}

ليلى البياتي: "من عبدول إلى ليلى" بحثٌ عن انتماء

حوارات ليلى البياتي: "من عبدول إلى ليلى" بحثٌ عن انتماء
أصدرت ليلى البياتي فيلمها القصير الأول "شوهد" عام 2009
فرنسية من أصول عراقية، كما تعرّف عن نفسها. ليلى البياتي تثير المشاعر بفيلمها، وحين حديثها عنه وهي تحكي بصدق وعفوية رحلة شائكة، وإن بدت نهايتها سعيدة، لشابة تبحث عن أصولها. رحلةٌ شابها تيهٌ ووجع وفقدان ذاكرة. تمسّ على وجه الخصوص هؤلاء الذين بين أرضين وانتماءين وثقافتين. لكن ليس فقط هي بحث عن وجود وذات أو هوية للإنسان أينما كان ولو في وطنه وبين أهله.
تلجأ ليلى البياتي في فيلمها الوثائقي "من عبدول إلى ليلى" إلى سردٍ غنيّ بمضمونه وأسلوبه الفني يمزج بين غناء وحوار ورسومات وصور وفيديو من أرشيف العائلة. تروي اكتشاف هويتها، تغني أو تلقي بصوتها الدافئ الطفولي سيرة متعبة. تحكي إصرارها على التوجّه إلى بغداد وهي في الثامنة عشرة من عمرها، تحركها رغبة قوية في العودة إلى الجذور، هي التي لم تكن تتحدث العربية، هي التي ولدت في فرنسا، وكان كلّ ما سمعته من أبيها عن العراق أخبار حرب وحصار. حميمية العائلة هناك خففت من وقع صدمة اكتشاف بلد في حالة مرعبة. لم تنته مشاكلها بعد العودة. حادث وفقدان ذاكرة وتيه بين لغات العالم وبلدانه، ليطفو من العمق انتماء وعلاقة جديدة مع عائلتها في فرنسا، أبيها خاصة. كان الشعر والغناء دربًا قرّب بين ابنة وأبّ كان رحل عن بلده العراق مُكرهًا في ما مضى. كلماته بالعربية شجعت ليلى على دراستها والغناء بها... أنا حرة أنا جمرة... تقول.
"من عبدول إلى ليلى" (عبدول تستخدم في الفرنسية اختصارًا لكل الأسماء التي تبدأ بعبد وتليها أسماء الله الحسنى)، عرض في مسابقة الأفلام الوثائقية في مهرجان الجونة الأخير (14 ـ 21 ديسمبر/ كانون الأول 2023). ونال جائزة نيتباك (هيئة الترويج للسينما الآسيوية) كأفضل فيلم آسيوي. وفي الجونة، كان هذا الحوار مع ليلى، بحضور منتج الفيلم ميشيل بالاغو.

(*) ليلى، من أنتِ؟ كيف تقدمين نفسك لجمهور عربي لم يرَ بعد فيلمك، ولم يشهد كلماتك المؤثرة والمتأثرة في ردودك على أسئلة جمهور متحمس في الجونة؟
أنا فرنسية (الأمّ) من أصول عراقية. والدي عبد الإله البياتي، عراقي من مؤسسي حزب البعث في العراق. اضطر إلى الرحيل عن العراق قبل وصول صدام حسين إلى الحكم، بسبب خلافات حزبية، واستقر في فرنسا. كان يحدثني عن بغداد كأنها حلم. أثناء حرب الخليج، شغلتني أسئلة كثيرة حول جذوري وأصولي. كنت مصرة وأنا في الثامنة عشرة على الذهاب وحدي إلى العراق. بعد عودتي إلى فرنسا، صدمتني سيارة، وأصبت بفقدان الذاكرة.




قررت التغرب في بلدان عدة، وتركت فرنسا، ولجأت إلى الموسيقى. خلال فترة ما بعد الحادثة المضطربة، لم أكن أشير إلى جزئي العربي، وكانت الموسيقى وسيلتي للعودة إلى جذوري. الآن صنعت فيلمًا للمصالحة مع ثقافتي المزدوجة، ومع عائلتي، ورويت فيه قصتي عبر الموسيقى.

(*) في الفيلم، نراك تسجلين الأغاني، وتسردين بعضًا من قصتك بالغناء، هل ترين نفسك مغنيّة، أم سينمائية؟
ما أنقذني حين فقدت الذاكرة مشاهدة أفلام من كل العالم يوميًّا. بنيت نفسي عبر السينما. يمكن القول إني عصامية اجتهدت لتحقيق ما حققت في الموسيقى والسينما. طُلب مني بالصدفة عمل موسيقى لفيلم، ثم حققت بعدها فيلمي القصير الأول "شوهد" (2009)، الذي أخرجته ومثّلت فيه وألفت موسيقاه التصويرية. نال الفيلم تنويهًا في مهرجان برلين. كذلك فاز أول أفلامي الروائية "برلين تيليغرام" عام 2012، والذي مثّلت فيه أيضًا، وألّفت موسيقاه، بجوائز عدة، منها جائزة تلفزيون "تي في 5" كأفضل فيلم فرانكوفوني في مهرجان جنيف. عرض الفيلم في 30 مهرجانًا، منها مهرجان دبي. هناك التقيت بمخرج جزائري عرض علي مساعدة مؤسسة الدوحة للأفلام لإنتاج فيلمي التالي، وقد فتح لي دعم المؤسسة الطريق.

(*) هل كان العرض لكونك عربية؟
حينها لم أكن أتحدث العربية، ولم أكن أشير إلى ذلك أبدًا، بل قلت لخليل (المسؤول) أني لست عربية، ولا شيء عربيًا في شخصيتي. كنت في مرحلة إنكار الهوية بالكامل، ومن هنا بدأ الجرح ينفتح.  ثم تكرّس الأمر بعد اعتداءت باريس 2015، حيث بات الإنكار شديد الصعوبة عليّ.

(*) لمَ هذا الإنكار، الذي أبرزته في الفيلم، لانتمائك العربي؟
كان حادث السيارة أحد الأسباب. من جهة أخرى، أنا بيضاء البشرة، وعيناي زرقاوان، ووالدي من جيل مؤمن بحرية المرأة ودورها. رباني على ذلك. لم أكن أعرف عربًا في شبابي، حيث كنا نقيم في بلدة صغيرة في فرنسا. وحين كنت أصادف عرب فرنسا غالبًا ما كنتُ أُهان لنوعية ملابسي الفرنسية، وقولي إني أعد نفسي فرنسية. وهنالك أمر آخر، كان مجرد ذكر العراق يثير فورًا اسم صدام. كان الناس يحبونه، كونه قُتل بطريقة وحشية من الأميركيين، في حين كان يعود إلى العراقيين تقرير مصيره، وهذا لا يمنع النظر إليه كحاكم ديكتاتوري. زرت العراق في فترة الحصار، وشهدت ما عاناه. هذه العوامل، وغيرها، ساهمت في تكوين شعوري بالانتماء أثناءها. لكنني لم أكن أعتبر تلك ثقافتي، لم أكن أعرف كلمة عربية واحدة، ولا أعرف شيئًا حتى عن الموسيقى العربية. كنت ابتعدت عن والدي سنوات عدة. كانت لوالدي مكانة كبيرة في العائلة، وكان عليه أن يقبل كوني موسيقية وامرأة مستقلة، وأن يقبل بي كما أنا، وهذا أخذ وقتًا.

(*) لكنك في الفيلم تقولين إن والدك، كعربي، غالبًا ما ضايقك أيام المراهقة، وكان يحاول منعك من السهر مثلًا، وهو ما تعاني منه أيضًا عائلات عربية في الغرب؟
كان أبي يخشى تأثير الثقافة الفرنسية علينا، وقد ضايقني بالفعل كثيرًا في مراهقتي، وكان ينتظرني عند الخروج من المدرسة. إنه كأي إنسان يجمع بين متناقضات عديدة، وهي لديّ أيضًا، فأنا ابنته. ففي الوقت نفسه الذي كان يؤمن فيه بالحرية، كان يسعى لمنعي من مجاراة رفاقي الفرنسيين. كان لهذا تأثيره السلبي عليّ، وبتُّ أتصرف أسوأ منهم! بل ذهبت أبعد منهم.



(*) استعدتِ صور رحلتك إلى بغداد في الفيلم. كيف وافق والداك على ذهابك في هذه المخاطرة؟
كان على والدي أن يقبل بكل بساطة! لقد هددتُ بالانتحار، فما كان منه إلا أن اصطحبني بنفسه إلى المطار. كان قد روى لي كل صدمات الحرب، ولكني كنت مصممة على الذهاب. بعد عودتي، لم أتحدث عما رأيت هناك. فقط كتبت رسالة إلى أمي بعد وقت. لكني، وعلى خلاف أصدقائي الفرنسيين الذين كانت تربطهم بأهلهم علاقة فيها شيء من تباعد، كانت تربطني بأهلي، وبأبي خاصة، علاقة قوية يملأها الشغف، وكانت له مكانة كبيرة في حياتي. مررت بصدمات عدة حاولت التعبير عنها من خلال الفن. لم أصب فقط جسديًّا، بل معنويًا كذلك، بسبب الحادث.

(*) أشرتِ والمنتج إلى مشاق توليف الفيلم. ما هي هذه المصاعب، وأين تركزت؟
أثناء التوليف كنت أشعر بالاختناق، فلم أكن أريد للفيلم أن يبدو كحديث فتاة نرجسية تدور حول ذاتها وشؤونها، بل فيلم له أسلوبه الفني الخاص، مبهج ويعبر عن فتاة تحب التواصل. أخذ هذا وقتًا كنت خلاله أقرر الابتعاد أحيانًا وأمر بفترات من الشك. كان عليّ أن أجد حلًا للتخلص من إحساسي هذا، فلم أحتمل فكرة الحديث عن نفسي والسرد بصوتي.




وجدت في الغناء طوق نجاة، وبدأت أحب فيلمي. كان الأمر كذلك بالنسبة للمنتج صعبًا وطويلًا. حين بدأت فيلمي لم يكن ميشيل صديقي منذ الطفولة ومنتج أفلامي، يعرف الأذى الذي لحق بي، ثم بعد العمل فيه أدرك تمامًا ما أريد قوله من خلال الفيلم.

(*) هل تشعرين بعد عمل الفيلم وعرضه لأول مرة عالميًا في مهرجان الجونة، بأنك تحررت من الماضي الثقيل؟
في أول عرض للفيلم، لم أكن أعرف كيف سيتلقاه جمهور عربي. كنت شديدة الانفعال، وأتساءل عن رد فعل المشاهدين. وكم كنت مبتهجة حين لمست إحساسهم بما رأوا، وتفاعلهم معه، لا سيما من خلال الأسئلة. الفيلم هو طفلي، وأنا شغوفة به، كان العمل عليه معقدًا. طبعًا، أحسّ بالراحة الآن، كما بالسعادة، كوني أحمل هويتي المزدوجة: فرنسية نصف عراقية تتعلم العربية. كان العمل صعبًا، وكنت مؤرقة، وأبحث عن شكل للفيلم خلال التوليف كي لا يبدو وكأنه عمل يتحدث عن "الأنا" المتضخمة، مع أني أحكي عن نفسي. عانيت كثيرًا من هذه المسألة بالذات، ولذلك وجدت في عرضه علاجًا لي بعض الشيء، ولم أعد أحتفظ به لنفسي. لقد حفرت بكل عمق وقسوة ما عشته، وأثرتُ فيه قضية أناس يتمزقون بين هويتين. كنت أدرك أن الفيلم يتحدث إلى أناس مثلي.
[أضاف المنتج: كانت هنالك مراحل عدة للتحرر والبحث عن شكل خلال التوليف. العمل على الذاتي الذي ينطلق نحو الآخر. كانت الصعوبة هنا في البحث عن شكل الفيلم. وحين توصلنا إليه كان ذلك تحريرًا بالفعل].

(*) كيف كان اكتشافك للعراق، البلد والناس والعائلة؟ في الفيلم بعض إشارات فقط.
كانت العائلة هناك خائفة جدًا علي، لكنها سعيدة لاستقبالي، بل سعيدة جدًا أكثر مما تبديه عائلتي الفرنسية. ورغم الظروف والفقر، فعلوا كل ما في وسعهم لإرضائي. ثم تعقّد الوضع. لقد تأثروا عند سفري (تدمع عيناها). بقيت في بغداد كل الوقت. كان ما عشته هناك، وسرد المأساة العراقية لأصدقائي الفرنسيين، يبين لي أنهم لا يدركون تمامًا ما فعله الأميركيون في العراق، وأنهم دمروا الشرق الأوسط. لم أكن في السابق أتحدث عن أصولي، لكني أدركتُ أن رحلتي، وكل ما جرى لي، سيقود إلى شيء ما.

(*) مع أن اسمك وكنيتك عربيان... ألا يثير هذا أسئلة الناس؟
لا، وخاصة أن طريقة لباسي لم تكن أبدًا عربية. الآن، يقول لي أصدقائي اللبنانيون بأني عربيّة أكثر من كوني فرنسية، بسبب رغبتي في استخدام كلمات عربية. أنا الاثنتان معًا. بعد الحادث، لم تقتصر مشكلتي على هويتي العربية، بل كانت مع فرنسا أيضًا. لذلك تركتها وعشت في برلين مبتعدة عن اللغة الفرنسية كذلك، وكنت أتحدث لغات عدة. أنا الآن سعيدة ومستقرة أكثر. ولا أبحث عن نفسي كما فعلت في الفيلم.

(*) يبدو من الفيلم، ومن حديثك مع الجمهور الذي تفاعل مع قصتك وكأن الانتماء إلى ثقافتين يسبب معاناة؟
إنه أكثر تعقيدًا! الأمر أبسط مع هوية واحدة. لكن هذا جعلني مهتمة أكثر بالحياة، وفضولية أكثر للتعرف إلى أناس لديهم هذا الغنى والانتماء المزودج. اليوم أنا أكثر هدوءًا، إذ أجد في هويتي غنى لشخصيتي، فلو كنت أنتمي إلى ثقافة واحدة قد لا أكون فنانة موسيقية ومخرجة.

(*) والآن، هل ستستمرين في التأليف والغناء والتمثيل والإخراج والرسم  معًا؟
أودّ أن أقوم بدور جاسوسة تتحدث العربية (مبتسمة) في فيلم مغامرات. إنما ليس في فيلمي، بل في أفلام أخرى. لم أعد أريد التمثيل في أفلامي، ولا توليفها، فهذا مرهق حقًا. أحبّ الموسيقى، ولدي أسلوبي، وأرغب في اصدار ألبوم موسيقي، كما أن لدي نصين لإخراجهما، واحد منهما هو قصتي تقريبًا، عن شابة تدرك هويتها بعد موت أبيها، وتذهب إلى العالم العربي، وتقع في حب مراسل عراقي. لكن ليس لدي منتج حاليًّا. نفضّل أنا وميشيل أن نعود أصدقاء فقط في المرحلة التالية، وألا نعمل معًا بعد اليوم. بتُّ أثق بنفسي، وكنت حين التقيته أشعر بضياع، ولا أعرف عن ماذا أتحدث. لقد كتبت كثيرًا من الموسيقى العربية (من كلمات والدها) خلال عملي على هذا الفيلم. أنا أشتغل يوميًّا، ولا آخذ عطلة أبدًا، وأعمل على مشاريع عدة في الوقت نفسه.

(*) واليوم، لو أتيح لك الخيار، هل تفضلين العيش في فرنسا، أم في بلد عربي؟
أعيش في بلجيكا، وغالبًا ما أزور فرنسا. وما إن أحلّ في بلد عربي حتى ألمس سعادة الآخرين في لقاءاتنا. أعشق هذا، ولكن لا أستطيع البقاء أكثر من شهر، فهي ليست الحياة الحقيقية، إنها عطلة، ومرحلة مؤقتة. أما في برلين، فصباح الخير أيتها الوحدة! وكنت أنجذب دائمًا إلى أناس من انتمائين. أنا سعيدة مع ثقافتي الفرنسية، وفي الوقت نفسه، إذا استطعت، أفضّل العيش في بلد عربي. لكن هذا صعب.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.