}

فتحي عبد السميع: لا تسامح مع مثقف يفرّط بشرفه

سارة عابدين 30 أكتوبر 2018

فتحي عبد السميع شاعر مصري من مواليد عام 1963، يعمل كمنسق وأمين عام لأكثر من مؤتمر ومهرجان شعري، مثل مؤتمر إقليم وسط وجنوب الصعيد، ومهرجان الجنوب للشعر العربي. حصل على عدة جوائز أهمها جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية. صدرت له 10 كتب، بين الشعر والنقد، وله ستة كتب أخرى تحت الطبع، بالإضافة إلى مشاركته بأوراق بحثية ونقدية، في عدد من المهرجانات الشعرية في مصر والعالم العربي.

كمنسق وأمين عام لأكثر من مهرجان ومؤتمر شعري، يتحدث عبد السميع عن جدوى الفعاليات الشعرية وأهميتها، ويقول إن الفعاليات الشعرية ضرورية جدا، لأن كل تجربة شعرية هي أشبه ببذرة فردية صغيرة ولا تتحول إلى شجرة عملاقة إلا عندما يتم وضعها في الأرض، والمبدع ربما يراهن على التلقي الفردي، إلا أن إبداعه لن يجد أرضا تحوله إلى شجرة إلا في المجتمع، وتلك الأنشطة الثقافية تلعب دورا قويا في تلك العملية، وهي تنقذ الشعر من الحصار المفروض عليه، وتفتح المجال للنقاش الحي، وتضع النص في اختبار مباشر مع الواقع، وتساهم في دخول الشاعر إلى الذاكرة الحضارية للجماعة، وتمنحه التكريس الضروري، خصوصا لأصحاب التجربة الطليعية.

أما عن أثر تلك الفعاليات في الحركة الشعرية، فيدلل عبد السميع على أهمية تلك الأنشطة من متابعة الصخب الذي يرتبط بها، وردود أفعال الشعراء، وكيف يشعرون بالألم عند تجاهلهم أو بالفرح عند دعوتهم، ومن المعتاد وجود مشاجرات عقب كل مهرجان أو مؤتمر، وكل ذلك يعبر عن أهمية الفعاليات. يقول عبد السميع إن المطلوب من تلك الأنشطة هو تكريس التجارب المجتهدة فعلا، لكن ذلك لا يحدث في الغالب، والسبب بؤس وعي القائمين على تلك الأنشطة أو بؤس نفوسهم، أو بؤس قدراتهم التنظيمية، ومن المؤسف تهرب المبدعين الجيدين من إدارة تلك الأنشطة، بدعوى اقتصار دورهم على الإبداع فقط، وهذا خطأ، خاصة في ظل غياب مشروعات ثقافية حقيقية تتبناها الدولة، أو المجتمع؛ لأن أفضل من يدافع عن الشعر ويحرسه هو الأكثر إيمانا به، وهوية المبدع لها وجوه كثيرة، وينبغي ألا تقتصر على نصوصه فقط. وهكذا يتركون الأمر إلى من هم أقل وعيا، وإلى الأدعياء والزائفين والفاسدين. ولأن الأنشطة الثقافية تعكس أرواح القائمين عليها، نجد تكريسا هائلا للتجارب الزائفة، ونجد في المقابل صراخا دائما من أصحاب التجارب الجادة. ونجد أغلب الفعاليات تمضي دون أن تحقق أهدافها الحقيقية. 

يتحدث عبد السميع مع "ضفة ثالثة" عن تجربة المقال الأسبوعي، وأهميتها له، وكيف تلزمه بالجلوس من أجل الكتابة، وتجعله يتعجب من قدراته، لأن رغبته في الكتابة عزيزة جدا، ولا يفهم أبدا سر تهربه منها بحيل وفنون مختلفة، وغالبا ما يفضل القراءة والتأمل أو الشرود الحر، كما أن الكتابة تبدو شاقة جدا بالنسبة له، لكنه عندما يكون تحت ضغط الموعد لا يعرف كيف تنهمر الكتابة. وهكذا يكتب أشياء ما كان لها أن تخرج أبدا من دون ضغط الموعد المحدد. وهذا الأمر يساعده في كشف هويته كقارئ للنصوص، ومحب للأصوات الأدبية الجيدة، وتسليط الضوء عليها، لأنه يرى أننا نعاني فراغًا كبيرًا في هذا الجانب.

تأثير الجوائز على

الشعر والشاعر

عن مدى تأثير الجوائز على الشعر والشاعر، يقول عبد السميع إن الشعر كقيمة في حد ذاته يجب أن يكون غاية الشاعر. وتلك الغاية العظيمة لا تتعارض بالضرورة مع غايات ثانوية أخرى، مثل الشهرة، أو تحقيق مكانة في المجتمع، أو الحصول على جائزة مالية. والأصل في الجوائز منحها لمن كان الشعر غايته العظمى ومحور اجتهاده وإخلاصه، لكن الواقع يشهد ارتباط الجوائز بأغراض غير شعرية كثيرة، وهنا تظهر المشكلة، حيث تتحول الغاية الثانوية إلى قيمة جوهرية، ويتراجع الشعر أمام الشهرة أو المال أو المكانة، ليفقد الشاعر هويته ويتحول إلى مسخ، لأن ميزة الشعر هي في تمرده على القوالب، وأهمية الإبداع في وصوله للمغاير وغير المعتاد، وغالبا ما يحتاج الشاعر المجدد إلى وقت كي يمكن هضمه واستيعابه. يقول عبد السميع "نعم، كل من يكتب وعينه على شيء سوى الشعر، مسخٌ خائن لهويته كشاعر".

تتعدد إصدارات عبد السميع، وتراوح بين الشعر والنقد، بالرغم من ذلك لا يرى عبد السميع أي تقاطع بينهما، ولا يضع خطا فاصلا بين القراءة النقدية، والقراءة الشخصية، ويرى أن الإنسان كل متكامل؛ الشاعر والناقد والباحث ورب الأسرة إلخ... وهؤلاء ليسوا أقنعة نستخدمها في مناسباتها ثم نضعها في الدولاب. بل ينبغي أن يكون كل ذلك حاضرا في الوقت نفسه، وهكذا عندما يدرس ظاهرة اجتماعية مثلا، يكون معه الشاعر، لكنه لا يجور على الباحث، لأنه لا يوجد تعارض بالضرورة بين الشخصي والنقدي. يقول عبد السميع "الشاعر في اللغة هو العالم، ونحن نستبعد الذاتي في الدراسة العلمية البحتة لكننا لا نستبعد الشعر من كينونة الباحث".

الأعمال الفنية نقرأها

بكياننا كله

يقول عبد السميع في كتابه الطفل والحجر "الشاعر الذي يحمله كل إنسان هو الخصم الحقيقي لصورتنا بوصفنا وحوشا بشرية"، لذا لا يعتقد عبد السميع بوجوب الفصل بين الشاعر أو الفنان، في أعماله الإبداعية ومواقفة الإنسانية أو السياسية، فهو كقارئ ـ في المقام الأول ـ لا يستطيع القراءة لكاتب يحتقره، لأنه لا يقرأ بعقله فقط.

يضيف عبد السميع "الكتب العلمية وحدها هي التي نقرأها بعقولنا فقط، أو يمكننا التعامل معها بموضوعية بحيث لا نهتم لاسم كاتبها، أما الأعمال الفنية فنحن نقرأها بكياننا كله، نقرأها بمشاعرنا وأرواحنا بالدرجة الأولى، ولا مفر من تحول حقارة الكاتب إلى حاجز لا يمكن تجاوزه. وقد ننصرف لا شعوريا عنه، وعندما نضطر لتلقيه سوف نظلم إبداعه أكثر، سوف نشوهه ببرودنا واحتراسنا منه، لن نتفاعل معه بكينونتنا أبدا". ويبقى الحب في تقديره هو القاعدة الأولى للتلقي، ووحدها عين المحب تستطيع التفاعل مع النصوص بجدارة. وهناك أمر بالغ الأهمية يتعلق بهوية المبدع أو المثقف عموما، ففي الجوهر يبقى دوره هو تحقيق الفارق بين العالم الإنساني والعالم الحيواني، لأن الإنسان غريزة وثقافة، وفي الجوهر يبقى الرقي الإنساني غاية المبدع والفنان، وعندما يتعارض الفنان مع تلك الغاية يتحول إلى مسخ. وحقارة المبدع لا تعني عدم اتفاقه معه في الدين أو الحزب السياسي، بل تعني تفريطه في هويته الأولى كمثقف نزيه، يتناغم قلبه مع لسانه، ولا يتصادم مع القيم الإنسانية التي أجمعت عليها كل الثقافات. وحقارة المبدع التي تعنيه لا تتعلق بالمجال الشخصي، لأنه إنسان مثل أي إنسان، من الجيد أن يتناغم مع ذاته في كل كبيرة وصغيرة، لكنه قد يتورط في أبشع الأعمال كالقتل مثلا.

لا يجوز التسامح مع

مثقف يفرّط في شرفه

يضيف عبد السميع "نحن نقدر الضعف الإنساني ونتسامح معه، لكننا لن نتسامح عندما يفرط في شرفه كمثقف، ويخرج إلى المجال العام ليدافع عن القتل أو الظلم. كل جرائم الشرف صغيرة أمام تفريط المثقف في هويته باعتباره رمزا للوعي الإنساني الحر النزيه".

أما عن أهم الأحداث التي شكلت وعيه، ومثلت نقاط تحول في حياته، فيذكر عبد السميع انتفاضة الحجارة الفلسطينية عام 1987. كان قد كتب قبلها محاولات أولية، منعزلة تماما عن الواقع الثقافي، ثم انصرف عن الكتابة نهائيا. وأثناء متابعة صور الأطفال وهم يواجهون الدبابات بالحجارة، شعر برغبة كبيرة في الصراخ، وأخذ يصرخ على الورق، وكان يمكن للتجربة أن تنتهي عند هذا الحد، لكنه التقى شاعرين رائعين هما سيد عبد العاطي وعطية حسن وعرض عليهما ما كتب، وكان تشجيعهما له هو سبب تعامله مع الكتابة بجدية. عن طريقهما عرف للمرة الأولى أسماء مثل أدونيس، وعبد الصبور، والسياب، والماغوط، ودنقل، ودرويش وغيرهم. تلك الأسماء هي التي شكلته في البداية، ووضعته على طريق ما زال يكتشفه كل يوم.

رغم أن نظرته للشعر تتجدد باستمرار، ورغم إيمانه بضرورة تمرد الشاعر على نفسه، وتجاوزه لكتاباته السابقة، لكنه يعتقد أنه ما زال مسكونا بأحد أطفال الحجارة، وما زال يطلق تلك الصرخة القديمة، بشكل خفي، أو مراوغ.

يتساءل عبد السميع في كتابه "هل أوقف الشعر حروبا أو قضى على مجاعات؟". إذًا أين تكمن أهمية الشعر من وجهة نظره. يقول عبد السميع إن كل البشاعات تولد في الذهن البشري أولا ثم تتحقق في الواقع، والشعر لا يفعل شيئا وقت اشتعال الحروب، لأن القرار في ذلك الوقت يكون للسياسيين والضباط والجنود، تلك طبيعة عملهم، أما الشاعر فيسبق هؤلاء بخطوات كبيرة، قد يتواجد معهم رفضا للحرب أو تشجيعا للدفاع عن وطنه، لكن وجوده في تلك الحالة ثانوي، أما وجوده الحقيقي المؤثر فيكون هناك، في الذهن البشري، في المصدر الذي تنطلق منه القسوة، أو الشرور. ودوره الأهم هو تجفيف منابع العنف، لا التصدي له فقط، ويكفي  الشعر قدرته على تحطيم النظرة الحرفية الجامدة للعالم، والذي يعتبرها منبعًا هائلًا للتشدد والقسوة. يقول عبد السميع إن الشعر يوسع وعينا بالعالم، ويعلمنا كيف نتفهم ونستوعب، وكيف نعبر بوضوح وعمق، وهذا يمنحنا قدرة هائلة على التسامح، وكل نص مصافحة مع الآخر، كما أن التفاعل مع الشعر يحرر طاقات داخلية كثيرة، منها طاقة الخيال، طاقة اللغة، والطاقة الرمزية، إلى آخر تلك الطاقات التي صنعت الفارق بين عالمنا الإنساني بمنجزاته الهائلة والعالم الحيواني المتجمد في وضعه منذ بدء الخليقة. ومن هنا يخطئ الشاعر عندما يكون تابعا للسياسي ويتحرك في مؤخرة المسيرة البشرية، لأنه يقف في المكان الخطأ، ويحكم على نفسه بالتحول إلى بوق، أو إلى مجرد صائغ يزيِّن القشور الخارجية، وبالتالي يصبح عاملا من عوامل الجمود والتحجر.

الفيسبوك كمنصة للتواصل

 الأدبي معجزة ونقمة

كان الصعيد دائما مهمشا، ولشعراء العاصمة فرص أكبر في التواجد والمقروئية، وعن هذه الإشكالية يقول عبد السميع إن مشكلة الصعيد ينبغي وضعها في إطار المركزية المتوحشة من جهة، وحجم الفساد في الحركة الثقافية والإعلامية من جهة أخرى، وهذا الوضع بأضراره الكثيرة ثابت حتى الآن، لكن الجغرافيا تلقت ضربة شديدة في ظل ثورة الاتصال الحديثة، فلقد تهشمت المسافات، وسقطت حواجز كثيرة، ولم يعد المبدع يعاني من العزلة السلبية، ويفتقد للاحتكاك الضروري كي ينفتح على الواقع الثقافي، وتظل للمبدع الصعيدي معاناته عندما يتعلق الأمر بالمؤسسات الثقافية، والأدوار التي تقدمها، وتلك المعاناة تشمل كل مبدع يعتمد على إبداعه فقط، في ظل الفساد المعروف. 

يتحدث عبد السميع عن الفيسبوك كمنصة للتواصل الأدبي، ويراه كمعجزة ونقمة في نفس الوقت، لأنه يمنحنا التواجد في الواقع الثقافي دون تكلفة، أو جهد، أو تأشيرة من أحد، ويذيب المسافات بشكل مذهل. ومن عرف فكرة التواصل بين المبدعين عن طريق الخطابات، أو الهاتف الأرضي، سوف ينظر إلى ثورة الاتصالات كمعجزة حقيقية، وكذلك من عرف المرور إلى الواقع الثقافي عن طريق المشرفين على الصفحات الثقافية في الجرائد أو المجلات، وفيهم ما فيهم من الأطهار والفاسدين والجهلة وغلاظ القلوب. لقد جعل المبدع يولد سيدا بشكل ما، أو جعله يولد متجاوزا للكثير من الظروف والصعوبات، وبقدر عظمة هذا الدور، هناك وجه آخر للعملة، هناك فخ قاتل، لأن كل شيء يُكتب يجد من يحتفي به، مهما كانت قيمة تلك الكتابة، وكثيرا ما تكون الكتابة الأسوأ أكثر حظا من الكتابة الجيدة. والفيسبوك يضلل بسهولة، ويمنح الرضى الوهمي. يقول عبد السميع "إنه كالمهرة الجامحة يمكن للفارس البارع أن يروضها ويذهب بها كما يريد، أو يمكنها تحطيم أضلاعنا، وقتلنا. وهنا تظهر أهمية التعامل مع الشعر كقيمة في حد ذاته، وأهمية المراجعة الجادة والصادقة لتجاربنا، أما من ينظر للفيس باعتباره غاية، أو محكا حقيقيا ووحيدا، فسوف يظلم نفسه ظلما كبيرا".

يتحدث عبد السميع عن تلك المرحلة المهمة التي نعيش فيها وتشكل رؤى جديدة لقصيدة النثر، وهل يمكن أن تتحول القصيدة الهامشية المضادة إلى قصيدة سلطوية، ويقول إن جوهر النص الشعري الجديد هو التمرد على الجمود والتسلط، وتحطيم كل الحواجز التي تحول بيننا وبين اصطياد الشعر في أبهى صوره. لقد فتح الباب كي ننطلق مسرعين للبحث عن المدهش، وطرح أغوار الذات، والكشف عن مكنوناتها في ظل اشتباكها العميق مع العالم. والشعر كأية ظاهرة بشرية ليس بوسعه أن يتشكل بعيدا عن البيئة التي نبت فيها، وليس بمقدوره أن يتبلور ويتجسد بمنأى عن المناخ الاجتماعي المحيط، ولا يمكن أن يتكرس دون أن يشتبك مع الفضاء الثقافي الذي ينتمي إليه، وكل تلك العوامل تصنع ما يشبه حلبة المصارعة، حيث يتم تبادل اللكمات بين المبدع والمحيط، يؤثر المبدع ويتأثر، يقوم ويكبو، يتمرد على التقليد ثم يسقط فيه، ثم يعود كي يتمرد من جديد، وهكذا ينبثق الشعر حيا ومتجددا إلى الأبد. ومهما بلغت عبقرية الشاعر يظل في دائرة معينة لا يستطيع تجاوزها، وبحكم تلك الاعتبارات يظهر التكرار، ونسخ التجارب، أو تقليدها، وبمرور الوقت يتحول المدهش إلى عادي تماما، ويفقد طاقته، وينجح الهامشي في التحول إلى متن، وسلطة، ونصبح أمام كمية هائلة من الشعر، سوف يبقى منها فقط التجارب التي تمردت على نفسها، ومكتسباتها، وأخلصت لطابعها المضاد.

ويعتقد عبد السميع أن القيمة الكبرى للنص الجديد تكمن في قدرته على تحرير نفسه من نفسه، ومن الطبيعي جدا ظهور فترات يحكمها الجمود أو التكرار، لأن الدور الأساسي يكون لترسيخ نموذج جديد في الواقع، وانتظار اختمار نموذج جديد، أو تجربة هامشية مضادة تبررها وتدعمها طبيعة الحياة المتجددة.

في النهاية يؤكد عبد السميع ثقته الهائلة في قدرة البشرية على إنجاب شعراء أفذاذ يطاردون كل قصيدة متسلطة وثابتة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.