأنا، لزيارة معلمة نعرفها تقيم في قرية على تخوم فاس. التخوم هنا بمعنى القرب. أي أن القرية في الحقيقة في فاس، ولكنها خارجة منها. اسم القرية عجيب: قرية "الفروة"، خضراء بالكامل. هي فروة خضراء إذاً. ما أجمله من عنوان جاهز لنصّ. مدشر تنبسط فيه الخضرة على مدّ البصر. الأغنام والرعاة لهم كذلك حضور ملحوظ في المشهد الفاتن.
كنا نبحث عن مكان المدرسة. رأينا رجلاً يركب مقصورة يجرّها بغل. يحمل أطفالاً يهزجون بأناشيد خفيفة. سألناه عن المدرسة. لم يسمعنا إلا بعدما أمر الأطفال بأن يصمتوا. أوقف سير بغلته المسرعة. لمحت أحد إطارات مقصورته على وشك أن ينام. وبعد أن دلّنا على الطريق الذي علينا أن نسلك، نبّهته إلى العجلة "النائمة"، فرد عليّ باسماً وهو يأمر بغلته بالانطلاق: "خّلّيها ناعْسة". خلال حديثنا صمت جميع الأطفال، منصتين بفضول وجدية إلى الحوار. لا يجب أن تفوتهم كلمة واحدة، رغم أنهم ما إن انطلق بهم البغل مُجدّداً حتى تعالت أصواتهم في لامبالاة. كل شيء أمامي كان يتجدد. في الحقيقة لا يوجد مشهد رأيته من قبل. تذكرت بيت الشاعر الإغريقي هيراقليطس "لا يغوص الرجل في النهر نفسه مرتين". لا شك، في أنه كان يقصد نهر الحياة، وليس النهر المائي. وهو الشعار الذي ترجمه عمليا مشاؤو أرسطو وهم يقرؤون الطبيعة، يقفون يتأملون، يتحدثون قليلاً، ينظرون. كان النهر راكداً حين كنا نتحرك.
دخلنا الحارة، حيث مدرسة الفروة. سألت عنها شاباً فتطوّع بأن يسبقنا ماشياً إليها. وقبل أن نصل، أشار لنا إلى سورها. كان يفعل ذلك كخدمة، أو واجب. المدرسة تعنيهم ونحن ضيوف مجهولون. لا شك في أننا كذلك نعني شيئاً مهماً للمدرسة وطلابها ومدرّسيها. هكذا شعرت به وهو يدلنا على الطريق متحمساً ومسرعاً، كان أكثر عجلة منا!
حين اقتربنا من الباب، كانت ثلاث مدرّسات في استقبالنا، وحشد مرِح من الأطفال. الابتسامة والفرح كانت تعلو وجوه الجميع. المدرّسات يعبّرن عن فرحهن بالحديث المتواتر، والأطفال بعلو الأصوات والحركة. اقترحوا أن نُدخل السيارة إلى داخل الساحة. ركنتُها تحت شجرة، بمحاذاة سيارة إحدى المعلمات. أخذني مجموعة من الأطفال من يدي لكي أرى مغروساتهم على جانب السور. كانت عبارة بقعة تطبيقية خاصة بأشغال الفلاحة. تنسجم مع طبيعة القرية وشروطها في إعداد التربة والبذور، وتشذيب الأشجار والعناية بالنباتات، واستغلال ماء الري. وفي زاوية منها، وضعت عدة الغرس، من مذرات وفأس ومشذب ومعول.  كانت الأشجار صغيرة. ظلوا يتحدثون عن كل شجرة. ثم زاد عددهم وشرعوا يقرؤون القرآن بصوت عال. بأعلى ما تستطيع حناجرهم، رتّلوا السّوَر، وكأنما بصوت واحد. يزداد الصوت ارتفاعا في سوَر جزء عمّ وقصار السور التي يحفظها الجميع، ويخفت قليلاً في طوال السور التي يحفظها بعضهم. ولم تكن التلاوة تخلو من لحظات انفجار تعلو فيها الحناجر دفعة واحدة أمام تكملة آية حفظتها ذاكرتهم جميعاً. وجدتني أُخرج هاتفي وأسجّلهم. صوّرت شريطاً طويلاً، لكنْ اكتشفت لاحقاً أنني لم أتقن تسجيل الفيديو، فاختفي بالمرّة من هاتفي. باستثناء تسجيل قصير في الفصل لثلاثة أطفال وهم يقرؤون القرآن بترتيل مغربي متميز. كان أحدهم بالصدفة يحمل عصا صغيرة، فبدا وهو يحركها خلال القراءة مثل مايسترو يوجّه بقية أعضاء الفرقة. ثم طلبت منا المدرّسات الاقتراب من طاولة الضيافة المنصوبة وسط الباحة. كانت الطاولة مؤثثة بإبريق أتاي، وقصع شعير، وملاوي، وخبز، وزيت، ومربّى، وبيض بلدي. اقترب منا بعد ذلك طفل وطفلة تطفو مسحة من البراءة على سيماهما، وعلى رأسيهما تاجان، كتب في أحدهما "ملكة القراءة" وعلى الآخر "ملك الكتابة". عرّفتنا المدرسة بأنهما الحائزان على اللقبين لهذا العام في كتابة وحفظ القرآن والأناشيد العربية والفرنسية. ثم ما لبثا أن رفعا عقيرتيهما بإلقاء الأناشيد وترتيل التلاوات. كانت بعض السور طويلة، لا يمكن أن يتبينا معناها، ولكنْ بفضل ذلك التّرتيل المتميز الذي يدغم الحروف في بعضها البعض جعل الكلمات تنساب بسلاسة إلى الأسماع. حدث الأمر نفسه وهما يردّدان أناشيد بالعربية والفرنسية لم تكن الكلمات فيها سوى وسيلة لدفع الألحان وتغليفها.
في ساعة الرحيل، طلبت المعلمة المضيفة من صاحبة لها كانت تساعد في المدرسة، وتلبي بعض طلبات التلاميذ والمدرسات. يظن من يعاينها أول مرة أنها تعمل بالسّخرة لو لم نطلع بعدئذ على ما يشبه المفاجأة، أو الانفتاح على كنز. كانت الفتاة صامتة في غاية التعقل، محكومة نظراتها ونطقها بخجل بدويّ عفويّ، لا تتحدث إلا حين تُسأل. تجيب بكلمات قليلة خافتة تُسمع بالكاد. طلبت منها المعلمة أن تذهب معنا لترينا مزرعة والدها. لنختم زيارتنا بمسرح أخضر، رغم أن القرية كلها مجلّلة بالخضرة. وحين دخلنا إلى مزرعتهم، فوجئت بمدى اتساعها. كانت مسيجة بسياج خفيف ومترامية الأطراف، على مدّ البصر. حتى إن ابني ما إن وصلنا إلى منتصفها بعد أن عبرنا مسافة طويلة بالسيارة وتوقفنا في منتصفها، حتى قفز حاملاً كرته وراح يداعبها فوق عشب الحقل الشاسع. انتبذتُ ركناً للتأمل. كان القمر في السماء برتقالياً وهو يضيء الحقول المترامية على مد البصر، أخرجت هاتفي وشرعت أصور. بالصدفة كان لون كرة ابني برتقالياً. وفي إحدى الصور، وكان الطفل يمنحني ظهره عابثاً بالكرة، التقطت كاميرا هاتفي صورة تحت القمر مباشرة. كرتان من لهب برتقالي بين يدَي الطفل. تأبّدت اللحظة في ذهني لوحةً فتّانة ووثّقتُها بكاميرا الهاتف صورة لا تتاح فرصة التقاطها كل مرّة. الجمال في أحد أحلى تجلياته، براءة الطبيعة والطفولة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.