}

بوجمعة العوفي: الفضاء الرقمي يشتغل بحرية سائبة

أوس يعقوب 29 يناير 2020
حوارات بوجمعة العوفي: الفضاء الرقمي يشتغل بحرية سائبة
"التجربة المغربية جزء لا يتجزأ من التجربة العربية الكبرى"
يعدُّ الشاعر والناقد الفني المغربي، بوجمعة العوفي، أحد أبرز مجايليه في الساحة الأدبية والفنية المغربية. هو أستاذ جامعي حاصل على شهادة دكتوراة في الأدب العربي (الشعر والجماليات)، وعـضو "اتحاد كتاب المغرب"، وعضو "بيت الشعر في المغرب".

حاز على جوائز أدبية عدة، مغربية وعربية، أهمها: جائزة "الشارقة للإبداع العربي في الشعر" (2001)، وجائزة "المبدعون" في النقد التشكيلي لـ "دار الصدى" دبي (2002).
صدرت له مجموعة من الكتب في الشعر والنقد الفني، ونشر عدداً من الدراسات والقصائد والمقالات داخل المغرب وخارجه. كما تُرجمتْ بعض قصائده إلى الإنكليزية والفرنسية والهولندية والبرتغالية، ونشرت في بعض الأنطولوجيات العالمية للشعر. وتم إدراج بعض قصائده المصممة بواسطة الأنفوغرافيا (على شكل ملصقات شعرية ــ تشكيلية) ضمن المعروضات الدائمة للمتحف العالمي "Shoesor no shoes" في بلجيكا.
في هذا الحوار، نتعرف إلى أبرز ما جاء به في كتابه الصادر مؤخراً "القصيدة العربية المعاصرة: من التشكيل إلى الرقمية"، كما نحاول الكشف عن تفاصيل مشروعه الإبداعي بين الشعر والقراءات البصرية الجمالية في زمن الثورة الرقمية، ومغامرته في مقاربة موضوع "الخطاب البصري في الشعر العربي المعاصر".
هنا نص الحوار:

(*) كيف تقدم كتابك "القصيدة العربية المعاصرة: من التشكيل إلى الرقمية" الصادر عن دار "روافد" في القاهرة، لقراء "ضفة ثالثة"، وما الجديد الذي جئت به من أطروحات لم يسبقك إليها أحد؟

ـ يحاول الكتاب دراسة الخصائص البصرية والتشكيلية للقصيدة العربية المعاصرة، انطلاقاً من تشكيلاتها الخطية، وهيئتها البصرية، التي تتخذها على الصفحة (الحامل الورقي)، وصولاً إلى تجلياتها الترابطية والتفاعلية على الحامل الرقمي، بكل ما لهذه القصيدة من خصائص تعبيرية وجمالية. إذ لم تعد هذه الخصائص أو العناصر البصرية والتشكيلية الجديدة بالنسبة للقصيدة المعاصرة خافية على عين قارئ ومتصفح هذه القصيدة، ولم تعد استعمالاتها مجرد نزوة، أو ترف جمالي عابر، بل أصبحت واقعاً جمالياً جديداً في الكتابة والتداول الشعري المعاصر إبداعاً وقراءة.
أما في بخصوص سؤالك "هل أتى هذا الكتاب بأطروحة لم يسبق إليها أحد؟"، فالمسألة هنا نسبية، وتتعلق بدراسة تجمع بين النقد الأدبي والنقد الجمالي في مقاربة موضوع "الخطاب البصري في الشعر العربي المعاصر"، وهو موضوع جديد وقليل التداول والدراسة بالنسبة للبحث العلمي الجامعي العربي، وللخطاب النقدي العربي كذلك.
من هنا، يمكن اعتبار توجهنا لدراسة هذا الموضوع بمثابة مغامرة، على اعتبار أنّ الدراسات والبحوث العربية المنجزة في هذا المجال، سواء داخل الجامعة، أو خارجها، قليلة جداً، وتكاد تكون معدودة على رؤوس الأصابع.

(*) الكتاب، كما تذكر، هو جزء ثالث من دراسة طويلة ترنو إلى فحص ومساءلة ملامح وتجليات "الخطاب البصري في الشعر العربي المعاصر"، انطلاقاً من "التعبير الخطي" إلى "القيمة التشكيلية "لهاته القصيدة. هل لك أن تضيء على هذه الفكرة؟

ـ فعلاً، يأتي هذا الكتاب كجزء ثالث من دراسة موسعة ترنو إلى فحص ومساءلة ملامح وتجليات "الخطاب البصري في الشعر العربي المعاصر"، انطلاقاً من "التعبير الخطي" إلى "القيمة التشكيلية" لهاته القصيدة.

وهو يركز، بشكل أساس، على تجليات الكتابة والفضاء في بعض التجارب الشعرية العربية المعاصرة، انطلاقاً من الأبعاد التشكيلية لهذه القصيدة إلى تجلياتها الرقمية. وقد مهدنا لذلك بتناول بعض الجوانب والقضايا، والمعطيات، والمفاهيم الخاصة ببصرية ورقمية هذه القصيدة، مثل مسائل التواصل والكتابة والإبداع في عالَم متغير، هو العالَم الذي أصبحت تطبعه وتهيمن عليه "الوسائطية"، و"الرقمنة"، و"الترابطية" أو "التشعبية النصية Hyper textualité"، و"التفاعلية interactivité"، والعديد من تقنيات ومظاهر العصر الرقمي الجديد. محاولين عرض وتحليل بعض النماذج الأساسية من الأعمال الشعرية الرقمية والتفاعلية العربية، والمغربية على الخصوص. على اعتبار أنّ التجربة المغربية هي جزء لا يتجزأ من التجربة العربية الكبرى، إضافة إلى نماذج عدة ومختلفة من "بطائق شعرية رقمية" كنا قد أنجزناها خصيصاً بواسطة برامج معلوماتية وحاسوبية، كمحاولة منا لتحقيق جزء من مشروع "رقمنة" القصيدة المغربية والعربية، وتعميق حضور البصري في خطاب ولغة هذه القصيدة بشكل أساس.

كتابي يأتي كجزء من مشروع "رقمنة" القصيدة المغربية والعربية، وتعميق حضور البصري في خطاب ولغة هذه القصيدة بشكل أساس


















بين النقد والإبداع الشعري الراهن
(*) تقول في كتابك: "راهنت القصيدة البصرية المعاصرة والجديدة على الانتساب إلى عصر الصورة والكتابة، وجعلت من نفسها خطاباً للقراءة، بل للتأمل والمشاهدة في آخر المطاف". فسر لنا رؤيتك هذه.
ـ الحديث عن القصيدة البصرية في التجربة الشعرية العربية المعاصرة هو بالضرورة حديث عن رهان جمالي وبصري لهذه التجربة.

رهان يعمل على نقل القصيدة إلى آفاق أخرى تطبعها أساساً شعرية المكون البصري، أي بالمعنى الذي تكون من خلاله هذه القصيدة قادرة على مجاوزة كتابة السماع والإنشاد نحو كتابة البصر وشعرية العين، حيث قامت بعض النماذج الشعرية المعاصرة العربية بمحاولات لتجاوز "مزايا"، شعرية السماع، نحو كتابة البصر، باعتبار المتلقي العربي نفسه قد غير كثيراً من نمط استقباله للشعر، ولم يعد مكتفياً بخَصِيصة السماع فقط. خصوصاً حين أعادت الوسائط الحديثة، وكثافة البصري وخصوبته، ترتيب خصائص التواصل والتلقي في المسموع والمرئي على حدٍّ سواء. وذلك وفق لغاتها، وخطاباتها الإيحائية، وانفجارها العلاماتي المذهل.

 

(*) يهدف النقد إلى إضاءة النصوص الإبداعية. كيف تنظر إلى العلاقة القائمة بين النقد والقصيدة في مشهدنا الشعري الراهن؟
ـ أصبحت العلاقة بين النقد والإبداع الشعري الراهن غير متكافئة بالفعل، لأنّ المتون الشعرية الجديدة فاجأت هذا النقد "التقليدي ــ اللغوي" بخاصية البصري والتشكيلي، بما يجعل القراءة النقدية نفسها لهذه المتون في مأزق.

فبأيّ أدوات يمكن الاقتراب من الجسد المتحرك والمخادع لهذه القصائد العابرة لدلالتها، ولفضاءات وأمكنة افتراضية؟ لم يعد في وسع اللغة المألوفة والعادية أن تدرك ما يتماوج ويهتز في أنسجتها الضوئية من شهب وعلامات. من هنا تتعاظم الرهانات والتحديات أمام هذا النقد وتتكاثر الأسئلة: فكيف يمكن القبض بواسطة اللغة فقط على ما لم تصنعه اللغة أصلاً في هذه القصائد الجديدة؟ ثمّ كيف يقوم اللغوي بتأويل البصري؟ ذلك أمر موكول، من دون شك، إلى قراءات أخرى، مغايرة وجديدة أيضاً، وآتية في الأفق: قراءات، أو مقاربات سيميولوجية وجمالية وتفاعلية للشعر، تتجاوز في شكلها ولغتها وأدواتها عنصر اللغة الوحيد، إلى أدوات وعناصر الصورة والتشكيل والرقم، والروابط، والنوافذ، والإحالات الرقمية، والمسالك الضوئية التي لا حدَّ لها.

 

(*) في رأيك، هل استطاع الناقد العربي أن يستوعب مفهوم الحداثة فعلاً، وينتهي من إشكالياتها؟
ـ أين يمكن حصر الأسئلة الحقيقية لإشكالية، أو قضايا، الحداثة، في التجربة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة؟ هل في تسمية هذه التجربة نفسها، من حيث متونها وإنجازاتها النصية التي ما زالت تثير العديد من النقاشات، سواء بين النقاد، أو بين الشعراء العرب أنفسهم، حول ما إذا كان من المقبول الاستمرار في تسمية هذه التجربة النصية "قصيدة"، بعد الكثير من التطورات والتغيرات الشكلية والتعبيرية والجمالية التي طرأت على جسم هذا المتن الشعري حين ولوجه مرحلة "الحداثة"، وانتقاله من "القصيدة ــ السماع" إلى "الكتابة – قصيدة العين"؟ هذه في نظري من أهم الأسئلة والإشكالات التي على النقد العربي فحصها برؤى وأدوات جديدة للوصول إلى مرحلة استيعاب معقول ومقبول لإشكالية الحداثة.

عزلة الشاعر عن سيَّافه..
(*) أريد الانتقال إلى عالمك الشعري. سؤالي: أين الشاعر بوجمعة العوفي، هل خطفتك الكتابة النقدية من الشعر؟
ـ طالما آمنت شخصياً بأنّ سلطة الشعر أوْكَدُ من سلطة الرصاص، في ليله الهادر كانت القصائد تُشعِل عنفوان القلب ورقع التراب، تنير وجع قارات بأكملها وتسرق النوم من جفون الجلادين، لكن الشعر اليوم أصبح ينأى عن الشعر، وعن عنفه، والشاعر أصبحَ أكثر عزلة عن سيَّافه. لذلك ابتعدتُ قليلاً عن كتابة الشعر.

إذ ليس لغير هذا المقصد ينبغي أن يقوم الشعر و"بيوت الشعر" في العالم العربي الذي لم يعد يعطي قيمة لهذا النوع من الإبداع. وربما ما تبقى من الشعراء في وطننا العربي يُدارون هذه السقطة بشيء من الكبرياء، ويستبدلون الصمت فيهم بصمت آخر، أقل مرارة فقط.
الشعر مثل باقي حلمنا الكبير والجميل، إما أن "يكون لنا أو لا يكون". لذلك يكون التوجه نحو جغرافية أخرى، بالنسبة لي، كالنقد الجمالي نوعاً من "استراحة المحارب"، ثمّ تنويعاً معرفياً وإبداعياً لا يقل أهمية عن كتابة الشعر.

(*) كيف تنظر إلى الشعر في عالم مضطرب مثل الذي نعيش فيه؟
ـ مع هذه الثورة الرقمية، تغيرت الكثير من الأشياء في حياة الأفراد والجماعات، إلى درجة أنّ العديد من الناس، الآن، استغنوا في مراسلاتهم وتواصلهم الكتابي مع الآخرين، عن الورقة، والقلم، والرسائل المنسوخة باليد، والبريد التقليدي، ليعوضوا ذلك بالمراسلات الإلكترونية. وتراجعت بذلك أيضاً، أو بدأت تختفي، تدريجياً على الأقل في العصر الرقمي الراهن، إمكانات نقل الأثر المادي الشخصي للمتراسلين. الأثر الذي كانت تنجزه الرسائل والكلمات المنسوخة باليد. انقطع الإنسان، بشكل لافت للنظر، إلى عزلته الرقمية الجديدة، ولمساحاته، ومَخادعِه الافتراضية السرية التي، بقدر ما وسعت وسهلت أشكال تواصله، عمقت كذلك من فردانيته وأشكال عزلته الشخصية.


أمام هذا العالم "السيبرنيطيقي" المتغير، وداخل مجالات كل هذه الوسائط، وكل هذه "الترسانة" المعقدة من الأجهزة الرقمية والإلكترونية، ذات الوظائف التواصلية السهلة والرفيعة، والمهام الإنجازية العديدة والسريعة، وعالية الجودة في الوقت نفسه، وجد الشاعر نفسه (كما الفرد العادي)، على حين غرة، ومن دون سابق إنذار، في مواجهة حضارية وثقافية مع هذه الأجهزة الإلكترونية، التي أخذت تقلب حياة البشر رأساً على عقب، وتعمل، بالتالي، على تغيير كثير من تصورات الإنسان ومفاهيمه، ونظرته إلى العالَم والحضارة والثقافة على حدٍّ سواء.

(*) لك صفحة في موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك). كيف تعيش مع الزمن الرقميّ، وإلى أيّ حدٍّ غيّرت الوسائطية من طقوسك في القراءة والكتابة؟
ـ الفضاء الأزرق، أو الرقمي، أصبح واجهة ومنصة ضرورية للتواصل الكوني، وترويج المنتوج الإبداعي والفكري. اختار أدباء وفنانون ومشتغلون في مجالات الفكر والإبداع والإنتاج الرمزي ولوجه من أجل هذه الأهداف، لكنه يشتغل بحرية مطلقة وسائبة، قد تكون عفوية وغير مسؤولة أحياناً، وبدون حسيب أو رقيب، ومليء بالرداءات والتفاهات كذلك. وهو فضاء يبتلع كثيراً من الوقت والجهد، ويغير كثيراً من طقوس الكتابة والقراءة لدى المبدعين والكُتّاب في الاتّجاه السلبي كذلك إن لم يُحسنوا استعماله والتواجد في داخله. 

(*) هل ثمّة عمل نقدي آتٍ بعد عملك الأخير "القصيدة العربية المعاصرة: من التشكيل إلى الرقمية"؟
ـ دراستي أو كتابي الثالث "الشعر والتشكيل: الوعي البصري الجديد في القصيدة العربية المعاصرة" سيصدر قريباً أيضاً، وفي حجم كبير، عن دار النشر "روافد" القاهرية. وهو يحاول مساءلة تجليات الفضاء في بعض التجارب الشعرية العربية المعاصرة في أبعادها وتمظهراتها البصرية والتشكيلية، وذاك ضمن محاور عدّة لهذه التجليات، منها: مساءلة "المقروء" و"المرئي" في الكتابة عموماً، وفي الشعر على وجه التحديد، أي الحديث عن "اللساني" و"البصري" في القصيدة، وعن تلك العلاقة التطورية والإشكالية التي نقلت الفكرة والملفوظ (الكلمة المنطوقة) من إطارهما واستعمالهما الشفوي إلى الكتابة والتجسيد (التصوير).

وهذا العمل محاولة للحديث عن شعرية جمالية وبصرية قرينة للقصيدة العربية المعاصرة، خصوصاً في بعض أشكالها التي راهنت منذ البداية على حضور الخطاب الجمالي والبصري في هذه القصيدة، قد لا يكتمل إلا بالحديث عن الوجه الآخر لهذا القرين المقترح، وعن شعريته كذلك. إنّه القرين الجمالي المتجسد في الفن التشكيلي بجميع أنواعه وتعبيراته، حيث يكون الخطاب البصري في القصيدة العربية المعاصرة حاضراً بقوة، وتكون العلاقة بين القصيدة والعمل التصويري، أو اللوحة الفنية على وجه التحديد، من أهم مكونات القصيدة، خصوصاً وأنّ كثيراً من المقولات والمفاهيم قد تغيرت بالنسبة للشعر نفسه، ومفهومه وأشكاله وصيغه الحديثة والجديدة، التي أصبحت تراهن، أو تتكئ، على رافعة البصري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.