}

في رحيل كوكب حمزة: سنديانة الأغنية العراقية

علي لفتة سعيد 27 أبريل 2024
هنا/الآن في رحيل كوكب حمزة: سنديانة الأغنية العراقية
لحّن كوكب حمزة أشهر أغنية لحسين نعمة "يا نجمة"
رحل الشهر الفائت الفنان والملحّن العراقي كوكب حمزة عن عمر ناهز الثمانين عامًا في مغتربه الدانماركي. يعد حمزة واحدًا من أعذب الملحّنين العراقيين الذين أنجبتهم الأغنية العراقية التي ازدهرت في سبعينيات القرن الماضي مع ملحنين آخرين. وقد شهدت تلك المرحلة تغيرًا في اللحنية العراقية التي كانت موزّعة بين الأغنية البغدادية الريفية والمقام العراقي. كوكب كان يمازج ما بين الأصالة والحداثة اللحنية التي كانت موجتها قد بدأت في مصر من خلال موسيقى محمد عبد الوهاب، وألحان بليغ حمدي، وأطلق عليه ملحّن العذوبة، وملحّن الحداثة، ومكتشف الطاقات الغنائية التي أثّرت بشكلٍ كبيرٍ في السبعينية، منهم حسين نعمة، ورياض أحمد، وستار جبار، وكذلك سعدون جابر، الذي لحّن له "يا طيور الطايرة"، أشهر أغنية ظلّت عالقةً في أذهان الجماهير حتى الآن. كما لحّن لمطربين عراقيين وعرب، منهم مائدة نزهت، وفاضل عوّاد، وكريم منصور، وكذلك فؤاد سالم، والمطربة العربية أصالة نصري في بداياتها، وأيضًا عبد الله رويشد، وغيرهم كثير. وله عدد من الألحان الخاصة بمسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية.

السيرة المختصرة
قيل إنه من أصلٍ كردي، وولد في محافظة بابل ناحية القاسم في وسط العراق عام 1944. درس في معهد الفنون الجميلة في بغداد. وأكمل دراسته في معهد الدراسات الموسيقية. عيّن في محافظة البصرة جنوب العراق، ومن هناك اكتشف موهبته اللحنية، ولحّن أوّل أغنية وسجّلها في الإذاعة (مرْ بيّه) للمطربة غادة سالم، من شعر طارق ياسين. كانت تلك انطلاقته الأولى التي توقّف بعدها ليفكّر بما هو جديد، كونه لا يريد أن يكون على خطى من سبقوه. فلحّن أشهر أغنية لحسين نعمة: "يا نجمة"، بأسلوبٍ عصريّ وكانت مزيجًا من الغناء العراقي الفولكلوري والموشّح الأندلسي، ليشكّل مع أقرانه في تلك المرحلة ما يسمى بالأغنية الحديثة التي تحمل ملامح جديدةٍ في أسلوب البناء الموسيقي والآفاق التعبيرية في الألحان، وأصوات جديدةٍ خالفت المألوف في شكل الأغنية.
غادر العراق في عام 1974 معارضًا للنظام الذي منع تداول أغانيه بعد أن كان يمتنع عن تلحين كلمات لها علاقة بالحزب الحاكم؛ ليتنقل بين دولٍ عديدةٍ، كسورية، وتشيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفياتي، ليستقر في الدانمارك من عام 1989.
وقال الفنان حسين نعمة مخاطبًا الراحل: إنه ليسَ وداعًا. ستبقى راسخًا في ذاكرة وضمير المنتمين للعطاء اللحني حينَ كنتَ تغدق علينا أجمل وأروع الألحان، منها أغنيَتي الأُولى "يا نجمة" من دون مقابل مادي. فقدكَ الجميع أيها المبدع الصادق في روعةِ عطائك. كوكب الوديع والمشاكس بجنون الصمتِ والصبرِ والتحمل. فقدكَ شعب العراق، لأنكَ خسرتَ حقوقكَ بالتهميش والإهمال. ولكن ليعلم الجميع أن لحن أغنيّة "يا طيور الطايرة" يكفي أن يوثق للأجيال القادمة. وهي من أوائل سمفونيات الإبداع اللحني.




لكَ الله سبحانهُ وتعالى يمنُ عليك بجنات الخُلد، كما منَّ عليكَ بعطائكَ الموسيقي الرائع المتميّز، ويُلهمنا تجاوز صدمة محبيك بالصبر على رحيلك المفاجئ، لأنكَ كوكب من كواكب الأرض. يا كوكب الوديع في الصبر والصمتِ والعطاء الجميل.

شهادات وآراء
ويقول الكاتب العراقي محمد خضير إنه في ليلةٍ من نهاية العقد الستّيني، ارتقينا السلّمَ، لغرفةٍ في فندق على حافة ساحة أمّ البروم بالعشّار، يسكنها كوكب حمزة، وكانت واحدةً من محطّات سكنهِ الكثيرة، صغيرة وفقيرة، لكنّ "يا نجمةً" بزغَت في استقبالنا من أوتار العُود بحضنهِ، رحلت بنا إلى أقصى السماء. وأضاف: كان كوكب آنذاك يجرّب بروفة الأغنية الشهيرة التي سيغنّيها حسين نعمة في ما بعد، ويُخرجِها من تلك السماء الضيّقة إلى رحاب الدنيا. ولفت إلى أن حرارة اللقاء جعلت الحوار تثاقفيًا بعيدًا عن الحسّ الفطريّ الصريح، هذا الذي سيجسّده أداءُ حسين نعمة، ويضبط اقترانَ مُناغاته الحسّيّة ودرجاته النغميّة ضبطًا جمعيًّا. ستدلّ الأغنيّة ــ تطويحات كوكب حمزة الصوتيّة ــ على الحيرة والفقدان لقلوب هدّها انكسارُ الأفق التاريخيّ، وعذّبها ضياعُ الحبّ والمؤاخاة الوجدانيّة. ويشير إلى أنه لم يفهم تمامًا ما ستؤسّس له أغنيّةُ "يا نجمة" من تطويحات عميقة في حنجرة كوكب النغميّة هذه القريبة من عهدنا. ويمضي بقوله إن روحه كانت تتبع فطرةً صوتية، آهةً تأبى أن تتلبّس اللحظةَ المغنّاة وتتشكّل بيسر وهدوء. كانت اللازمة المتكرّرة لأيّ مقطع غنائيّ تنوح نَوح الحمام. وزاد بقوله إنّه الجرح الذي أفاضَ السَّماعيّون في وصفه لدى المغنّين، الصوتُ الملعلِع في ليل الطغاة ــ الملكيّين والإقطاعيّين والمتعسكرين ــ وقد نتتبّع أمثالَه عند المغنّين الراحلين، مسعود العمارتلي، وداخل حسن، وحضيري أبو عزيز، الجوقة التي تترقّب سطوعَ النجوم العالية، أو أنّ النجوم تترقّب بعلوّها أفولَ المغنّين أسفل منها. ويؤكد أنه لن تتكرّر أسطورة الحناجر الآفلة تحت ضوء النجوم، لكنّنا قد نكتشف وجودَ مَن يشعر بمرض أصحابها الخاصّ، ذلك لأنّه من نوع المرض المستوطِن، العائد بأعراضٍ مختلفة، تتراوح بين امتقاع السَّحنات ولوعة "الدّادات" المختفيات بزيّ الرجال. إنّه مرضُنا جميعًا ــ وأكاد أقول إنّه تطويحتُنا الطويلة ــ نواحُنا في الليالي، ساطعة النجوم.

أما الناقد والكاتب شوقي كريم فقال: إن محنة الحديث عن الراحل لا يمكن تجاوزها مهما فعلنا، فثمة أكثر من سببٍ يجعلنا نتأمّل بروح الانحياز التام إلى مسيرته اللحنية منذ أوّل ألحانه المميّزة (يا نجمة) التي أقامها لحنيًا متأثرًا بألحان محمد عبد الوهاب والموشّحات الأندلسية. ويضيف أنه مع تلك الملحونة لم يكتشف كوكب حمزة جملته الموسيقية العراقية، فقد ظلّ هاجسه بعيدًا عن الأغنية البغدادية المستقرّة بين عباس جميل، ورضا علي، مثلما لم يكن راغبًا في الانتماء إلى أجواء الأغنية الريفية ذات التأثير الواضح في الوجدانية العراقية. ويشير شوقي إلى أن حيرته ازدادت، وتوقّف مع النغم طويلًا حتى ابتكر أعظم وأهم ألحانه وأكثرها شجنًا وتأثيرًا روحيًا وهي "يا طيور الطايرة". وذكر أنه مثلما فعلت "يا نجمة"، استطاعت "يا طيور الطايرة" أن تكون رسالة وجعٍ، وتميمة أرواحٍ تشكو الغربة، حتى وهي داخل أوطانها. وأفاد أنه أمام هذه الملحونة تمكّن كوكب حمزة من أن يقف شامخًا وسط جيل من الملحنين الشباب، وقد تميّز بوضوحٍ في جمله الموسيقية، رغم ما في هذه الجملة من تأثّر بعبد الوهاب، وبليغ حمدي، الذي كان الأقرب إليه. وبرحيله نفتقد سنديانة الأغنية العراقية.
أما الكاتب فاروق سلوم فقد استذكر الراحل منذ البداية، وقال: حين انتقل من تربية البصرة للعمل في دائرة رعاية الشباب التابعة لجامعة بغداد، ومقرها في الوزيرية، في عامي (1970 ــ 1971) كنا نتحلّق حوله؛ شعراء ورسّامون ومطربون شباب وحملة فكرٍ. كان شابًا يتوهّج بأحلام اليسار قبل أن ينشط الرقباء وكتبة التقارير. ويضيف: لقد كان الراحل صاحب رسالةٍ، لذلك لم يكترث بما يدور، بل جعل المكان منتدىً ثقافيًا وفنيًا ومقصدًا اجتماعيًا. وأفاد أنه غادر وآخرون كثيرون بهدوء، وأصبح كلٌّ تحت نجمة في أصقاع العالم الباردة. ولكن الذاكرة العراقية بقيت تروي، وإن تعاقب الموت على الشهود. ويستذكر سلوم ما حصل في شباط عام 2012، حين وصل طالب القرغولي إلى السويد، وجاء كوكب من كوبنهاغن. يقول: وقفنا معًا متجاورين، ومتذكّرين عند بوّابة القاعة في ستوكهولم، نستقبل وجوهًا مهاجرة ًمن أوروبا وأميركا وروسيا، وقد أخذتها المنافي والغربة، ويشدّها الحنين للكلمة العراقية واللحن المليء شجنًا وحنوّا. لقد حملت وجوه عراقيةَ وقلوب حلم النهرين الذي ظلّ الراحل حتى النفس الأخير يغنّي له، ويلحّن نصوصه الباذخة حتى يأتي النهار العراقي الواعد.
ويقول الفنان طالب خيون: كوكب حمزة، وطالب القرغولي، وكمال السيد، ثلاثة أسماءٍ لامعة غيروا من بين آخرين مجرى التاريخ الجمالي في الأغنية العراقية. ويضيف أن اللافت هو اختيار الراحل غربته في داخل الوطن "يا فشلة الملهوف ويدور هله"، و"الگنطرة ابعيدة"، و"يا نجمة". ويشير إلى أنه ما بين كاظم الركابي، وأبو سرحان، ورياض النعماني، لاحقًا، ازدهرت أغنية العذاب الجميل التي غنّاها الراحل طالب القرغولي، مع اختلاف تمثّل بقيام كوكب بمدّ الكلمات واللحن إلى مسافة أبعد، لتكون أقرب إلى الموال. ويذكر أنه بعد مغادرته العراق التقى بالشاعر رياض النعماني الذي كتب "يوم الماشوفك ماريد اعيوني"، و"بساتين البنفسج". ويؤكد أن الذي يميز كوكب عن بقية الروّاد هو اعتناقه لغربتي الداخل والخارج.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.