}

تناقضات الحب والحرب

شادية الأتاسي 8 نوفمبر 2017

 

المشهد الصباحي لتلك الأيام كان يبدأ، بصوت المذيعة الرتيب، يعدّد أخبار من قتل ومن استشهد، هناك فرق بين الموتين، صوت حيادي، لا يشبه ما يحدث، لا يشبه تلك العيون المذعورة عندما يباغتها صوت القذيفة من الزقاق المجاور، ولا تهافت تلك الأقدام المسرعة، إلى مكان تحتمي به، ولا برودة صوت زوجها عندما يغمغم متذمرًا كعادته، وهو يتناول قهوته التي أعدتها له منذ لحظات: 

- أخبار بائسة وقهوة باردة. 

حدثت نفسها ما الذي يجبرها على قبول هذه الحياة؟ لكنها وجدت نفسها لا تغضب، لقد فقدت حريقها الجميل الذي طالما أشعلته في وجه الآخرين، وفكرت بحزن أن تفقد حريقك، يعني أن غضبك قد غادرك إلى الأبد، في قضايا كانت تعني لك يومًا العمر كله.


أسرعت إلى المطبخ، وحضرت الجبنة واللبنة لفطور الصباح، وحركت الأكل الذي كانت قد وضعته على النار لطعام اليوم، وهيأت سندويشات الأولاد ووضعتها في أكياس نظيفة، كانت تتحرك بإيقاع سريع، ومع كل حركة كانت تفتح النافذة لتتأكد من أي جهة يأتي صوت القصف، وفي ما إذا كان قريبًا.

اغتسلت وسرحت شعرها، التقت بعينيها في المرآة، وجه مُطفأ وعينان غائمتان لم يكن لديها الوقت للتفكير، عليها أن توصل ابنتها إلى المدرسة (الروضة) بنفسها. فالجميع يتحدث عن حوادث الخطف الأخيرة، وأن تضع الصبي في بيت الجدة قبل أن تذهب إلى عملها. سمعت صوت زوجها يتساءل ساخرًا:

- قهوة باردة، وزوجة باردة، قرف كلو قرف.

أسرعت، حملت الصبي، وأمسكت بيد الابنة وفتحت الباب وانطلقت هائمة لا تلوي على شيء.


سلمت ابنتها للمسؤولة في المدرسة، وانتظرت بقلق دخولها، أسرعت لاهثة إلى بيت والدتها، أعطتها الصبي ومضت مسرعة متجاهلة نظرات الأم القلقة، وتوصياتها التي أصبحت يومية:

- انتبهي ابنتي إلى كل ما حولك، لا تتكلمي مع أحد، لا تأخذي شيئًا من أحد، ولا تجادلي أحدًا وخاصة عند الحواجز.

ودت للحظات أن تتريث، أن تضع رأسها على كتف أمها وتبكي طويلاً، ولكنها لم تفعل.

أشارت إلى الحافلة القادمة، وصعدت إليها.

في هذا الصباح المحمل بالقلق، كانت رائحة الحرب تجثو على رئة المدينة. الزمان والمكان يتشظى بمشهد الموت كشأن يومي، الوجوه متعبة، والزحام خانق، والفوضى مجنونة، والخوف سؤال الجميع. والحافلة العجوز، شأنها شأن الجميع، تئن تحت وطأة العجز، ومع أن مشوار الحافلة أصبح يستغرق أكثر من ساعة يوميًا إلى عملها بسبب الحواجز التي أصبحت تقطع أوصال المدينة، إلا أنه كان هو الوقت الأجمل في يومها الدائم التعب، اعتادت أن تجعل منه وقتها. هي مساحتها البخيلة من الزمن، لتكون هي، تترك لروحها المتعبة العنان، ولدموعها أن تنساب من دون قيد، فتستعذب ملوحتها وتلامس قلبها.


تستعير حياة وأحداثاً افتراضية تعلم أنها ليست لها ولكنها تعلم أنها تشبهها، اجتاحها صوت فيروز من الأعماق، كانت أغنية حب، ابتسمت في سخرية، وهل هذا وقت الحب؟ ومع ذلك وجدت نفسها تبتسم. هي أيضا أحبت، أحبت ذات يوم، وابتسمت بمرارة لصورة زوجها المقطب الغاضب.


لم يكن يومها مقطبًا، ولم يكن غاضبًا، بل كان صحافيًا مبتسمًا، في حرفه نبض حار مختلف، يشبهه، يشبه تلك الومضة الحارقة التي تعبر عينيه حين يراها. أحبت الطريقة العفوية التي يتذوق بها الحياة، الفوضى اللذيذة التي يثيرها وجوده في كيانها، قدرته على سرد ما يريد، يجعلها تصغي إليه بانبهار وكأنه هو الرجل الأوحد في العالم.

يبدو أنه كان هو الحب، الحب الذي جعلها تترك دراستها الجامعية، وكل أحلامها، ورضا الأهل، وتستجيب للحب، وعندما قال لها تزوجيني، طارت كفراشة صغيرة من الفرح.

سكنا بيتًا صغيرًا في أحد الأحياء الشعبية، على الأرجح كانت سعيدة في تلك الأيام، سعيدة باستكانتها إلى هذا الرجل الذي يجعل من الأشياء الصغيرة، أشياء ذات طعم وروح. لكن هذا لم يدم طويلا، البلد كان يغلي، والقادم ينذر بالأسوأ، والبلاد بدأت تدخل في نفق مستنقع موحل بدت فيه الأمور أنها لن تعود أبدًا كما كانت.

تركا بيتهما الذي كان تحت تهديد القصف، إلى إحدى الضواحي القريبة، والتي لم تكن أفضل حالاً وأمنًا. الأمان أصبح قضية معقدة في تلك الأيام، بل ترفًا جميلاً، بعيد المنال.

حين وضعت طفلها الثاني، بدا كل شيء مختلفًا. وضعته في البيت، لم تستطع ليلتها الذهاب إلى المشفى لاشتداد القصف، ناهيك عن وضعهما المادي الذي ازداد سوءًا في جو الحرب المخيم على البلاد.

وبدأ هو يتغير، لم يعد ذاك الرجل الذي أحبته. واختفت لغة الحب بينهما، أصبح الحب ندبة على جدار القلب.
 
ضربها ذات ليلة عاد فيها ثملاً.

قال وهو يبكي، أغرس قلمي في الورق، فيتسرب وجع الحقيقة منها، حقيقة لا تشبهني، أمسح الغبش عن عيني علّني أراها، لكن عبثًا. لا حقيقة عادلةً في هذه الحرب، لا أعرف إن كانت هي حربي، أقف عاريًا أمام حفرة كبيرة ممرغًا بالتراب والقبح، أحاول التقاط المساحة المتبقية من الأشياء لأضع تصوري لكل هذا الجزء المعتم من العبث، وسرعان ما أكتشف، كم أن الأمور ليست على ما يرام، وأن التهديد مسلّط على خزين الذاكرة، علينا مباشرة، لننكسر ببساطة انكسار إناء صيني كان فاخرًا يومًا.

وأصبح الضرب طقسًا عاديًا في حياتهما، واكتشفت برعب أنه يخونها. 

تدرك ذلك، حين يكف عن ضربها، وحين ترى ذلك الوميض الماكر، الذي تعرفه جيدا، يشتعل في عينيه، تحدث هذه الأمور ببساطة في هذا الحي الشعبي الفقير، الناس هنا يبحثون عن أي فرصة للمتعة، اعتادوا جو الحرب وتعايشوا مع الموت، ولم يعد القصف المستمر يخيفهم، وكأن نزيف الموت اليومي أمامهم، يؤجج رغبتهم في التهام أي قدر ضئيل من المتعة.

اكتوت بنار الغيرة، جفاها النوم وتراكمت عليها كوابيس الليل، وانهار عالمها وكرهت حتى طفليها، وأدركت أن الحب قد غادرها إلى الأبد.


وفي هذا الصباح، بكت في غرفتها حيث تعمل، عاقبها مديرها لتأخرها عن العمل، حاولت أن تشرح له، الأولاد والمواصلات والحواجز. لكنه شأنه شأن الجميع في هذه الأيام، لا يريد أن يسمع شيئًا. زميل الغرفة جلب لها قهوة، وأعطاها منديلاً. وجلس صامتًا إلى جانبها يرقب دموعها، هو هكذا دائمًا، هدوئه واهتمامه يشعرها بالراحة، بريق عينيه يشعرها بأنوثتها المهانة، قال لها حين هدأت، إن حزنها يسكنه، وعينيها المطفأتين الجميلتين تؤرقانه. ترى كم مرّ من الزمن لم تسمع مثل هذه الكلمات؟

 

حين انتهى الدوام، وجدته في انتظارها. لم ترفض عرضه لإيصالها إلى بيتها بسيارته، على الحاجز وقفا طويلاً مع طوابير السيارات، ما عساه أن يفعله زوجها إذا رآها في سيارة زميل الغرفة؟ سألت نفسها بفضول وكثير من القلق، وحين جاء دورهما، جرى كل شيء بسرعة، أنزلوهما من السيارة والوجوه مكفهرة، لم تدرك ما يجري وكأنها في حلم مفزع، اقتادوا رفيق الغرفة إلى مكان مجهول، وتركوها هي، في غرفة ضيقة وحيدة، أصابها الذعر، تذكرت كل القصص التي تسمعها يوميًا، عما يجري في أمكنة كهذه، حاولت أن تصرخ، أن تحتج. الرائحة اللزجة تكاد تصيبها بالإغماء، وذلك الرجل الضخم الجاحظ العينين، اللاهث الأنفاس، حاصرها بأسئلة مرعبة لم تفهم منها شيئًا، قال لها كلمات بذيئة، ضربها بضراوة، أسئلة تتعلق بزميل الغرفة، ومن خلال إعيائها وغثيانها ورعبها، وجدت نفسها تصرخ بأعلى صوتها، تتقيأ كل ليالي القهر والعجز والخوف، أشهرت حريقها أخيرًا في وجههم، هي ليست إلا امرأة بائسة في هذا البلد الحزين.

عند الفجر تركوها، كانت العتمة ما زالت تتواشج في نسيج ذلك الصباح، حين خرجت، رأت زوجها جالسًا على رصيف الشارع، متكومًا على نفسه كخرقة بالية، ورأسه ساقط بين ركبتيه، انسلت بصمت وجلست بجانبه من دون أن تنبس بكلمة، رأسها يدور، وحنجرتها على وشك التفتت، بقيا على هذا الحال برهة من الزمن، وسمعت حشرجة نشيج مخنوق، ثم أجهش بالبكاء عاليًا، لم يكن بكاءً عاديًا كان أشبه بالنواح، وكأن أصوات القهر كلها تخرج من حنجرته
تعانقا وما زالا ينشجان. كان هو الرجل الذي أحبت.

 

مقالات اخرى للكاتب

قص
8 نوفمبر 2017
يوميات
6 سبتمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.