}

يقين المنتحرين

عدي الزعبي عدي الزعبي 26 أكتوبر 2016
قص يقين المنتحرين
عمل فني للفنان السوري ثائر هلال (بإذن خاص)
أفكر في الانتحار كثيراً هذه الأيام. لا أقصد انتحاري أنا، بل انتحار الآخرين. يُقال إن النسبة الأكبر من المنتحرين هي من الشباب في عشرينياتهم. لا ينتحر الكهول، على العموم. يبدو هذا صحيحاً بين السوريين. لم أقرأ عن الانتحار شيئاً من قبل. الآن اضطررت لقراءة مقال ديفيد هيوم عن الانتحار، ضمن خطتي لقراءة أعماله الفلسفية الكاملة. لطالما وجدت الموضوع مملاً؛ اليوم تغيرت ظروفنا، وأصبح الموت حدثاً يومياً لكل السوريين. ينتحر إخوتنا بصمت، في الوطن وفي الشتات. فكرت بأن أذكر أسماء من انتحروا تمهيداً للحوار معهم، ولكنني تراجعت.

يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الأسماء لا تموت بموت أصحابها. ربما، ولكن يخيّل لي أنها تتبدّل بموتهم، تشير إلى شيء لا يُشار إليه هنا. انتحر ثلاثة من إخوة الفيلسوف في شبابهم. لن أذكر أسماء المنتحرين، أخشى أن أوقظ في عوائلهم ما لا يريدون الكلام فيه. من أنا لأطرق باب عائلة فًجعت بابن أو ابنة، هاتفاً "هيا فلنشرّح موت أولادكم على الملأ"؟ ولكن، ألا يحق لنا أن نفكر علناً بما يصيبنا، علّنا نطبّع مع الموت تمهيداً لفهمه / نفيه؟
يختلف الانتحار عن الموت العادي، يختار الناس موتهم عندما ينتحرون. لا أعتقد أننا يجب أن نحترم كافة خيارات الإنسان. إلا أنني أيضاً لا أعرف بالضبط أين تتوقف خياراتنا عن أن تكون خياراتنا فقط. ولكن، لماذا ينتحر الناس؟ يقول خورخي لويس بورخيس إن المنتحرين ينتحرون ليعاقبوا أهلهم، عادة أحد الوالدين. لا أعتقد أن هذا صحيح في الوضع السوري.

ينتحر الناس ببساطة يأساً، لا حاجة لنظريات أعمق. كان الماركسيون يدينون المنتحرين دوماً، قائلين إن الانتحار فعلة برجوازية. لا ينطبق هذا علينا أيضاً. لا يوجد برجوازيون وبروليتاريا بين المنتحرين السوريين. هو اليأس، لا غير. ينتحر الأدباء والفنانون أكثر من غيرهم، أو ربما لا: ولكننا نعرف من انتحر منهم، ولا نعرف من ينتحر من العمال والمهندسين وعمال النظافة والباعة الجوالين. كان الرومان ينتحرون كثيراً؛ واليابانيون ما زالوا يفعلون ذلك. لا يشبهنا انتحارهم الرهيف المتعالي المتفرّد. لا أعرف من المنتحرين العرب إلا خليل حاوي وعبد الكريم الجندي. انتحر الأول وحده بعد سقوط بيروت، وانتحر الثاني خوف القبض عليه من قبل رفاقه. هذان انتحاران فريدان، لا يشبهان هذا الشعور العام بحضور الانتحار اليومي كخيار مفتوح. اليوم، ينتحر السوري يأساً لأن العالم لم يعد يتسع لنا. مثل هيوم، لا أجد أي غضاضة في قبول هذا الانتحار: انتحار اليائسين النبيل. هناك من الموت المنتشر ما يفوق طاقتنا.


انتشر الانتحار بين اليهود أثناء وبعد الهولوكوست. يموت الناس بكثرة فيقتل نفسه من يحيط بهم ولم يمت معهم. يتعمم الموت ليشمل الأحياء. لا فارق بين أحياء ومفقودين ومحاصرين ومعتقلين وعسكر وناجين يعيشون على الهامش. هو اليأس يجمعهم، فيفيض بعضهم بموت يختارونه طائعين. يقول المسلمون والمسيحيون واليهود إن الله سيعاقب المنتحرين. لا أعرف كيف سيعاقبهم، وأشك في معاقبة ذلك الذي اختصر الطرق إلى ما سننتهي إليه جميعاً. ربما يكمن العقاب في إرساله ثانية إلى الأرض، ونزع خيار الانتحار من يده. لا عقوبة أقسى من هذه لمن لا يستطيع الحياة هنا. غالباً ما كنت أتصوّر الجحيم أرضاً لا مخرج منها. نحيا ونحيا ونحيا فيها من دون نهاية: لا يبدّل الله فيها شيئاً، ولا نبدّل نحن فيها شيئاً. يشبه هذا الجحيم نهاية التاريخ، كما يشبه يوتوبيات أوروبية: عالم ساكن لا حركة فيه، كعالم بارميندس الفلسفي.

ولكنّ العالم الواقعي مليء بالأسئلة والشك والخوف والتهوّر والغدر والإخفاقات الجزئية والنجاحات الناقصة والأفكار الغبية والمغامرات والحب الأول والثاني والثالث وبالأولاد العاقين وبأنصاف أبطال لا يتخلون عن أحلامهم وبعاهرات وقوّادين وفلاسفة وأطباء ومهندسين وأدباء وطلّاب يمشون على الدرب من دون أن يعرفوا أين ينتهي بالضبط.

هذا ما سُرق من السوريين: عالم مفتوح الأفق على سموات سبع.

كي تتسع الحياة علينا أن نجهل المستقبل قليلاً: اليقين بأن هذا الحاضر سيمتد إلى مستقبلنا بأكمله هو الدرب المفضي حتماً إلى انتحارات مثيرة ويأس لا راد له، كالقضاء والقدر. على القدر أن ينعم علينا بجهلٍ يحمينا من سطوة اليقين. يشبه الأمر نعمة النسيان، كما تسميها المطربة الحلبية. مستقبل سجن يشبه ذاكرة مُعتقلة. لا تتحرر الذاكرة بتغيير الماضي، لا نعرف سبيلاً إلى هذا؛ كلنا أسرى الماضي بالضرورة. أما المستقبل فيتحرر بغياب اليقين فقط.

وحده الجهل سينقذنا مما نحن فيه.

 

مقالات اخرى للكاتب

قص
25 مارس 2017
قص
26 أكتوبر 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.