}

فتحي المسكيني: إسرائيل تطبيقة كولونيالية وليست "ذاتًا" كي نحاورها

عيسى جابلي 6 مارس 2024

 

وسط هذا الكم الهائل من الدمار والموت والتشريد والتجويع والإجرام الذي لم تعرف البشرية له مثيلًا، نحاول أن نفهم ما يحصل في هذا العالم الذي بات بؤرة للموت والتعذيب اليومي. ووسط هذه الغوغاء التي تحيط بنا في رحلة تيهنا وضياعنا إزاء أبشع جريمة ترتكبها الصهيونية في فلسطين وفي غزة تحديدًا على مرأى من العالم ومسمع منه، علينا أن نصغي إلى صوت عاقل ينير إلينا الطّريق لنفهم، فلعلّ المصيبة إذا فُهمت خفّ وقعها على الأقل في انتظار أن نجد منها مخرجًا. وليس أفضل من المفكرين في هذه الأوقات قدرةً على تعقّل اللّحظة وفهمها وتفكيكها. لذلك كان هذا الحوار تدريبًا على الاستماع إلى مفكر معاصر ينوء بحمل الراهن المثقل بالهموم، ولكنّه يحتفظ بعقله نابضًا رغم حجم الكارثة وعمق المأساة: فتحي المسكيني، التونسي الّذي لم يتردّد يومًا في نصرة القضايا العادلة في العالم، والقضيّة الفلسطينيّة تحديدًا. هو المفكر والشاعر والمترجم وأستاذنا الجامعي المتميّز، صاحب عشرات المؤلفات، ومنها تمثيلًا لا حصرًا: "الهُوِية والزمان"، و"نقد العقل التأويلي"، و"هيجل ونهاية الميتافيزيقا"، و"الثورات العربية"، و"الهجرة إلى الإنسانية"، و"الدين والإمبراطورية"، و"الفيلسوف والإمبراطورية". أمَّا عن ترجماته فنذكر منها: "في جينالوجيا الأخلاق"، و"المثالية الألمانية"، و"قلق الجندر"، و"الدين في حدود مجرد العقل"، و"بيان ثانٍ من أجل الفلسفة"، هذا فضلًا عن مقالاته المتعددة ودراساته التي نشرها في المجلات والصحف التونسية والعربية والأجنبية، وكتَبها باللغات العربية والألمانية والفرنسية. 

(*) لنبدأ أوّلًا ببعض الأسئلة المتعلقة بما هو آني: كيف يتابع فتحي المسكيني ما يحصل في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وكيف يفهمه؟

"الآني" مشكل فلسفي مرعب، شغل المعاصرين منذ كانط. ويبدو أنّ "حدث" الثورة الفرنسية هو الذي دشّن التفكير في ما هو "آني". ومن هيغل إلى أغامبن راهنا، تساءل الفلاسفة: "ما هو الحاضر؟"؛ "ما هو المعاصر؟"، "ما الذي يحدث الآن؟"... لكنّ الأوروبيين قد تميّزوا بالحرص على ضخّ "ذاتيّة" مركزيّة في أسئلتهم، لخصّها فوكو في هذه الصّيغة النموذجيّة:

"منذ اليوم الذي طرح فيه كانط السؤال "ما هو التنوير؟"، وذلك يعني ما هي راهنيّتنا (actualité)، ماذا يحدث حولنا، ما هو حاضرنا؟، يبدو لي، أنّ الفلسفة قد اكتسبت بُعدًا جديدًا. زيادة على ذلك، لقد انفتحت لها مهمّة جديدة كانت قد تجاهلتها أو لم تكن توجد بالنسبة إليها سابقًا، وهي أن تقول من نحن، أن تقول: ما هو حاضرنا، ما هذا، اليوم. ومن البديهي أنّ سؤالًا كهذا لم يكن ليكون له معنى بالنسبة إلى ديكارت".

ماذا يفيدنا هذا التعريج على "الفرنجة" للتفكير في ما يحدث في أفق انتمائنا؟ إنّ البعد الجديد الذي أشار إليه فوكو بكلّ حرص هو بُعد "النحن" ولكن بوصفه نمطًا غير ديكارتي من "الذاتية": النحن بوصفها "شكلًا من الحاضر"، الذات بوصفها "حدثًا" غير مسبوق: الذات بوصفها "آنيّة" خاصة، نوعًا خاصًّا من "الحاضر"، ألا وهو الحاضر الذي يحمل توقيعًا: ليس أيّ حاضر بل حاضر "نحن" شديدة التحديد. وهو ما منح للفلسفة (القول الحرّ في معنى الكينونة في العالم) مهمّة جديدة: "أن تقول من نحن" ولكن بوصفه مرادفًا للإجابة عن السؤال: ما هو حاضرنا؟ ما هذا، اليوم؟". وما يفعله "الأوروبي" (وليس "الفيلسوف" غير "صوت الصديق" الأقصى لثقافة ما) هو الاستيلاء على الحاضر بوصفه حاضرًا خاصًّا بنوع من "النحن"، حتى ينجح في بناء هوية أو تطابق بين "الروحي" (نحن) و"الزماني" (الحاضر)، في شكل ترجمة "علمانية" تعاني من فقدان الذاكرة. ولذلك تسمّي نفسها "أركيولوجيا الحاضر": أي كيف نستعيد "نحن" معيّنة تحوّلت إلى "شكل من الحاضر"؟

يفيدنا هذا التعريج بفكرة مزعجة- إنّ السؤال: كيف "نتابع" ما "يحصل" في غزّة راهنًا وكيف "نفهمه"؟ هو سؤال يضع المتفلسف لدينا أمام اختبار لا يقبل التفاوض، ألا وهو: إلى أيّ مدى يمكنه أن يبني التماهي الذي أشار إليه فوكو بين السؤال عن "الحدث" ("ما الذي يحدث حولنا؟") وبين السؤال عن شكل "النحن" التي نكونها ("أن يقول من نحن؟") ؟ علينا أن نتساءل دونما مواربة: هل "نحن" ننتمي إلى ما حدث في غزّة منذ 07 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أم نحن نقف "خارج" هذا الانتماء؟ هل نعثر "هناك"، في هذا الشكل من "اليوم"، على سؤالنا حول أنفسنا الجديدة، أم إنّنا في حلّ هووي من هذه "المعاصرة" المزعجة؟

علينا أن نذكّر أنّ فوكو لم يعيّن إجابة هووية محدّدة للسؤال الذي طرحه كانط واستمرّ يعمل في شكل من "أنطولوجيا الحاضر" إلى حدّ فوكو نفسه. هو فقط قد رسم شكل السؤال الذي أخذ يميّز الأوروبيين منذ نهاية القرن الثامن عشر: أنّهم نوع من "النحن" الجديدة التي تقيم علاقة بنيوية بين "أن نقول من نحن؟" وبين أن نسأل "ما هو حاضرنا؟"، علاقة بنيوية بين "الهوية والزمان".

من أجل ذلك يبدو لي أنّ ما حدث يوم 07 أكتوبر هو ظهور "بعد جديد" لأسئلتنا عن "العصر" بوصفه شكلًا من الانتماء، وبالتالي أيضًا "مهمة جديدة" للتفكير في "من نحن اليوم؟". وعلى المتفلسفة – إذا ما وُجدوا- أن يتلقّوا هذه الإشارة التي تتميّز عن السابقات- هناك إشارات سابقات منذ صدمة نابليون سنة 1798- بكونها تربطنا ربطًا مباشرًا بالمستحيل كما وصفه دوستويفسكي في "رسائل من تحت الأرض"، بوصفه "جدارًا صخريًّا" يفصلنا عن أنفسنا: نحن في نقل مباشر للكارثة، أي للتدمير المنهجي للجدار الأخلاقي لما يسمّى منذ القرن الثامن عشر: "إنسانية" عبر الإنتاج النسقي للجثث بوصفها أكياسًا مبتذلة من الحياة. وهذا يعني أنّ الكارثة في غزّة- بعد أن تحوّلت إلى "إبادة" ما بعد حديثة لرهط مهمل من النوع البشري- هي ليست حدثًا "فلسطينيًّا" محلّيًّا: إنّ "الجغرافيا" هنا تهمة. إنّ ما يُباد هناك ليس "نحن" معيّنة؛ بل "الوضع البشري" بوصفه تهمة. وهنا يصبح "الآني" مجرّد مقطع من كارثة، أي من حدث "إمبراطوري" يمتدّ من ديكارت إلى الاستعمار ومنه إلى العولمة. ويبدو لي أنّ ما يحدث في غزّة من إبادة ليس مشكلًا "يهوديًّا" يمكن فهمه بمدوّنة دينية، بل هو مشكل "كولونيالي" شديد الارتباط بالوجه المظلم من آلة "الحداثة": هذه الترجمة الأوروبية للسلطة الكولونيالية على الشعوب الأخرى بوصفها "مادة" و"مجالًا" و"أداة" و"منجمًا"، أي بوصفها لا ترقى حتى إلى شخصية "الآخر" التي احتكرها اليهودي الأخير كما عبّر عن نفسه من ليفناس وأدورنو وبنيامين وبلوخ إلى دريدا. لم يفعل "الصهيوني" غير استعمال "اليهودي" كمجرّد هوية سردية للكارثة "الحديثة". لكنّه لم يفعل ذلك إلاّ في شكل "ترجمة": لقد أتقن متأخّرًا، في القرن العشرين، كيف يترجم اللعبة الكولونيالية للحداثة في تمرين إبادة على الطريقة الأميركية إزاء الهندي الأحمر: "الإبادة" بوصها تمرينًا منهجيًّا للإجابة عن سؤال فوكو: إبادة شعب أصلي هي الإجابة الكولونيالية عن مطلب التماهي بين السؤال "ما هو حاضرنا؟" والسؤال "من نحن؟". "إسرائيل" هي تطبيقة كولونيالية وليست "ذاتًا" علينا أن نحاورها. 

أمام هذه المعضلة علينا أن نختار بين "الكلام بحرّية" (parrēsia التي شغلت فوكو) الذي ينتج نوعًا من المجازفة غير المحسوبة ولا تخلو من تهكّم، وبين "الكلام عن بُعد" (teleiopoesis التي وعدنا بها دريدا) الذي يوجّه سياسة ما في الصداقة القائمة على "النداء". ولكن بعيدا عن أيّ قول مزعوم في "الأصول": بل فقط عن "شبكات" و"أشباح".

 


(*) أثارت عملية طوفان الأقصى جدلًا واسعًا حتى في الشارع العربي بين من يعتبرها مقاومة ومن يعتبرها إرهابًا، بل إن هناك من رأى أنّها تجمع بين المفهومين. كيف تعرّف هذين المفهومين أوّلًا؟ ثمّ ما رأيك في عملية طوفان الأقصى بناء على ذلك؟

أوّلًا ما نسمّيه "الشارع العربي" هو ادّعاء سردي علينا أن نعمل على بنائه أو تعريفه أخلاقيًّا (من خلال "نحن" معيّنة) وثقافيًّا (من خلال "روح العصر" التي تخصّنا): إذْ إنّه من دون "فضاء عمومي" حرّ، لا يمكن الحديث عن "رأي عام" فاعل. ومن ثمّ، إنّ الخصومة "اليومية" حول "مقاومة أم إرهاب" هي خاضعة لما سمّاه هيدغر "دكتاتورية الهُمْ" أو "الناس" بعامة، دون أيّ تحديد "ذاتي". "هُمْ" يقولون، "هُمْ" تعني حسب هيدغر "لا أحد". وهذا الشخص السردي كثيرًا ما يتكلّم بدلًا عن جميع الذين يفكّرون. يحتلّ نظام الخطاب كي يمنعهم من حرية التفكير.

من أراد فعلًا أن يفكّر في ما "حدث" عليه أن يخرج من منطقة "الهمْ"، وأن يعيد للحدث توحشّه الخاص.

نحن "نوجد" لكنّنا لا "نحدث" إلاّ نادرًا. الحدث هو لحظة فارقة لا نعلنها متى نشاء. كان العرب القدامى يطلقون على ذلك اسم "اليوم" (يوم ذي قار، يوم بعاث...)، ثم ربّما سُمّي "الوقعة" أو "الوقيعة"، والآن ربّما صرنا نقول "الحدث": أي أكبر كمّية ممكنة من "المستحيل" في وقت ما، قد ينجح نوع من الناس في إيقاعها. ما وقع يوم 07 أكتوبر 2023 هو "حدث"، وكلّ نقاش حول "هويته" (هل هو مقاومة أم إرهاب) هو ثرثرة تقف خارج أفقه. لا يحتاج المستحيل إلى أيّ ممكن كي يبرّر وجوده. "نحن" نقف خارج هذا الحدث، لكنّنا مخيّرون بين أن ننتمي إليه أو نواصل طريقنا، "وكأنّ شيئا لم يحدث".

طبعًا، علينا أن نسأل: لماذا حُصر دورنا في سردية "الغرب المعولم" منذ سقوط جدار برلين في "شخصية" الإرهابي، والذي هو كما يعلم المؤرّخون بطل في مسرحية الثورة الفرنسية قبل أن يُسند إلينا بكلّ حرص درامي من طرف مخرج العوالم الجديدة؟ ربّما أنّ "مسرحة" العالم- وهو مكسب أدبي من اختراع الوجوديين- هو، على الأقلّ، قد يفيدنا أكثر من حيلة "عقلنة" العالم كما ادّعى مهندسو الأنوار الأوروبية. "العالم المعاصر بوصفه مسرحية" صيغة قد تترك لنا فرصة التمتّع بدورنا: أن نعيد اختراعه بالشكل المناسب، وهو ما لم نفعله إلى حدّ الآن. هنا تأتي فرصة "المقاومة"، ليست "هذه" المقاومة أو "تلك"، بل فكرة المقاومة.

علينا أن نفكّر بالمقاومة بوصفها "فرصة" أي "إمكانية مستحيل" علينا اختراعها. وليس مجرّد ردّة فعل ارتكاسية للضحايا: المقاومة ليست اختيار الضعفاء. لا يوجد "ضعفاء" إلاّ داخل قصّة. هو إذًا تأويل، وليس معطى أنطولوجيًّا. "قاوم" الشيء أي "قام معه" أو "قام مقامه"، ومنه "واجهه" و"ضادّه". هناك "معيّة" إجبارية، و"نيابة" عدميّة، و"وجهيّة" أصلية، و"مضادّة" بنيوية.

إذا كان هذا "الشيء" عدوًّا، فهو خصم علينا أن نقوم "معه"، لا معنى لعداوة متوحّدة؛ أن نكون أعداء يعني سلفًا "أن نكون معًا". ومن ثمّ إنّ دعاوى "العيش معًا" لا تخلو أبدًا من قدرة فذّة وخبيئة على العداوة. أن تكون عدوّي هو أن تقوم مقامي أيضًا: أي أن ترغب في عدمي. هناك إغراء عدمي فظيع في أن تقوم مقامي. لكنّ ما يعطي العداوة نكهة خاصة هو "الوجهيّة" الأصلية في ما هو بشري: لا معنى لمقاومة بلا وجه أو لا تواجه. وهذا يعني أنّ العدوّ ضروريّ تمامًا كي نحافظ على ملامحنا. هو ذلك "الضدّ" الملائم تمامًا كي يكون لنا "وجه".

طبعًا، "نحن" فقدنا هذه الحواسّ المناسبة كي نعدّل أفق أنفسنا، ومن ثمّ فقدنا معنى أن يكون لنا "عدوّ" بنيوي. نحن نعيش في شكل "مواطنة" سويّة بلا أعداء خارجيين. لكنّ الفلسطيني حالة استثنائية اليوم: هو الوحيد الذي احتفظ بعدوّه في بيته. ومن ثمّ هو كائن سياسي "بلا خارج". إنّ عدوّه لا يزال يزعم أنّه داخله. إنّ المقاومة هنا ليست (كما في حروب التحرير من الاستعمار) طردًا للخارج. بل هي حدث داخلي في "الهوية": في هوية الأرض والساكن جميعًا. بذلك فإنّ العدوّ لا يأتي من الخارج بل يصعد من الداخل، تمامًا مثل "الموت" في تعريف دولوز. العدوّ "يبدأ" من لا مكان، لأنّه هنا في الداخل "معنا".

كل عداوة هي استعمال خبيث للبدايات. ولأنّ العدوّ هو دومًا ذاك الذي يكون قد "بدأ" العلاقة معنا، أي بالمعنى القرآني "أوجدها" و"خلقها"، فهو يكون قد فرض أيضًا قواعد "القيام". ما تحاوله كلّ مقاومة هو أن "تستأنف"، أي أن تسترجع القدرة المفقودة على "البداية". لكنّ المقاوم الفلسطيني يواجه عدوًّا لا "يبدأ" لأنّه يزعم أنّه "كان هنا" دومًا: إنّه يستعمل هوية الفلسطيني لقتله. إنّ العدوّ قد صنع فلسطينيًّا جديدًا على مقاسه. ومن ثمّ فإنّ ما حدث تحت عنوان "طوفان الأقصى" هو حدث داخلي في هوية تلك الأرض: "طوفان" نوح في ساحات "الأقصى" المحمّدي. إنّ "المسجد الأقصى" هو اسم آخر لـ"بيت المقدس". هو الطرف الأبعد من أنفسنا القديمة. إنّ المقاومة هي استرجاع الاسم، اختراع "الآخرية" المناسبة، استعمال "الحدود البعيدة" من الانتماء، ومن ثمّ هي لا تحتاج إلى أن تكون "إرهابًا": مصطلح "الإرهاب" يكشف عن عجز بلاغي غربي مهين في فهم ما حدث في أفق غير أوروبي تمامًا. 

جوديت بتلر فيلسوفة يهودية تنقد "عنف الدولة الإسرائيلية" وتنقد "الاستعباد الكولونيالي للسكّان" وتنقد "الاحتلال الإسرائيلي"... وذلك باسم "القيم اليهودية" (Getty) 


(*) ما الذي يمكن أن تقدّمه "الفلسفة" إلى القضية الفلسطينية بوصفها قضية إنسانية عادلة؟ هل تملك تفسيرًا لما يحصل؟ مشروع حلّ ربما؟

لا يمكن الحديث عن "الفلسفة" هكذا وكأنّها ظاهرة طبيعية؛ بل الفلسفة مفهوم يحمل توقيعًا خاصًّا في كل مرة. ويمكن أن نيسّر الأمر بعض الشيء، إذْ نقول علينا أن نميّز بين فلاسفة "التعاطف" و"التضامن" مع "اللاجئين" الفلسطينيين، مثل سارتر أو دولوز أو دريدا أو جوديت بتلر، والفلاسفة الذين يتجاهلون معاناة الشعب الفلسطيني وقضيّته، و"يؤيّدون" إسرائيل، مثل ليفناس أو أدورنو أو فوكو أو هابرماس. هذا التمييز مفيد لأنّه يوضّح بشكل مثير وجه الفرق بين "الإنسان" و"اليهودي": إنّ الفلسطيني "إنسان" يتعرّض للاحتلال والقتل والسجن والنفي والمصادرة؛ وبهذا المعنى هو يستحقّ التعاطف والتضامن؛ ولكن ليس لأنّه "فلسطيني"، بل فقط لأنّه إنسان. أمّا "اليهودي" الذي نجا من المحرقة وتعرّض إلى الإبادة فهو يستحقّ "وطنًا قوميًّا" خاصًّا بالشعب اليهودي حتى نمنع عنه التعرّض إلى الإبادة العرقية مجدّدًا؛ ولكن ليس لأنّه "إنسان" بعامة، بل بالتحديد من أجل أنّه "يهودي".  

"فلسفيّا" لا يجدر بنا أن ننخرط في محاكمات العار ضدّ الفلاسفة، والتي يمكن أن تشبع بعض أشكال الضغينة المثقّفة أو الحاجات الهووية المتنكّرة وراء المفاهيم، لكنّها قطعًا لن تساعدنا على التفكير. أجل، إنّ ما قاله دعاة "النظرية النقدية" اليهود عن إسرائيل، مثل أدورنو وهوركهايمر وماركوزا وحنه أرندت، أو ما قاله كتّاب من المسيحيين مثل سارتر وفوكو وهابرماس، قد يبدو لنا فضيحة فلسفيّة. لكنّ الفضيحة ليست مقامًا مناسبًا للتفكير.

ولذلك أولى بنا وأحرى أن نرصد مواقف "إثباتية" أدلى بها فلاسفة غربيّون، أكانوا يهودًا مثل جوديت بتلر أو مسيحيين مثل جيل دولوز. مواقف تفكّر، وليس ضغينة تدخل في السيرة الذاتية للناجين من المحرقة، مثل ليفناس، أو الخائفين من تهمة معاداة السامية، مثل هابرماس.

تقول جوديت بتلر، الفيلسوفة اليهودية الأميركية:

"إذا ما نجحت في أن أبيّن أنّ هناك موارد يهودية تمكّن من نقد عنف الدولة، والاستعباد الكولونيالي (colonial) للسكّان، والتهجير ونزع الملكيّة، عندئذ أكون قد أفلحت في أن أبيّن أنّ نقدًا يهوديًّا لعنف الدولة الإسرائيلية، هو على الأقلّ ممكن، إن لم يكن من وجهة نظر أخلاقية واجبًا (ethically obligatory). إذا ما بيّنت، فضلًا عن ذلك، أنّ هناك قيمًا يهوديّة للتعايش مع غير اليهودي كانت جزءًا من الجوهر الأخلاقي نفسه ليهوديّة (Jewishness) الشتات، فإنّه سوف يكون ممكنًا أن نستنتج أنّ الالتزامات بالمساواة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية قد كانت جزءًا لا يتجزّأ من التقاليد اليهودية العلمانية والاشتراكية والدينية. ورغم أنّ هذا لا ينبغي أن يكون مفاجئًا، فقد صار لزامًا على المرء تكرار هذه الحجّة عبر وضدّ خطاب عمومي يفترض أنّ أيّ نقد للاحتلال الإسرائيلي، للفوارق الداخلية في إسرائيل، لمصادرة الأراضي، وللقصف العنيف للسكّان المحاصرين، من قبيل ما رأيناه في عمليّة الرصاص المصبوب، وفي الواقع أنّ أيّ اعتراضات على متطلّبات المواطنة في هذا البلد، هو معاد للسامية أو معاد لليهود، وليس في خدمة الشعب اليهودي، أو لا يتماشى بأيّ وجه مع ما يمكننا عمومًا أن نسمّيه قيمًا يهوديّة. وبعبارة أخرى، سوف يكون ضربًا من التهكّم المؤلم في الواقع إذا كان النضال اليهودي من أجل العدالة الاجتماعية هو نفسه يُقدَّم على أنّه معاد لليهود".

لقد أوردنا هذا القول الواضح والمفصّل لفيلسوفة يهودية تنقد "عنف الدولة الإسرائيلية" وتنقد "الاستعباد الكولونيالي للسكّان" وتنقد "الاحتلال الإسرائيلي"... وذلك باسم "القيم اليهودية" التي عرفها اليهود الأوروبيون أنفسهم، باسم ما تسمّيه "يهوديّة الشتات"؛ وذلك كي ننبّه إلى أنّ "نقد" إسرائيل ليس اختصاصًا عربيًّا، بل هو مشكل "فلسفي": يدخل في باب "نقد عنف الدولة"، في نطاق تقليد رسمه ولتر بنيامين في نصّه "نقد العنف"، وذلك باسم "قيم أخلاقية" يمكن تقاسمها مع أيّ كان. وتعتقد بتلر أنّ هذا الإنقاذ الأخلاقي لليهودي ممكن بل وإلزامي لأنّ اليهودي يملك "الموارد" و"القيم" اللازمة لهذه المهمّة. ومن ثمّ هي تقيم فصلًا حادًّا بين الدولة الصهيونية وبين الصفة "اليهودية"( Jewishness) التي هي صفة أخلاقية ليهود "الشتات"، ولا علاقة لها بعنف الدولة الإسرائيلية، الذي يبقى بالنسبة إليها عنفًا "كولونياليًّا". ولا يمكن تبريره بالرجوع إلى قيم يهودية.

وما قالته بتلر ضدّ الصهيونية يضع كل تردّدات الفلاسفة أكانوا يهودًا أم مسيحيين تحت ضوء جديد: كلّهم كانوا يخاتلون "معاداة السامية" ويتعاملون مع "المسألة اليهودية" بقفّازات "الانتهازية " الأخلاقية. إنّ قصة اليهودي الناجي من المحرقة قد وضعت سدًّا حاجبًا على جرائم الدولة الإسرائيلية ضد السكّان الأصليين في فلسطين. ولذلك كلّ ما قيل تحت توقيع "فلاسفة" عن الدولة الصهيونية إنّما كان يتحدّث عن "اليهودي الناجي من المحرقة" وليس عن "الإسرائيلي" المحتّل أو عن الفلسطيني المهجَّر. الصهيونية هي بذلك حجاب سردي يحمي عنف الدولة الإسرائيلية بغطاء قصة اليهودي الناجي من المحرقة. لم يكن الفيلسوف الأوروبي طيلة القرن العشرين، أكان يمينيًّا أم يساريًّا، يستفيد من أيّ مسافة نقدية بين القصّتين: قصة اليهودي الناجي من المحرقة وقصة الفلسطيني المهجَّر.


ولكن، علينا أن نعود إلى نكتة الإشكال: ماذا تستطيع "الفلسفة" أن تفعل لفلسطين؟

ليست الفلسفة جوابًا جاهزًا على أيّ شيء: إنّها إمكانية تفكير حرّة، ومن ثمّ فإنّ تعريف الفلسفة يأتي دومًا بعد الأوان: كلّ تحدّ يصنع معنى جديدًا للفلسفة. وعليه، فإنّ الفلسفة "التقليدية"- أي تاريخ الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى هيغل- لا تستطيع أن تفعل شيئًا للقضية الفلسطينية: "إسرائيل" هي صنيعة فلسفيّة أوروبيّة- استولى اليهودي التائه الخارج من الغيتو على مقولة "الآخر"، وحوّلها إلى امتياز أخلاقي داخل هويّة الأنا الأوروبي، حتى أقنعه بضرورة اختراع "وطن قومي" سردي ثمّ كولونيالي له. أمّا الفلسطيني فهو لا يستطيع أن يؤدّي دور "الآخر" في سردية الأوروبي: لذلك هو بالتحديد "غير موجود" وذلك بشكل قانوني، وبالتالي فإنّ الفلسفة الأوروبية – فلسفة القانون الدولي- لا تستطيع أن تقدّم له شيئًا سوى "لاوجوده" السردي والقانوني. ومن ثمّ لاوجوده الأخلاقي.

وإذا ما أراد المتفلسفة "عندنا" أو في "أيّ مكان" من "العالم الحالي" (أي العالم الكولونيالي، عالم الشمال الذي لا يرى جنوبه) أن يساعدوا "الفلسطينيين" (كتسمية لا تظهر في خطاب الغربيين، ومنهم هابرماس، إلاّ في شكل إشارة إلى "سكّان" بعامة وليس إلى هويّة قومية)، فإنّ عليهم أن يخترعوا معنى جديدًا للتفلسف: معنى "غير غربي" بشكل متعمّد، حيث تبطل اللعبة اللغوية الرسمية، أي لعبة "الأنا والآخر"، حيث لا مكان لنا فيها، ويتمّ تأسيس "تفكير بلا آخر" لأنّه لا يريد أن يعيد سردية "الأنا الأوروبي" حول "نفسه" الباهتة إلى حدّ الآن. "نحن"، غير المنضوين تحت لافتة الغرب، نملك "موارد" خاصة بنا علينا أن نفكّر بها حتى نفهم الحدث الذي نمثله على ركح العالم الراهن- "نحن" حدث لا نملك بعدُ "مفهومًا" خاصًّا عنه.

علينا أن نُشفى من وعود "الإنقاذ الأخلاقي"- هذا يعني للتوّ أن نكفّ عن محاسبة الفلاسفة الغربيين وكأنّهم يروننا أو يفكّرون من أجلنا أو في أفق واحد معنا. إنّهم لا يخاطبوننا أصلًا؛ لأنّنا ليس لنا أيّ دور "ذاتي" أو "بيذاتي" في هويتهم. علينا أن نفكّر في دور غير غربي حيث لا يكتفي الفيلسوف بتسجيل "موقف" أخلاقي كما فعل هابرماس: الموقف عنده هو "نداء" مسيحي مترجم في معجم علماني يقع في أفق "النقد" الأخلاقي منذ كانط. وربّما ما يجدر بنا أصلًا هو إغلاق "عصر النقد" لأنّه "عصر كانطي" أي عصر أخلاقي أوروبي مسيحي- معلمن، حيث يقف الغرب لمحاسبة الإنسانيات "غير الأوروبية" بواسطة تكنولوجيا "حقوق الإنسان" الأوروبي الذي نجح في تحويلها إلى "شكل كولونيالي" للسكن على الأرض.

في أيّ وجهة علينا أن نفكّر؟ تلك مسألة تنتظر جوابًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.