}

في رحيل حمدي أبو جليل: حديث جادّ لأول مرة

هشام أصلان 17 يونيو 2023
هنا/الآن في رحيل حمدي أبو جليل: حديث جادّ لأول مرة
رحل حمدي أبو جليل في العاشر من يونيو الجاري
كم فقد مفاجئ يحتاج الواحد لأن يتعرض له حتى تتوقف الدهشة؟ في كل مرة تتصور أنك اعتدت الأمر وفهمته، ولن تصيبك الصدمة ثانية بإصابات بالغة. منذ كان المرء صغيرًا يتلقى مثل هذه الأخبار: رحل فلان بلا مقدمات. أصدقاء وأقارب وجيران، وفي كل مرة يهيأ لك أنك هضمت الفكرة، ولن تجزع ثانية بشكل كبير، ثم تأتي مرة جديدة، أحيانًا بثقل حجر ألقي فوق رأسك فجأة. وهذه المرة روّعنا حمدي أبو جليل برحيله المفاجئ. روعنا بغير مجال للمجاز في الكلمة.
عرفت حمدي أبو جليل مبكرًا في سياق عائلي، حيث كان يعمل مع والدي في سلسلة "آفاق الكتابة"، التي انتهت حكايتها مع الأزمة الشهيرة لرواية "وليمة لأعشاب البحر". لم تكن الحياة الثقافية وقتها بين اهتماماتي، ولم أكن قد تعرفت عليه أدبيًا. هو شاب يعمل مع والدي، ويحبه بجنون، وصار كأنه أحد أفراد الأسرة. يأتيني مشهد لقائه الأول في غبش لقطة، أقف فيها عند مدخل البيت وسيارة نقل صغيرة تتوقف لينزل منها مع والدي، ومعهما منضدة حاسب آلي، وقتما كانت مناضد الحاسب تقترب في حجمها من منضدة الطعام، ورأيت حمدي يحملها على كتفه بسهولة ليصعد بها الأدوار الثلاثة، واندهشت. وكنت مهتمًا في ذلك الزمن برياضة بناء العضلات، وسألت أبي عن كيف فعلها حمدي. قال: "حمدي كان بيشتغل في الفاعل، بيشيل طوب ورمل وزلط ويطلع بيها العمارات اللي بتتبني". بعد سنوات، وحين بدأت العمل في الثقافة والصحافة، سيكون "الفاعل" قد أصبح عنوان روايته الجديدة، وستكون جلسة حديث طويل حولها بداية جديدة ومختلفة لصداقتنا، اندهش كل منا برؤيته زاوية جديدة للآخر لم يكن يعرفها قبل ذلك. كان هو قد تحقق أدبيًا بشكل كبير، وكنت أخطو خطوتي الأولى باتجاه وعي جديد. أحببته ككاتب مهم، وكصديق أختلف مع معالجته لبعض أمور الحياة، ولا نلتقي سوى على حالات هستيرية من ضحك لا يتوقف.
لم تكن "الفاعل" أكثر ما أعجبني بين ما كتب، أحببت أكثر روايته الأولى "لصوص متقاعدون"، غير أن "الفاعل" كانت الرواية التي انطلق منها حمدي يشرح للعالم مفاهيمه عن الكتابة، ويدافع عنها، ذلك أنها أحدثت جدلًا في تلقيها، وأثارت سؤالًا كبيرًا حول حدود المسموح لاستخدام الواقع في العمل الروائي والمسافة بينه وبين الخيال وضرورته، ومتى تسقط عن العمل الروائي صفته الفنية. هو أحد أسئلة الكتابة الكبيرة والمعروفة تاريخيًا، غير أنه كان متجليًا في حالة "الفاعل"، وذلك نظرًا لسطوع الواقع فيها الذي سيتعرف عليه أي قارئ ببساطة بالغة. هنا بطل روائي يحمل اسم الكاتب بالكامل، ويعمل في مهنته السابقة "فواعلي"، فيما شخوص الرواية هم شخوص محيط الكاتب بدون أية تورية، والحكاية هي حكاية الكاتب التي يعرفها جميع من تابعه منذ بداياته، لا توجد أي مساحة للخيال، قالوا له إنها سيرة ذاتية واضحة، بينما كان يصر على أنها عمل روائي صرف بمفهومه عن فن الرواية، الذي لا يحتاج فيما يتصور أبو جليل إلى لجوء الكاتب لغير حياته الشخصية، بل إن تلك الحياة هي ما يحتاج لحكيه إن اعترف بـ"الاحتياج" كأحد الشروط الرئيسية لتكوين كاتب حقيقي يعاني من أجل معالجة عالمه الأصيل أدبيًا ومشاركة آخرين هذا العالم، كان يرى أنه لا يوجد تعريف وحيد للرواية، بل إنه لا يوجد ما يسمى "الرواية" في المطلق، بل هناك ما يسمى "رواية فلان".




وربما أن صدق حمدي أبو جليل في طرح مفهومه بجرأة بالغة وبإصرار هو ما ساعد، بجانب موهبته الكبيرة، في تكريسه ككاتب مهم، واسم لا يمر مرور الكرام، وإن اختلفت معه، ليس الصدق فقط في ما يخص تصوراته، لكنه الصدق في ما يخص استغراقك في عالمك من ناحية، والتأصيل لمفهومك من ناحية أخرى، ما وضع حمدي على مقعد شيخ طريقة، قد تختلف معها، لكن لا مفر من الاعتراف بأنها طريقة، ولها شيخ.
أصدر حمدي أبو جليل عددًا من الأعمال الأدبية، منها، إضافة إلى روايتي "لصوص متقاعدون" و"الفاعل"، مجموعات قصصية مثل "أسراب النمل"، و"أشياء مطوية بعناية فائقة"، و"طي الخيام"، وراوية "قيام وانهيار الصاد شين"، وكتابا "القاهرة... شوارع وحكايات"، و"القاهرة... جوامع وحكايات". ولم تكن "الفاعل" هي الرواية الوحيدة التي لعب فيها لعبة التجريب، لكنها الرواية التي أتاحت له التعبير ببراح عن مفاهيمه، ومهدت له التلقي العام، وتعامل معه المهتمون باعتباره كاتبًا مُجرِبًّا، ذلك أن الاهتمام الصحافي والنقدي بها فتح له مساحات الكلام، خصوصًا مع فوزها بجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية، وإلقائه كلمة في أثناء الاحتفال تعبر بامتياز عن حالته، تلك الكلمة التي تعاملنا معها وقتها ككلمة بروتوكولية، استعادها الأصدقاء هذه الأيام حين استيقظوا على خبر رحيله، بعدما نشرها الصديق والكاتب أسامة فاروق، فبدت أنها كلمة تاريخية لكاتب وضع بصمة لا يستهان بها في المشهد الأدبي المصري والعربي، هنا شيء منها:



شكرًا لتفهم الانحراف عن الأستاذ في جائزة الأستاذ، لا ليس الانحراف، وإنما العجز. شكرًا لتشجيع العجز، نعم العجز، وليس التجاوز، التجاوز يعني القوة، يعني القدرة الجبارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية، ثم تجاوزها ببساطة. وتطور الكتابة، كما أفهمه، يعود في جانب منه إلى الضعف، العجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة، أقصد طبعًا النماذج العظيمة السابقة. دون كيخوته ـ الإخوة كرامازوف ـ البحث عن الزمن المفقود ـ الغريب ـ الحرافيش ـ رباعيات الإسكندرية ـ نصف حياة ـ كتاب الضحك والنسيان ـ تاريخ حصار لشبونة، إلى آخره. عبر تاريخ الكتابة، هنالك أعمال حالفت الخلود، أعمال تجاوزت الزمن، ولم تؤثر في حضورها المتجدد المتغيرات الثقافية والحضارية، بل إن مرور الزمن يضاعف حضورها وقيمتها، ويكشف كوامن تفردها مثل الجواهر بالضبط. تلك الأعمال تدفع الكتابة دائما للتطور وارتياد آفاق جديدة ليس من خلال تجاوزها، ولكن من التسليم باستحالة تجاوزها، فالعجز عن الوفاء لشروطها القاسية، شروطها الجبارة، يؤدي إلى البحث عن مناطق جديدة، دائمًا أتخيل مسار الكتابة على هيئة مجرى مائي به ربوات عالية، راسخة، وعجز الماء عن المرور فوقها، أو تجاوزها، يدفعه الى مسارات جديدة تمامًا، بل أحيانًا مناقضة لمجراه القديم. العجز دافع لتطور الكتابة، لاندفاعها في مسارات جديدة".
هل كان عليّ أن أتحدث عن حمدي بجدية؟ لا أعرف إن كنت نجحت. هذه مسألة صعبة، ولم أفعلها من قبل، ولا أتصورها سهلة على أحد من أصدقائه. الرجل الذي رأيته ذات ليلة يرقص مثل طفل تعلم المشي حديثًا بينما يخلب أعين من حوله بمنحة إلهية من الحضور، والضاحك على العالم في أعلى لحظات الجدية، محولًا إياها إلى مسخرة، والطيب حد الرعب حين أغضبه أحدهم بمزاح قاسٍ جعله يتشنج ويترك الجلسة، لا يليق به الرثاء الجاد. ما هذه الحيرة التي أوقعتنا فيها يا صديقي؟ ما كل هذا الحزن والجنون؟ هكذا، وكما عاش يفصح عن كل ما يشعر به أو يفكر فيه دون الالتفات لتبعاته على الآخرين، أفصح عن موته ببساطة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.