}

إيقاع المدينة

شادية الأتاسي 12 أغسطس 2017
يوميات إيقاع المدينة
لوحة للفنان السوري أنس البريجي

مازلت أعيش إيقاع المدن التي أحب، مدن بلدي..
 
في الصباح أقول، لقد بدأت الحياة هناك.. على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر، ياسمين مباح يتدلى من على أسيجة البيوت، وهواء رطب تتنفسه حتى العمق، وهناك قاسيون يلوح من بعيد، وهناك الأمكنة والروح، وهناك من أحب.

حتى اليوم لم أعرف كيف يبدأ النهار هنا، ربما حسبت أنه لا إيقاع للصباح هنا، فطقس الصباح يبدأ من بلدي فقط، ومن هناك يشرق الصباح على قلب.

خرجت مبكرة هذا الصباح على غير العادة.. جارتي ماتيلدا الإيطالية، كانت قد انهت جولتها الصباحية مع كلبها الصغير وعادت.. دائما أسمع الموسيقى في لكنتها المحببة، سألتني لماذا لا أقتني كلبا، عندما شاهدت كلبها يهز ذيله لي مرحباً، رداً على دغدغدتي له، حاولت أن أشرح لماتيلدا الإيطالية أن بيتي هناك، وهناك لا يحبون الكلاب، لا وقت لديهم للحب، لا وقت لديهم للكلاب أو القطط أو العصافير، وأنا سأعود إلى بيتي وأحبتي، ومثلهم أنا لن يكون لدي وقت للحب.

سرت صعوداً إلى بولفار/ إشالان/ في الطريق العلوي الموازي.. بين مسارب الحدائق الخضراء المتلاصقة../ ودائماً البحيرة الزرقاء على يميني/ أتأمل بهدوء، إيقاع الصباح العجيب في هذه المدينة التي تبدو أنها استيقظت للتو.. كانت زخات المطر الندية تتساقط بسكون في شارع/ الأكاسيا/ الصغير، فتلمع عناقيدها المتدلية بندى الصباح.. وثمة نسمات منعشة تهب من جهة البحيرة، فتعطي لهذ الصباح مذاقاً خاصاً، وتعطيني إحساساً أن هناك شيئاً جميلاً يبدأ الآن، وأن هناك صباحات جميلة تستحق أن تبدأ يومك من أجلها، وكأنني اكتشف هذا لأول مرة..

أنا من أسميت هذا الشارع الصغير، الواصل بين شارعنا وبولفار (إشالان) بشارع الأكاسيا، ربما لأشجاره الباسقة والرشيقة المتعانقة، ربما لأكواز العناقيد البيضاء المتدلية من الأغصان.. كنت في كل مرة أقترب منها برجاء، عساي أجد فيها رائحة أكاسية بلدي حمص، وأنا أعلم يقيناً أنني قد تركت هذه الرائحة يوماً هناك، بعيداً في الشارع الصغير مع ذكريات طفولتي التي لن تعود أبداً معطرة بنكهة عطر الأكاسيا، لكن يبدو أن هناك دائماً بعض العزاء، فرائحة النعناع الأخضر الطازجة، تهف رائحتها كلما تحركت نسمات البحيرة، آتية من البيوت، التي تسكنها، أغلبية من المهاجرين الغرباء ذوي الوجوه السمراء، الذين يشربون الشاي في الصباح، ويضعون فيه ورقات النعناع الخضراء، ويتسامرون ويتضاحكون بصوت عال من على بلكوناتهم، المحجوبة ما أمكن بأصص الزهور، ويسترقون النظر بفضول إلى كل عابر للطريق، فأتوقف قليلاً لأتنسم هذه الرائحة الجميلة وما تحمل من ذكريات، وأبتسم.

من الممكن أن تعبر المدينة كلها صعوداً حتى أعلى المدينة، أو هبوطاً حتى مشارف البحيرة، عبر الأدراج الموجودة في كل مكان، تتوقف لتلتقط أنفاسك قليلاً، أو لتبحث عن أقرب درج حجري أو مصعد كهربائي عمومي، أو تعبر أيا من الجسور الأربعة الضخمة، الواصلة بين مشارق المدينة ومغاربها، وقد تتريث إذا كان لديك الوقت، وترقب من الأعالي، امتداد المدينة الجميلة، ببيوتها القرميدية الحمراء، بين الخضرة اليانعة، وأزقتها القديمة الملتوية، وقباب الكنائس المقوسة، حتى مشارف البحيرة الزرقاء، الراقدة بسكون في حضن الجبال، وهذا ما أعطى المدينة التي بنيت ومنذ زمن بعيد على مدرجات الجبال، وفوق الأنهار التي مايزال بعضها جارياً حتى اليوم، تحت الأزقة الضيقة، تسمع هدير صوتها أحياناً آتياً من العمق، وأنت تعبر في الليل البلوكات السمراء، خاصية مميزة وقد تكون فريدة بين المدن..

كانت الحياة قد بدأت للتو، في بولفار، إشالان، العالي، الذي يموج دائماً بالحركة والحياة.. المحلات ومعظمها تعود لجاليات تركية ومغربية وألبانية، فتحت أبوابها، مواقف الباصات امتلأت بالمنتظرين، والشارع الكبير بدأ يضيق بزحمة الصباح المعتادة، ربما وحده السوبرماركت الكبير يدل على هوية الشارع الكبير، والعائدون منه، يجرون عرباتهم المحملة بخضروات الصباح، يعبرون شارع الاكاسيا الصغير ثم يغيبون عبر الأدراج الحجرية أو المصاعد الكهربائية، كل إلى جهته.. وهم يلهثون ويتبادلون أحاديث الصباح بلكنات غريبة مختلفة.. يبدو أن هذه المدينة التي كانت لسنوات فقط تحاول الحفاظ على خصوصيتها أصبحت تعج بالغرباء المهاجرين من الصوماليين والارتيريين والعرب والألبان، وهذا ما أحدث شرخآ عميقا وانقسامآ في الرأي، إن كان على مستوى الشارع أو على مستوى الحكومة، في رؤيتهم لهذه الهجمة غير المسبوقة والتي قد تهدد تاريخ مدينتهم العريق.

رغم المطر الخفيف، إلا أن القهوة القريبة من السوبرماركت الكبير، كانت قد بدأت للتو نشاطها.. وجهزت موائدها لاستقبال زبائن الصباح.. على التراسات المطلة على الشارع، رغم برد الصباح المنعش، فالطقس يتبدل في اليوم الواحد إلى أربعة فصول، كما يردد الجميع هنا، والناس تتشوق لشمس الظهيرة.. كان قد بقي لموعدي الذي خرجت من أجله بعض الوقت، دخلت القهوة وطلبت فنجاناً من النسكافيه، وطفقت أرقب ما حولي، إلى جانبي كان هناك طاولة يشغلها رجل وامرأة في خريف العمر.. يدخنان السجائر.. ويحدقان في بعضهما بأسى عميق، وكان الرجل يمسك بيد المرأة ويزرعها قبلات، ويمسح الدموع التي تنساب غزيرة من عيني المرأة، التي تهز رأسها وتردد بالانكليزية/ أبداً لن أحتمل هذا/ وكان الرجل يرد بحزن عميق/ وأنا أيضاً مثلك لن أحتمل هذا/ يبدو أنه مشهد حزين لفراق أو وداع عاشقين في هذا الصباح.

أحب إيقاع الحياة في بلدي، أعشق صباحاتها ومساءاتها، لكن يبدو أن للحياة دائماً خيارات أخرى، وايقاعات مختلفة، قد تكون جميلة إذا أردنا ذلك.

مقالات اخرى للكاتب

قص
8 نوفمبر 2017
يوميات
6 سبتمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.