}

الناقد العراقي حاتم الصكر: النخبوية هي قدر الشعر

أسامة غالي 27 أبريل 2018
حوارات الناقد العراقي حاتم الصكر: النخبوية هي قدر الشعر
حاتم الصكر، بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)

 

عُرف الناقد العراقي الدكتور حاتم الصكر في الأوساط الثقافية العراقية والعربية باشتغالاته الرصينة والمختلفة، رؤية ومعالجة، وبآرائه الموضوعية، وكتب الكثير من النقود التي ما زالت مصادر دراسة الباحثين والمثقفين، وواكب أجيالاً أدبية مختلفة في العراق وخارجه. هنا حوار معه.

 

* كيف يرى الدكتور الصكر المشهد الأدبي العراقي والعربي اليوم، وبماذا يتميز عن ما مضى؟.

عراقياً أستطيع القول إن الحيوية هي ميزة الثقافة العراقية في شتى الظروف. وهذه أولى الإنطباعات عن الوضع الثقافي رغم ما يشوبه من اختلاط وتناقضات. يلفت نظري كثيراً ظهور أصوات جديدة ، وصعود أجيال شعرية وسردية حديثة، وقوة الهوامش بإزاء مركزية العاصمة الثقافية .وهذا يحصل نادراً. ويوازيه تعايش الأجيال دون نسخ لبعضها.فقد تقبَّل الوسط الثقافي ومجتمع القراءة تلك الأصوات الجديدة ،وفسح لها الفضاء الثقافي بجانب الأصوات المكرَّسة والتجارب التي قدمتها أجيال سايقة.وتسهم في تقوية ذلك التعدد وتغذّيه الصحافة الثقافية، وحركة النشر التي شهدها العراق في السنوات الأخيرة.وما أتاح بالمقابل تعدد مصادر ثقافة الأدباء، بما دخل في تكوينهم عن طريق النوافذ المشرعة التي لم يكن لها وجود.وأعتقد أن تبدل المرجعيات أمر ملموس في  الشعر والسرد والنقد ،ما ينعكس في رؤية الأدباء ,وأساليبهم الكتابية.

على الصعيد الفني جرى امتصاص للحالة العراقية، وأعني ما تخلل فترة مابعد سقوط النظام والإحتلال من مشهد دموي وعنف وتراجعات في بنية الدولة والمجتمع. ظهرت أصوات جديدة استوعبت تلك الحالة ، وتمثلتها ؛فبرزت قصيدة حرب جديدة ليست كسابقاتها التي كتبها شعراء الثمانينات ومَن تلاهم. بل هي قصيدة ذات أبعاد إنسانية في المقام الأول ، وتتميز بالصورة الحركية كما أحب وصفها ، أي المتجاوزة لبلاغة الصورة التقليدية وثباتها لغويا وخيالياً،وكذلك تنويع أساليب كتابتها قِصراً وكثافة . وهذه إحدى ميزات المشهد الشعري التي ( ينماز بها عما مضى) بتعبير السؤال. ويمكن معاينته في السرد أيضاً ،حيث تكرست تجارب روائيين جدد، وجرى تناول الحالة العراقية بأساليب وإجراءات سردية مبتكرة ،يسهم الخيال الفانتازي في تكوينها الأساسي..ولعل السرد المعاصر والأصوات الجديدة في المشهد العراقي خاصة تلبي ما تتطلبه اللحظة العراقية ، ويجدر بنا التنبيه على حالات مميزة كصعود ما أسميته بسرد الأقليات ؛أي الكتابة عما تعانيه الأقليات الدينية في العراق من عسف بسبب صعود التيار الراديكالي المتشدد ، والمتمثل عملياً بالعصابات التكفيرية وطموحاتها المدمّرة لإنشاء دولة خلافة تلغي الأعراق والأديان والمذاهب المختلفة.وكذلك تجسيد صور العنف اليومي والقتل المجاني، والموت الذي صار من تقويم اليوم العراقي للأسف.

 واحترازاً أقول إنني غير مؤهل بما يكفي للحكم على المشهدين العراقي والعربي ، رغم متابعتي الدقيقة والمتحمسة لأدب بلادي في الفترة الأخيرة وقربي منه ثقافياً، فالمغترَب القصيّ الذي أعيش فيه يعيق تواصلي المباشر والدائم .وتظل صلتي منقطعة ومتقطعة ،مكتفياً بالتواصل عبر النت، وقراءة ما يصلني بالبريد من الأصدقاء ،أو ما أجده في المواقع الإلكترونية من كتب ومطبوعات وصحف.ربما ذلك سيفاجئ الأصدقاء المتابعين لما أنشرخلال السنوات الأخيرة  - وجلّه متابعات لأحدث الإصدارات العراقية خاصة.وكذلك حضوري في الصحافة الثقافية العربية- ولكنني أقول ذلك احترازاً من رصد ما يفوتني رصده ومتابعتته بحكم محليته ،أو وجوده خارج جغرافية قراءاتي.

* ما بعد 2003 ظهر نتاج أدبي كثير في الشعر والرواية.. ما هو تقييمك لهذا النتاجات؟

 ليس لأن الضارة (قد) تكون نافعة. بل لأن التحول حتمي في تلك الهبَّة التي أطاحت بنظام دكتاتوري عانت منه الثقافة - يكفي أن نذكّر بأن النظام لم يسمح بالصحافة  الثقافية الأهلية خارج قبضته! هكذ وأدوا مجلة طليعية كالكلمة! لأنها غير حكومية . وانعكس هذا التحول بفعل معطيات فرضها الواقع الجديد. فقد تجاوز المثقف العراقي حاجز الخوف والتابوهات ، وصار حراً في مصادر ثقافته المتاحة وفي ما يكتب ،وكذلك في أنشطته وحيويته بعد رفع القيود السابقة على السفر .وتجسد ذلك في الإصدارات وما تنشره الصحافة الثقافية ودور النشر والمساهمات العراقية في الثقافة العربية خارج العراق .هذا تمهيد للقول التالي بأن النتاج في الشعر والرواية - وهما موضوعا السؤال- اكتسب الحيوية التي تحدثت عنها ،وأفاد منها في تنشيط خلايا جسد القصيدة والرواية في أكثر من اتجاه: موضوعاتي وأسلوبي،مضموني وشكلي. وباتجاه الحداثة ومشروعها الذي أسهم فيه العراقيون  بفاعلية وريادة منذ النهضة فالتجديد ثم التحديث . وهذا حكم تؤيده أية مراجعة لتلك النتاجات. لكن الصورة ليست بهذا الجمال المكتمل، فقد لاحظت أن ثمة تراجعاً أسلوبياً في كتابة الشعر خاصة ، يتمثل بصعود قصائد المناسبات التي حسبنا أننا تخلصنا منها مع زوال أسبابها بزوال النظام السابق الذي كانت به حاجة لتلك المنظومات المملة. ولكن التقليد عاد بقوة كما ألاحظ في مساهمات المرابد والمهرجانات وبعض ما ينشر في الصحافة. وهذا يترك إرباكاً في الإصطفاف  الحداثي الذي عرف به النتاج العراقي عبر سيرورته.

 

* مؤخراً انحسرت كتابة (القصة) وسادت الكتابة الروائية، ما هو رأي الدكتور الصكر بذلك؟. انتصرتُ للقصة حين ساد اللغط غير المفهوم حول انقراضها وموتها! تلك عادة من عاداتنا السيئة ، وبفعل الكوابيس التي نعيشها صار الموت مفردة يومية وتسلل إلى خطابنا الثقافي! كتبت عند فوز القاصة الكندية أليس مونرو بنوبل الآداب لعام  2013 بأنها مناسبة للتذكير بأن القصة القصيرة التي أنفقت مونرو حياتها الأدبية في ممارستها  هي نوع حي من أنواع السرد، لم يمت كما قيل ذات مؤتمر أدبي عربي، وأن مكافأة القاصة في المقام الأول هي تصويت وانتصار للقصة القصيرة كنوع كتابي ، ولذا لم يخلُ تعليق أو خبر في العالم عن الجائزة  من تكرار ذلك. وكأن ثمة تواطؤاً صامتاً كان سائداً بين القراء والكتّاب مفاده أن القصة القصيرة مهمَّشة ومقصاة ، بل تعاني من عنت أو تسلط الرواية: الأخت الكبرى في عائلة السرد ، والتي حظيت برعاية وانتشار وتجدد لم يسبق أن حظيت به خلال عقود كتابتها الماضية.عربياً لا شك أن القصة القصيرة تراجعت كمياً بمقابل هيمنة الرواية والهوس بكتابتها -حتى من طرف شعراء مكرَّسين!ما دفعني للقول بأننا نشهد موسم الهجرة إلى الرواية!- ولكنها تظل نوعاً فنياً داخل الجنس السردي تختزل وتكثف وتنطوي على متعة وشعرية ودلالات لا غنى عنها. تربى جيلنا على أهمية القصة القصيرة وشهدنا عراقيا أفضل تجاربها عبر كتابات محمد خضير ومحمود عبدالوهاب وعبدالإله عبد الرزاق ومحمود جنداري وفهد الأسدي ومحيي الدين زنكنة وجليل القيسي وحسب الله يحيى وسواهم ممن انصرفوا لكتابتها بحماسة وإقتناع ولم تغرِهم الرواية.

عمليا لا أظن أنها تنحسر. ربما تغطي حضورَها موجةُ الرواية ومدّها الحالي ،لكنها تظل حاضرة.هنا دعنا نتذكر ما قاله أمبرتو إيكو حين سُئل عن مصير الكتاب الورقي في ظل سيطرة الكتاب الرقمي، فردَّ بأمثولة طريفة مفادها أن اختراع السيارة لم يلغِ  مثلاً وجود الدراجة أوالحاجة إليها!

*ما نشهده اليوم وفي العراق، بخاصة كتابة السيرة، ويزعم كتّابها على أنها رواية أو رواية سيرية.. أهذا الزعم متأتٍ بما يتناسب وزمن الرواية وجوائزها المغرية بالكتابة، أم أن الكاتب لا يميز اشتغالاً بين الرواية والسيرة فيقع في مأزق التجنيس الدقيق؟

هذا السؤال يثير قضيتين في رأيي :الكتابة الروائية على مقاس الجوائز ما أدى إلى ما سميته في مقالة لي بموسم الهجرة إلى الرواية! مع الإعتذار للطيب صالح وموسم هجرة أبطاله للغرب الذي صار حاضنة تلجأ إليها المهج المحترقة في مهودها!

والقضية الثانية هي علاقة الرواية بالسيرة الذاتية. ثمة كِسَر ومفردات متناثرة مرحّلة من السير الواقعية ومفردات الحياة الشخصية للكتّاب ، لكنها في المراحل الوسطى من تطور الرواية العراقية، كما في كتابات التكرلي ومهدي عيسى الصقر وغائب طعمة فرمان، لم تكن منعزلة أو متسيدة ومهيمنة على السرد ووجهات النظر وتطور الأحداث والمصائر ..أما في المراحل التالية والتي تعيشها الرواية العراقية في جوانب كثيرة منها ، فقد أصبح السرد السير ذاتي سائداً، وأخذت السيرة ومفرداتها مكانا مركزياً في الأعمال الروائية. وهذا واضح بجلاء في كثير من أعمال عبد الستار ناصر وعبدالرحمن الربيعي وجمعة اللامي  مثلا.

ورأيي بإيجاز هو أن  السيرة الذاتية كميثاق أو عقد قراءة تحتّم (التطابق) بين المؤلف والسارد والكائن السيري، وهو بذاته أمر مقلق لا يمكن التيقن من مفرداته تماماً، وهو موضوع شك دائم.أما الرواية والسرد عموماً فيعتمد (التشابه) أو التماثل ويتلخص في عملية التخييل المستندة إلى تمثل تلك الوقائع والأحداث ، وإعادة تمثيلها سردياً.

وبشكل شخصي ولآعتمادي منهج القراءة والتلقي، وما أعوّل عليه من قراءة النص فإنني أحتكم إلى التجنيس القصدي للكاتب ، وأقرأ العمل بتوجيه ذلك التجنيس ؛ أي ما يكتبه الروائي على غلاف عمله لبيان جنسه، معبِّراً  بذلك عن عقد مع القارئ .

لا أشك في أن الكتّاب يعون جيدا الحواجز والحدود بين السيرة والرواية، لكنهم يدسّون تلك الكِسَر السيرية لتقوية مجرى السرد والقرب من أحداثه. ولكن ظهورها يجب أن يكون سردياً. ولدينا تجارب على ذلك ، تناولت الراهن الفانتازي والمرعب وانعكاساته المدوية على الأفراد والمجتمع.

 

*وماذا عن الشعر، هل غيّبته الرواية؟

 الأسئلة فخاخ تحمل أحياناً توجيهاً للإجابة.لا . لم تغيب الرواية الشعر. ولا الزمن الآن زمن الرواية كما أشيع ، ولا هي صارت ديوان العرب المعاصر- كما قال نجيب محفوظ وكرر النقاد والكتاب كلامه من بعد-..المثقفون الفكهون تلمسوا الفخ. وصاروا عند سؤالهم عن الزمن، يجيبون بطريقة كوميدية ملخصها أن هذا ليس زمن الشعر ولا الرواية ولا الأدب كله! إنه زمن اليوتيوب و الدي جي والراب والغيمز!

وقد كنت من أوائل الذين ردوا على الدكتور جابر عصفور حين أعلن رأيه بالقول إن هذا زمن الرواية، ثم أصدر كتاباً بهذا العنوان. وحججه تداولية غالباً بمعنى أنها تستند إلى مقدار ما يستهلك القراء من الروايات ، وكمية الأعمال الروائية الفائزة بنوبل، وإضافة مزايا وصفية للرواية مثل تعبيرها عن الثورة والتحول وهو ما يمكن نسبته للشعر أيضاً.

صحيح أن الشعر يتوارى في الخلف من صورة الكتابة المعاصرة ،لأسباب لا علاقة لها بتلقيه أو شعريته وقوانينه، بل لكثافة اللحظة التي نعيشها ، والرغبة في استيعاب اللحظة بتفاصيلها التي يعجز الشعر عن إعلائها ، وجعلها تناسب نظْمه وقوانينه. لكنه موجود حتى في شعرية الرواية وأسلوبيتها. وهو موجود في ما يجري من تطوير لأبينته ولغته وأساليبه. والنخبوية هي قدر الشعر فقلة مبيعات الدواوين الشعرية ليست تصويتاً على تراجعه لصالح الرواية.بل هي تأكيد لكونه فن نخبة لا يتذوقه قارئ عادي  بلا تهيئة وثقافة تناسب ما يعتريه من تعقيد في التأليف والتخييل وسواهما.

غالبا كانت الشروح تصاحب الأشعار وهذا دليل خصوصيتها أو نخبويتها .وحتى في الغرب لا يبيع الشعراء كثيراً من دواوينهم ولا يحضر أمسياتهم إلا عدد قليل أقرب لجمهور الموسيقى الكلاسيكية.

في الأوديسة تغني السيرينيات لتختطف البحارة ثم تقتلهم بعد الإنجاب منهم ، لذا نصح أوديس رفاقه بأن يغلقوا آذانهم كي لا يسمعوا غوايتهن..وفي ألف ليلة وليلة ينجو السندباد في إحدى رحلاته السبع من الموت على أيديهن ،ويهرب من جزيرة النساء، فيما يموت الآخرون الذي استجابوا لندائهن. في واحد من مقالاتي الأخيرة تحدثت عن سيرينيات السرد اللاتي يختطفن الشعراء. وأظن أن الأمر صار واضحا حين قربناه بتلك الأمثولات!

 

ـ ماذا عن النقد أيضاً، ونحن نشهد تراجعاً نقدياً في ما يكتبُ اليوم؟

لم يكن النقد دوما إلا محل شبهة ومظنة تقصير.البياتي يتحدث في قصيدة عن ماياكوفسكي فيشتم النقاد. والشاعر بدوره شتمهم (في غيمة في بنطلون). والصيحات تتصاعد.الستينيون ومن تلاهم من الشعراء صرخوا: نحن جيل بلا نقاد. ولكن النقد يشتغل على النصوص ويجترح طرقا ويمهد أخرى .ويضع قواعد للفن شعرا وسردا. وإلا فكيف انتظم الجهاز النقدي السردي مصطلحا ومفهوما وإجراءات؟ وكيف تم قبول التجارب الريادية في قصيدة النثر وما عرف بالشعر الحر قبلها؟ لكن جهود النقاد كحركة الأرض تجري ولا تُحس! أو هي بعض مما شمله قول الموصلي حين سُئل عن صفة النغم فقال: إن من الأشياء أشياءَ تحيط بها المعرفة و لا تؤديها الصفة .

اليوم أقرأ دراسات ومقاربات حيوية ومعاصرة تجاري النصوص وتسبقها أحياناً. وتتنوع المناهج والأساليب والمعالجات .وتخرج الأكاديميات من قلاعها وأسوارها لتسهم عبر الأساتذة الشبان والشابات في الحياة الثقافية وتجديد الخطاب ولو بحركة بطيئة وبجهود فردية. كما أن النقد العراقي اتجه صوب مساحات ومناطق جديدة ، ولم يرتهن بنوع محدد. وها أن السيرة الذاتية - مثلا - تأخذ مساحة من اهتمامات  الدارسين المجددين سواء في الدرس الجامعي والرسائل العلمية أو في الكتابة النقدية ، كما تتعمق دراسة منجزات الشعراء والكتاب الجدد ، ولا تتوقف الدراسات النقدية عند الأسماء الكبيرة المكرسة ومنجزاتها فحسب.

 

* نرى حاتم الصكر لا يقتصر على مزاولة النقد الأدبي، وإنما يشتغل على مديات أخرى في الأبداع، كالتشكيل مثالاً، وهذا ميسم النقاد الكبار كجبرا إبراهيم جبر وغيره.. لمَ ناقد اليوم يقتصر على النقد الأدبي، بل يقتصر على جنس أدبي حسب، كالشعر مثلاً أو الرواية؟

كانت لجيلنا ومن سبقنا تقاليد ثقافية مهمة تترك مظاهرها على ثقافة الناقد والكاتب والمثقف عموماً . ومنها دخول السينما والتشكيل والمسرح في صلب مكوناتنا الثقافية ،سواء عبر قراءة ما يؤلف ويترجم منها أو عنها ، أو ما يعرض في المسارح وقاعات العرض الفني ودور السينما. وذلك يخلق تفاعلا مع تلك الفنون، فضلا عن دخولها في مكونات الفرد وشخصيته.من هنا نشأت علاقة كتابنا بالفنون المجاورة للشعر.مع عقد التسعينيات وحروب العراق المتوالية وعزلته وتصحر ثقافته ضمرت تلك المكونات المؤثرة ،وغابت عن لائحة المكوّن الثقافي تلك الأنشطة المصاحبة وأقفلت المسارح ودور السينما ، وقلّ عدد معارض الفنون وانزوت للتلقي النخبوي غالبا.

هذا الأمر ليس مقتصراً على نقادنا العرب والعراقيين.ففي العالم أيضاً تجد النقاد يكتبون في جماليات الفنون والتقبل ويعاينون مشكلاته المشتركة في الرسم والشعر والفنون الأخرى على حد سواء. نحن خرجنا من حاضنات منهجية بجانب تربيتنا الثقافية المتنوعة ترى أن الحدود الفاصلة بين الفنون والآداب ليست مقدسة ،بل يتم تجاوزها عمليا حين يكتب الروائي مستفيدا من السينما والمسرح مثلا ، ويستفيد منها الرسام حين يتجه للخط والتزيين وتطعيمهما في اللوحة، وكذلك يفعل الشاعر حين يركن للسرد وسيلة للتوصيل. ولكن في الأحوال كلها يهمنا مركز العمل أو بؤرته وخليته المولّدة.

المثال الذي تفضلت َبذكره حول حالة الراحل جبرا هو نموذج لمثقف حيوي لا تتوقف اهتماماته عند حد نوعي معين ، سواء في كتاباته الشعرية والسردية والنقدية، أو ترجماته  المتنوعة، ومزاولته الرسم والكتابة عنه. والأهم من مزاولة الأنواع المتعددة انفتاح الأنواع والأجناس ودخول جمالياتها في وعي الكاتب.

* ممكن أن تحدثنا عن غياب النقد الفني في العراق تحديداً؟

 تلك حقيقة ماثلة. وقد لازم  ذلك الغياب النقدي والتنظيري الفن العراقي منذ الرواد الذين كانوا يكتبون بيانات جماعاتهم الفنية بأنفسهم ،ولا يسهم معهم المهتمون بالفن إلا بتعقب المعارض وتغطية الفعالات الفنية.لذا لم يوجد نقدٌ موازٍ لمنجزات الفنانين الرواد.وتأخر ذلك حتى السبعينيات، حيث ظهرت مجلات فنية متخصصة ، ونشط النقد التشكيلي والمسرحي  والسينمائي والموسيقي أيضاً. وتُرجم كثير من الكتب الفنية النظرية لتزود المهتمين بالعدة النظرية المطلوبة لممارسة النقد الفني.كما أن أكاديميات الفنون ومعاهده لا تولي النقد الفني ما يستحق من اهتمام ،رغم وجود قسم للنقد الفني في أكاديمية الفنون ، ووجود صفحات متخصصة للفنون ودوريات أيضاً.

نقاد اليوم مسؤولون عن غياب النقد الفني، وكذلك هي مسؤولية المترجمين والناشرين والهيئات الثقافية والأدبية التي لا تضعه في برامجها، وتعطيه ما ما يستحق. ولكنْ ثمة ظروف موضوعية تسهم في هذا الغياب. منها ضعف الحركة الفنية ذاتها، وموسميةأنشطتها ،وتغير أولويات الإهتمامات لدى الجمهور والمهتمين، حتى أن المنجزات الفنية ذاتها كالمنحوتات والنصب والجداريات وحتى المأثورات والآثار لا تلقى الإهتمام المطلوب، وتستبدل بالترفيه السياحي واللهو واللعب .

 

* كيف تكون العلاقة بين الناقد والمبدع سواء في الحقل الأدبي أو الفني؟

 تعلمنا من نظرية النص وتأثيراتها في رؤيتنا أن محور الكتابة النقدية هو النص لا كاتبه. وكذلك في الفن . وقد جازفت مرة بالقول إن النقد - وإن كان قابلة النص لا أمه - قد يكون أكثر التصاقاً بالنص من كاتبه ،لا بمعنى التسلط النصي، وإسقاط الرؤية السلطوية على النصوص كالحكم عليها أو إقصائها أو تأويلها بدوافع غير أدبية.من هنا كانت صلتي بالنصوص  أولاً . ولكن ذلك يخلق علاقة بالواسطة مع كتابها أو المبدعين بتعبير السؤال. العلاقة بالمبدعين هي جزء من العملية الأدبية ذاتها ،فتجد نفسك أقرب إلى كتابةٍ ما دون سواها.وقد تدخل في احتكاك نقدي مع نص لا تعرف كاتبه كشخص.

على المستوى المجرد أو النظري يجب أن تكون العلاقة متكاملة أو تكاملية، أي أن العملية الأدبية تحتاج طرفيْها دون ترفع ،كأنْ يلغي الكاتب مهمة النقاد والنقد كنشاط، ولايعلم أنه بذلك يلغي ممارسة حضارية، قبل أن تكون فاعلية أدبية.الضيق بالنقد من سمات المجتمعات المتخلفة والوعي النقدي قصير النظر.لقد واجهتُ شخصياً  الكثير من رذاذ قريب أو بعيد من هجومم بعض الشعراء رغم ما أزعم عن نفسي من مسالمة وتجنب للمعارك الجانبية ، كان بعضها لأسباب لا معنى لها ،مثل عدم ذكر اسم الشخص في حوار أوردت فيه أسماء متباينة مثالاً لا حصراً على حضور الأجيال بسلام.

*كتبتَ مؤخراً عن الفارق بين الناقد الأدبي والناقد المتفلسف، وقد أثارت هذه الكتابة ردود كتاب عرب لما فيها من رؤية تثير الأسئلة، وكان للدكتور المرحوم الطاهر رؤية مقاربة مما ذهبت إليه وهو ناقد انطباعي كما نعرف.. هل الدكتور الصكر يؤكد فاعلية النقد الانطباعي على غيره؟

 في مقاربتي حول نفي موت النقد الأدبي التي دعا لها الدكتورعبداله الغذامي بحجة ولادة النقد الثقافي البديل، ونسْخِه لمهمة النقد الأدبي المتوفى! ألا أشارك في جنازة وهمية تشيِّع في الواقع فاعلية النقد النصي وما حوله .ولم يكن القصد إعلاء شأن النقد الإنطباعي، فقد ولى زمنه ولم يعد له شأن في الدراسات والبحوث المنهجية الجديدة منذ السبعينيات ،تأثراً بالهبة المنهجية أو الربيع النقدي!! الذي نقل عن البنيوية ومدارس النقد الحديثة الروح المنهجية والرؤى التي تسبق المنهج.  لكنني وجدت أن نهضة النقد الثقافي وحياته لا تكون بالضرورة مشروطة بموت النقد الأدبي، وكأنَّ ثمة ناسخاً ومنسوخاً. والمسألة كما يبدو مجاراة لمقولة موت المؤلف التي فُهمت للأسف بغير ما أراده رولان بارت الذي كان يعني بموت المؤلف لحظة تكتيكية مؤقتة أشبه بالتخدير العضوي الموضعي. أي في لحظة معاينة النص يلزم إقصاء صاحبه كي لا يتأثر التحليل والتأويل بشخص المبدع ،وهو ما يخالف مقولة وجود طبقات مغيبة ومسكوت عنها في النصوص ، يشتغل عليها النقد الأدبي  بمنهجياته المختلفة بالمناسبة.لقد جرى النظر للنقد الادبي كصفقة واحدة ،وليس اصطفافاً لمختلف المنهجيات والرؤى.ولكن ما يجمعها كلها هو أدبية النقد وتمحوره حول النصوص .

* وأخيراً، نتساءل مع الدكتور الصكر: كيف ترى مستقبل الثقافة في العراق؟

أنا من أكثر الكتاب  العرب المتفائلين إيماناً بأن المستقبل (البعيد في التوصيف الواقعي!) سيكون أفضل مما نحن عليه. وتهدم البنى الثقافية التحتية كالمسارح ودور العرض الفني والموسيقي والسينمائي لن يعيق طويلاً التطور الحثيث في النتاج الإبداعي في المجالات المختلفة. قدر العراقي أنه يعيش حالة العنقاء الأسطورية المتجددة بالحياة والولادة من رمادها. تلك ليست شطحة مجازية أو حالة مزاجية أو رغبة وأمنية، بل هي واقعة حقيقية تنفرد بها الثقافة العراقية التي قلّ نظيرها سواء في ديمومة العطاء أو التجدد، وكذلك التعايش بين الأجيال والأنواع والثقافات.

لكن الصورة لن تظل كما هي عليه. ستتقدم كيفيات ورؤى وأساليب جديدة ، وسيكون لموضوعات الحياة الأخرى مكان  بعد أن تغيرت الأولويات بسبب الصاعقة المحرقة التي نزلت ببلاد الرافدين، وكأنها تحقيق لنبوءة كهنة بابل التي لخص السياب مستقبلها ترميزا فقال إنها سوف تُغسل من خطاياها!

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.