}

هكذا أهلُنا علَّمُونا (سيرة حياة مُتَخيلة لــ عبد الله النعيمي)

هكذا أهلُنا علَّمُونا

وما كان ذنبُهُم

نحنُ وُلدْنَا مَحمولين على ظهورِ آباءٍ يلجؤُون إلى الخيام

وما كان ذنبُهُم

لحمُ أكتافِنا معجونٌ من كَرتِ الإعاشةِ والانتظارِ

كرات أقدمنا من بقايا ثياب بالية ملفوفةً بقماشِ أكياسِ الطحين

لم يكنْ لدينا وقت للتّعلُّمِ؛ لأنّا كنّا نُضيّع الوقتَ في الذهاب مَشياً إلى المدرسة، والعودةِ منها.

كان دواءُ مَغصِنَا حَجَراً متوسّطَ الحجمِ، نضعُهُ تحتَ بطونِنَا، وننامُ

كانت سيوفُ لَعِبِنَا البلاستيكيةُ الجميلةُ الملوّنةُ عيدانَ قَصَبٍ.

وكان وادي الرګاد (1) الوحشيّ حديقةَ خيمتِنَا الخلفيةَ.

وهناك تَرَكْنَا على كلِّ حجرٍ من أحجارِهِ قطراتِ دمٍ باردةً، نزَّتْ من أقدامِنَا الحافيةِ، تبحثُ بعدَ كلّ بَرقٍ عن الفطْرِ والعكّوب.

كنّا قُساةً، يا بنيّ، نعم. كنّا قُساةً

كنّا نستحمّ باللَّكَن، ولِيْفَتُنا كانت من أحجارِ الخفّانِ التي جَلَبْنَاهَا من زيزون؛ لِنبيعَهَا للسّيّاح.

حتّى سيّاحَنا، يا بنيّ، كانوا مَحلّيّين!

على سيرة زيزون؛

أذكرُ مرّةً، هناك، نسوةً شاميّاتٍ، جئنَ زيزون، يجمعنَ حجرَ الخفّان، بكى رضيعٌ جائعٌ، واحتارتِ النّسوةُ به، كان على أمِّه إرضاعُهُ، وزيزونُ مَبسوطةٌ؛ لأنّ في آخرِهَا شلالاتُ تلِّ شهاب. كان الحلُّ أن تحيطَ النّسوةُ أمَّ الرضيعِ، فيُشَكِّلْنَ ما يشبُه غرفةً؛ لتُرضِعَهُ بها دونَ العيونِ (لكنّ عيونَنَا كانتْ تتربّصُ بهنَّ، كأنّنا على الجبهةِ، واليهودُ سيهجُمُون بعدَ لحظةٍ). فجأةً ضربتِ الشّمسُ إحدى النّساءِ المُتَجَدْرِنَاتِ، فسقطتْ مِن على طُولِهَا، ورأينَا نحنُ نَهْدَ المُرضعةِ الشاميّةِ الصّبيّةِ البيضاءِ.

ظَلَلْنَا لشهورَ، يا بنيّ، نجتمعُ في (حوش القَصَبِ) في وادي اليرموكِ تحتَ شلالاتِ تلّ شهاب، ونحتلمُ على ذلك النَّهدِ، ونقذفُ أحلاماً دمشقيّةً.

لكنّنا توقّفْنا تماماً عن الاحتلامِ حينَ مرّة سقطَ علينا قطيعٌ من البقرِ الأسودِ من الشّلالِ.

وهناك تَرَكْنَا أحلامَنَا

تركْنَاها في ظلامِ الوادي

تتساقطُ عليها بقراتٌ سودٌ

تتلفّظُ أنفاسَهَا الأخيرةَ دون أن تموتَ، ولتُدركَ حواسّها تتشمّم وردَ الصّبّار، ثمّ تمسِكُ الصّبّارَ بيدِهَا، وتتألمُ، ثم تُفلّي شوكَهَا باكيةً، ثمّ تُعيدُ الكَرَّةَ.

لا تزالُ تُعيدُ الكَرَّةَ

لا تزالُ تتلفّظُ أنفاسَهَا الأخيرةَ؛ لتدركَ حواسَّها.

لا تزالُ لم تدركْ حواسَّها أحلامُنَا.

نعم، كنّا قُساةً، يا بنيّ .. كنّا قُساةً

لا أحدَ يتذكّرُ أنفاسَهُ كاملةً

شهقةٌ هنا، وزفرةٌ هناكَ

لكنّ ضِيق التّنفّس أصبحَ عادةً

فمع أنّه لم تكنْ هناكَ حربٌ

لكنّ الجنودَ كانُوا يعودُونَ بأطرافٍ ناقصةٍ

وهكذا تعلَّمْنَا الرياضيّات، يا بنيّ

جنديُّ ناقصُ ذراعٍ يسارٍ يساوي، لن يشاركَ بحصادِ القمحِ

جنديُّ ناقصُ ذراعٍ يمينٍ يساوي، لن يحتلمَ على نَهدِ دمشقيّةٍ

كنّا دائماً نتساءلُ: أين تذهبُ كلُّ تلكَ الأذرعِ، ولم تكنْ هناك حربٌ؟!

هذا كان تساؤلاً جَمْعيّاً. أمّا أنا، يا بنيّ، بشكل فرديّ، كان تساؤلي هو:

مِن أينَ سأجلبُ أذرعَ لأصدقائي؛ ليساعدُوني في تعميرِ البيتِ حين سأتزوَّجُ؟!

فذهبتُ للحربِ

لا أحدَ يتذكَّرُ الجُثثَ كاملةً

يَدٌ هنا، وقَدَمٌ هناكَ

إصبعٌ سقطَ على حجرٍ، فظننّاهُ عقرباً مفتولَ العضلاتِ

قطعةُ دماغٍ (عَرَفْنَا أنّها لشاعرٍ) لأنّها لا تزالُ تفكّرُ، هل حقَّاً توقّفَ آرثر رامبو عن كتابةِ الشّعرِ؟!

كُلْيَةٌ سقطتْ على حجرٍ، فظننّاها عصفوراً صَبَغَ ريشَهُ باللونِ الأحمرِ.

قطعةُ قلبٍ، عَرَفْنَا أنّها لعاشقٍ؛ لأنها لا تزالُ تنبضُ

أمّا الجثّةُ الوحيدةُ التي رأينَاها، والتي يمكن القول عنها شبهَ كاملةٍ، فكانتْ بلا ذراعَ يُمنى.

على سيرةِ الذراعِ اليُمنى، تذكَّرتُ معجزةً حَدَثتْ معنا ذاتَ مرَّةٍ.

كان لنا صديقٌ حميمٌ جداً، كان سيّئ الحظِّ، لكنّه طيّبُ القلبِ، وخَدُومٌ، له فضلٌ كثيرٌ علينا جميعاً، عادَ بلا ذراعٍ يُمنى. وكان معنا مرّة في حفلةِ الاحتلامِ، وهو بالطبعِ لا يستطيعُ (فأنتَ تعلمُ أن الذي يحتلمُ باليدِ اليسارِ تخرُجُ منه نطافٌ سوداء اللون). المهمّ، احتلمْنَا نحنُ له.

من فرحتِهِ، نَبَتَتْ له ذراعٌ يُمنى

ولكنْ؛ لسُوءِ حظِّه أنّها نَبَتَتْ في الجهةِ اليُسرى.

لا تصدِّقْ ما يقالُ، يا بنيّ

حول أنّ شاهدةَ القبر تُخلِّد أصحابَهَا

فما هي إلا أذرعٌ يُمنى فَقَدَهَا الجنودُ بعدما عادُوا؛ حيثُ لم يكنْ هناك حربٌ.

كنّا قُساةً، يا بنيّ .. كنّا قُساةً

وبعد أن انتهتِ الحربُ

عُدتُ

لم أفقدْ لحُسنِ الحظِّ، لا ذراعيَ، اليُمنى ولا حتّى اليُسرى

لكنّي فقدتُ اليمينَ واليسارَ والجهاتِ جميعَهَا

ولم يعدْ يَعنيني إنْ خرجتْ نطافيَ بيضاءَ أم سوداءَ

عُدتُ إلى "جلّين"(2) أجلسُ كلَّ النهارِ على طرفِ الوادي،
وأتأمّلُ زيزونَ وشلالات تلّ شهاب المقابلة تماماً

لكنّي أرى فقط بقراتٍ سوداءَ، تسقطُ علينا

بقراتٍ سوداءَ بدلَ الماء!

أقسمُ لكَ بحياةِ التي تعرفُهَا!

شلالات تلّ شهاب، يا رجل!

أراها بقراً أسودَ ينهمرُ

أما الوادي؛ فأراهُ نَهدَ دمشقيّة، لكنْ؛ بالمقلوبِ 

هل جُننتُ؟!

لذا؛ ذهبتُ إلى دمشقَ

وتحمَّمتُ في حمّام المقدادِ محاولاً أن أُدركَ حواسّي

لكنّ أفعى خرجتْ من حارةِ اليهودِ، وأكلتْ حاسَّةَ الشَّمِّ

جواربُ جنودٍ، لها رائحةٌ نتنةٌ، كانت تتمشّى وحدَها في سوقِ الحميديّةِ

بزّاتُ رقصٍ، تركتْها أجسادُ الراقصاتِ، ولكنّها ظلّتْ ترقصُ وحدَها

بينما أيادٍ جبليةٌ كانت تطرقُ باب الجابيةِ

خلفَ باب السلامِ اختبأتِ الحربُ

مِنْ سوقِ البزوريةِ، اشترى أحدُهُم حجرَ خفّان، جيء به من زيزونَ، واستحمّ به في حمّام المقداد محاولاً أن يُدرِكَ حواسَّهُ.

هذا كان أبوكَ، يا بنيّ

له رئةٌ مُخمَّرةٌ بهواءِ وادي الرګادِ؛ حيث ينمو بعد كلِّ برقٍ العكّوبُ، ولكنّه كان يبحثُ عن الفطرِ.

العكُّوبُ لذيذٌ، ولهُ طَعْمٌ رقيقٌ، يا بنيّ (تعرفه، ها؟!)

لكنّه نباتٌ شوكيٌّ

لذا؛ كنّا قُساةً، يا بنيّ ... كنّا قُساةً

أصعدُ جبلَ قاسيون

لأسقطَ منه في دُمَّر البلد، وفوقي تلّ، يُسمُّونه الأقرعَ 

حيثُ نزلتْ منه مرّةً امرأةٌ ترتدي الشارلستون، ابتسمتْ لي، فتزوّجْنَا

ومِنْ حينِهَا أنا هناكَ، يا بنيّ 

ربمّا عُدتُ للحربِ مرّة أو مرَّتَين 

فلا أحدَ يتذكّر هزائمَهُ كاملةً

ولكنّي أتذكّرُ أنّنا كنّا نستعدُّ للحروبِ

بتخزينِ الخبزِ والبطّيخِ والأطرافِ الصّناعيّةِ

(أتذكّرُ مرّةً طالتِ الحربُ، وأصابَنَا نقصٌ كبيرٌ بالأطرافِ الصناعيّةِ، لذا؛ دَفَنَّا شهداءَنا دونَ شواهدَ لقبورِهِم)

أصعدُ جبلَ قاسيون 

لأسقطَ منه في دمشقَ، وفي يدي زوجةٌ ارتدَتْ مرّة الشارلستون، وابتسمتْ لي، فتزوّجتُهَا

دخلْنَا مطعماً، وطلبْنَا طبيخَاً، ولكنّ النادلَ جَلَبَ لنا بقرةً سوداءَ، وذبحَهَا على الطاولةِ، وهو يضحكُ، فأصابَ أمَّكَ الرّعبُ، فحَمَلَتْ بكَ.

بقرةٌ مقطوعةُ الرأسِ، وتنزفُ دماً كثيفاً على الطاولةِ 

والنادلُ يضحكُ 

وأمُّكَ تحبلُ بكَ من الرعبِ

لذا؛ أخرجتُ من حقيبتي ذراعاً اصطناعيةً، وكَشَشْتُ بها على الرعبِ 

توقّفَ رأسُ البقرةِ عن النزفِ 

النادلُ بدأ بالبكاءِ

أمُّكَ وَضَعَتْكَ 

أصعدُ جبلَ قاسيون ثانية 

لأسقطَ منه في دُمَّر، وفي يدي زوجةٌ ارتدتْ مرّة الشارلستون، وابتسمتْ لي، فتزوّجتُهَا

في يدي، أنتَ، يا وَلَدي  

وليسَ في يدي حيلةٌ

لكنّي ذبحتُ لكَ خاروفاً قرباناً 

ثمّ خلعتُ على بابِ البيتِ نعليَّ، ودخلتُ 

ووضعتُكَ في غرفتِكَ، وجلستُ أتأمَّلُكَ، بينما أمُّكَ تطهو لنا 

أتأمَّلُكَ ... أقتربُ أكثرَ ... أنقضُّ عليكَ

أقبِّلُكَ، ثمّ أرميكَ في الهواءِ، وأتلقّاكَ 

ضحكتُكَ تعلو 

ضحكتُكَ مثل شلال ماءٍ  

أرميكَ أعلى، وتسقطُ عليّ، وأتلقّاكَ 

أُغمض عينيّ

أرميكَ أعلى، وتسقطُ 

شلالٌ من البراءةِ ينهمرُ عليّ

لكنّي حين أفتحُ عينيّ، أرى بقراً أسودَ يسقطُ عليّ

أرتعبُ، وعاجلاً ما أنتبهُ، ولكنّي لا أستطيعُ أن ألتقطَكَ، فتسقطَ من يديّ 

تشبهُ عصفوراً يقفُ على الأسلاكِ الشائكةِ 

تشبهُ بلاداً خسرناها في ليلةِ صيفٍ.

ماذا سأُورثُكَ، إذنْ؟!

قطعةَ أرضٍ في بلاد مُحتلّة؟!

أم شعباً كاملاً يرقصُ الدبكةَ؟! 

أم الأغاني؟!

أمُّكَ تطهو، وأنا أتأمَّلُكَ، وأنتَ تكبُرُ 

تشبهُ عصفوراً يقفُ على الأسلاكِ الشائكةِ 

أمُّكَ تذهبُ للمدرسةِ، وأنتَ تكبُرُ

أنا أذهبُ للمدرسةِ، وأنتَ تكبُرُ 

أمُّكَ تلدُ أخواتٍ لكَ، وأنتَ تكبُرُ  

أخواتُكَ يَكْبُرْنَ، وأنتَ تشبهُ عصفوراً يقفُ على الأسلاكِ الشائكةِ 

نعم، كنّا قُساةً، يا بنيّ، كنّا قُساةً 

لا أحدَ يتذكَّرُ أخطاءَهُ كاملةً

حسرةٌ هنا، وأُمنيّةٌ هناك

كنتَ في يديّ تلعبُ

ثمّ سقطتَ من بينهِما

أتذكّرُ تماماً حجمَ الفراغِ الذي تركتَهُ بينَهُما

مَلمَسَ الهواءِ الذي أخذَ مكانَكَ

المشهدَ الذي كانَ خلفَكَ

وبكاءَكَ الذي صعدَ إلى السطحِ؛ ليُهفهفَ

غسيلَ عائلةٍ كاملةٍ منشوراً على الحبالِ

كنزةَ الأختِ وجوربَهَا

بجامةَ نومِهَا تُنقّطُ منها أحلامَهَا

بنطالَ أمِّكَ الشارلستون وبزّةَ أبيكَ العسكريّةَ

إشارباتٍ ملوَّنةً وكيسَ تصفيةِ اللبنِ

طقمَ أبيكَ السفاري أيضاً كان مُعلَّقاً هناكَ

لفافاتِكَ البيضاءَ التي كنّا نلفُّكَ بها رضيعاً، تلك التي ستكبُرُ معكَ؛ لتُصبحَ كَفَنَكَ!

جاءَ غرابٌ، ووقفَ على حبلِ الغسيلِ

زعقَ كثيراً، ولم يستجبْ له أحدٌ

أَخرجَ من جيبِ بنطالِهِ "موساً كباساً"، وقطعَ بها الحبلَ

توقَّفتَ أنتَ عن البكاءِ

لكنّكَ لا تزال تكبرُ

أمُّكَ تطهو، وأنتَ تكبرُ

ماذا أُورثُكَ، يا ولدي؟

قطعةَ أرضٍ في بلادٍ مُحتلّة!!

نعم، كنّا قُساةً، يا بنيّ .. كنّا قُساةً.



 *شاعر من فلسطين يقيم في ميلانو


(الصورة: لوحة للفنان السوري لؤي كيالي)

1- وادي الرګاد (الرقاد) أحد فروع وادي اليرموك، على طرفه الآخر هضبة الجولان المحتلة وهناك ترى أعلام دولة الاحتلال الإسرائيلي جنباً لجنب أعلام قوات حفظ السلام.

2- جلّين: قرية في محافظة درعا السورية 25 كلم غرباً، تشرف القرية من جهاتها الشمالية والجنوبية والغربية على وادي اليرموك، ويقابلها من الطرف الآخر مناطق سياحية شهيرة هناك ومنها شلالات تل شهاب وزيزون – وجلين هي القرية التي نشأ بها والدي وفيها مخيم غير رسمي للاجئين الفلسطينيين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.