}

بنات أفكاري المُدللات وأنتِ

جمانة دحمان 15 يناير 2018
يوميات بنات أفكاري المُدللات وأنتِ
لوحة للفنانة شيماء عزيز

ماذا أقولُ لَكِ وحلقي مجروح لكثرة ما ركض فيه غائبنا الباسلُ كريم، وعَلّق الصمت لوحتهُ بمسمار عريض على أحبالي الصوتية، حينَ بلغتُ العاشرة إلا قليلاً وأدركتُ أن الغيابَ كان مكتوبًا منذ الأزل؟ لقد خَطَّ الله لوحات كثيرة، رَسمنا عيونًا في بادئ الأمر تجري مُسرعة لتختبئ من ضوضاء وهمٍ قد يقتل سَكينة الليل بخناجر تَعكسُ ملامح العين كمرآة. كانَ ثمة خوفٌ مرسوم منذ البدء إذًا، وجلست أسأل: هل كانَ صبرنا حاسمًا أمام جيش الخسائرِ ذاك؟ هل نجونا؟ نجونا إذًا هل سننجو في ما بعد؟ فكرتُ في الإعصار الأخير الذي ابتلع دموعنا، جاءت الأفكارُ هكذا، ثم كحفل عُدّ للهزائم صارت تستدرج بعضها.

تخيلت نهرًا طويلًا أبكم ومشلولًا، وجاء في مخيلتي رصاصٌ صامتٌ مصنوعٌ من العَتم وسَهمٌ حاد، يتجهان نحوَ أحلامنا التي تَذوي. فكرتُ في أخطاء فادحة من صُنع الله "كأنا"، وضلع مثلثي الناقص، ذيل ليلي الذي يطوف حولَ دائرة نسيانكِ العصي. فكرت في الدموع، قلت هناك دموعٌ نتذوقها وأخرى تتذوق ظمأ الطريق حيثُ جفت مياهُ وجوهنا، تَظل تمسح الظمأ المُكدّس حتى تَصِل آخرنا. فكرتُ في الأطباء القُساة حين يخبرون امرأة أنها أرضٌ لكنها ليست بخصبة، أنها وإن رموا فيها بذرةً ستظلُ أرضها غير صالحة للزراعة، وأنها خالية، عاقر. فكرت في القويات اللاتي لا يُنجبن لكنهن أُمهات، أمهات يأس، العاقر أم لشهيدٍ لم تنجبه. وعلى سيرة الأمومة.. تُكمل أمي سردها لقصص اعتقال محمد والاعتصامات. لَفت نظري عود جدتي الصلب. فكرت بجدتي، صبرها السُكّر، عنادها جيشُ مواساتها الباسل، جدتي الريح والجبل. فكرت بالجبل، أقول لك يا ليلى إن الأفكارَ مِثْلَ مستعمرة نملٍ لاقت قطعةُ خبزٍ ضعيفة مصرعها على يدها. فكرت بالضعفاء الذين يَذرعونَ التيه، المُكررين. فكرت في الشخص الواضح المألوف الذي لا يَسألُ عن ماهية هذا الكون، عن نهاية هذا الحبل الموصول في أعناقنا، من أين تأتي مُياه البحر. لا محكمة للبحر، لماذا، كيفَ سيجلسُ هذا البحر بمحاذاتنا يوم الحساب، سيكون في صف المهزومين، المجرمين، قتل الكثير بسمِّ مِلحه، كيف ستنتقمُ سمكةٌ يوم الحساب من الريح، هذا الهواء عدو رئة السمكة، هذه الكائنات المزروعة في جوف غضب الله، المسببة لغضبه، التي تظلُ تسأل لماذا نحن هنا؟

فكرتُ في المنتحرين الذين يصنعون غابةً من الليل تتأرجح على أعصابنا، يوزعون قلق عدة شجرات، كُلّ منها على حدة، الذين يتركون لنا أجواف حلوقهم المكتظة بالأسئلة. فكرت لماذا لا نستأصل جوف حلق المنتحر، حيث الجواب الوحيد لفضول أسئلتنا، حيث مُعلقة هناك كل إشارات استفهام الراحلين.

فكرتُ كيف يجذف الحقيقيون في بحر اليأسِ بخشونة. فكرت في الحقائق الأكذب على الإطلاق، بحقيقة حزني الملموس بالنظر.

فكرتُ حين التقيتُ بكِ، كبلاغٍ كاذب جرت هذهِ الفكرةُ ذيلها الميّاس. فكرتُ حين حدثَ وارتطمت بذاتي، كماءِ عينٍ تخافُ التيه في نهر الغابة المنسيّة خَلْف صوتك، فكرت في صوتك التشريني، قلت: هاتيه، تعالي افرشيه ننام عَلَيْه ليلتنا التي علقنا خطاياها بحبلٍ ثقيل موصول بشفتيكِ، خُذي عينيّ وازرعي اليُمنى على خدكِ الأيسر، والثانية بالقرب من إطار الريح، صورٌ مُتخيّلة وفراغٌ تملأه حناجر عراقية، ذكيّة. ناوليني أُذني التي تعرج من مثقالِ اسمي المختبئ وراء قضبان عرقكِ الدرقي الناصف، هاتي عواصف جارة خدّي يَدكِ، وشعرك، لُفّي بهِ عُمري، أو عَلقيه بحبل واشربيه بماءٍ مغليٍّ مِثْل شاي، خُذي أسنان الفك السُفلي واجمعي تُراب الله وازرعيه في حوضٍ صغير، قد لا ينبت. واتركي أسنان الفك العلوي كي أضحك كما تريدين، كي يلتفت قلبك إليّ فتثيرينَ شهوتي، كي لا أستطيع أن آكلك لأن لا أسنان مُتبقية للنشوةِ السعيدة. فكرتُ كيف أني صرتُ ألبسكِ كخوذة لردع حاجتي لصبح حضنكِ المُشمس الدافئ الذي اخترق سَفري، كيف عَلقتكِ خبرًا عاجلًا بالقربِ من قهوة استيقاظي، منبهًا كي أستيقظَ من الفرح العارم قبل أن يجرفني تيار محضُ كذبةٍ فَأغرق، وكيف بهذهِ البراعةِ صرتِ مكواةً لملامح وجهي المُنكسرة حينَ أحزن، ترشين القليل الكثير من رذاذِ بهجتك، فيعود يستقيم أنفي، ويقفُ حاجبي الأيسر بعنادٍ وَقح، يَعُود فمي بارودة مُسالمة يحملها مسمارٌ جبار. فكرت لو قطّعتُ فستانك الوردي أيضًا، لو صنعتُ مِنْهُ عشرين منديلًا وقلت حتمًا لن يتّسع لدموعي عشرون منديلًا، سيبتلعها حُزني المقزز، وقلقي الأرعن، دَخيلُ صُبحي وقاتل البهجةِ المسروقة من أغاني رَبّ المدن فيروز.

 يا مدفأة، البارحة نَفد الحطب، جلستُ أُفكر أيضًا. كيف أُعاند غيمةً وغيمةً وستين أخرى بل أكثر، هذه أنتِ عرّابتي ليلى... مُذ لبستكِ معطفًا والبردُ يَجبُن في جعبتي ويخجل من ضعفه فيصير حرًّا أيتها المائدة الدسمة... التي لا تَشبعين من الأصابع ولا تَمليّن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.