}

الحُزن كفّ القمر

جمانة دحمان 14 أكتوبر 2017
يوميات الحُزن كفّ القمر
لوحة للفنان السوري قيس سلمان

                                   

أشعر بنظراته تغسلني أسئلة، أخاف صوت الأهاليل، وهدوء ما قبل العاصفة، هُنا بالكاد تأتي رياحٌ عاتية، أخاف هذا السكون أيضاً والصبح المنتظم، أخاف انبلاج الضوء في أوانه، أخاف الأجوبة الواضحة والأسئلة المبطنة التي يطل من خلفها عتب، أنا امرأة تحاكي الله بفظاظة، تمارس الذكريات كعادةٍ سيئة، في كلامي لغوٌ كثير، أي كلام! لقد قلَّ الكلام مُذ وصلت حواف الأشياء كلها، كَبرت.. ومعنى أن تكبر يعني أن تصير على حافة الفرح، حافة الجنون، حافة اليأس، أن تتصالح مع النهايات وتطرزَ وجوهاً على هوائها.

 ثم يكبر المرء ويصير عدو نفسه، يكبر وتصغرُ الشهوات، يكبر فينكمشُ الفرح، نحن حين نكبر لا نشتهي الأحلام لإنَ لا سؤال بعد الكبر يأتينا "شو بدك تصير بس تكبر" صرنا، صرنا ومن ثم ماذا، ماذا بعد، أريدُ أن يأتي أحدٌ إلى مكان عملي ويسألني وأنا جالسة في ليلٍ باهت، ليل حزيران الثالث مثلاً، لا بردَ لا رعدَ ولا بريق في عيني، "شو بدك تصيري بس تكبري" في التاسع والثلاثينَ من عمر يأسٍ مُبكر، أو عُمر البحث عن عكاز في هذه البلاد يسند سؤالك الغفران يا مُذنبة وأجيب: أريدُ أن أحلق، لا! لا جناح حينَ نكبر، لا شعور طائر المينا، ولا بُعد صقر العوسق الأميركي المُدلل، إذاً ماذا أريد، أن يُهديني رجلٌ هذه الرسالة بدلاً مني "ذرف الدمع من دهاليز خلف صمامات القلب الأربعة حيثُ قُبلاتك وصخبُ حفل تذكاري يُقام كُلَ دقيقة حسب توقيت ثبات عينكِ المكرمة واستراحة الرموش بضع ثوانٍ من حرب مع السلطان جفنك المغرور، ضحكاتكِ تحفٌ كثيرة، وصوتك العرق الذي عُلقَ بهِ القلب إلى الرئتين، حُبكِ رقيق مثل طبقة الجلد التي تغطي الشفاه.."، النصُ جاهز لكن لا حب في هذه البلاد بعد كَبر.

  لا تحليق حين نكبر لا سماءَ تتسعُ ولا نحن أحباب الله بعد ذنب كهذا. ويكبر المرء وتلك نهاية الحكايا، نهاية ألف ليلة وليلتين، "ثُم كبر الأمير وتزوج من حبيبته.." وماذا، أريد أن يجيبني أحدٌ ماذا بعد نعيق الكبر مثل بوم، وذوبان وجودنا كحلزون، ماذا بعد أن يكبر المرء ويجلس مذوبة دموعه المتبقية فيه؟

وأسألُ، كيف صرنا بارعين في طي الحزن في أول درج في الخزانة، تقليمهُ مثل أظافرِ فتاة، وتطريز ليالٍ طويلة مثل قَده الميّاس تليق بحضرته، تسريح شعره الغجري وصوته التشرين وخصره صحن البلح، قامة الحُزن هيفاء، سيقانه السمراء والخلخال مقالةٌ سياسية، كيفَ صار الحُزنُ امرأةً شهباء وبشيرة، الحُزن رجلٌ، الحزن امرأة، هو كُلنا "هي، هو، هن، هم، هما، هاتان"، الحزنُ لا يتجزأ، الوحيد الكريمُ الرَحيم الذي يَهبنا كله، الذي يلمّ شملَ اغترابنا حينَ يفرح واحدنا فيبتعدُ على مرمى سؤال، الفرح مُكررٌ ومُعيد، الحُزن نحنُ ومع كل انبلاجٍ للصبحِ يتبدل، مرة يصيرُ طفلاً مُدللاً، يود لو نغسلُ جبينه البلح قُبلات، ومرة يصيرُ نادلةً بارعة تعرف كيف تجمع النساء وتضعهن خيطاً في حمالة الصدر، امرأةٌ مدروزة على جسدها عيون الرجال وذنوبهم، امرأةٌ جفنها الناعس سوسن. حيناً أراهُ أُماً، وليس حليب البلاد القادر على بنائنا لأنهُ غالباً صُنع في الصين بل حليب حقيقي من صنع الله في نهدي الحزن أنقذنا، رأيتهُ مرةً مايسترو، هذا الحزن والله مايسترو بارع، يقف بقامته الهيفاء يلوحُ بأصابعه قصب السُكّر والجميع آلاتٌ موسيقية تُلبّي، الحُزن حُلوٌ مُر نارٌ مِثل ثلج يذوب، هو عتمةٌ مِلؤها ضوء، رقص ساكن هادئ، هو دغدغة يد البحر لأكتافنا، الحزن كأسٌ ثريّة مرصعة بوجوهنا، الحزنُ بعيد قريبٌ مثل مجاورة الأصابع، الحُزن نحن حينَ لا نقوى على ارتداء وجوه جديدة مستحمة بالمجاملة، الحزن هو إعرابنا، هو معنى لكلمة أنا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.