}

"تيت مودرن": من محطة طاقة إلى متحف عالمي للفنون

لندن ــ بشير البكر 9 أكتوبر 2023
هنا/الآن "تيت مودرن": من محطة طاقة إلى متحف عالمي للفنون
معرض في تيت مودرن لفنانين أفارقة معاصرين (Getty)
يلاحظ الداخل إلى مدينة لندن بواسطة القطار إلى محطة "واترلو" على نهر التايمز، مجموعة من الأبنية المصممة على طرازات مختلفة، منها إدارات حكومية، كنائس، ومصانع، ومن بينها محطة الطاقة الكهربائية التي تم بناؤها عام 1963، وصممها السير غيل غيلبرت سكوت، صاحب تصميم كابينة الهاتف الحمراء المميزة، وذلك من أجل إنارة قسم من المدينة، واستمرت في توليد الكهرباء حتى عام 1981، حينما تم الاستغناء عنها بعد تطوير وسائل إنتاج الطاقة، وبدلًا من إزالتها جرى الاحتفاظ بها، وتشاء المصادفات أن تتحول بعد حوالي 15 عامًا من ذلك إلى صالة عرض ومتحف للفنون باسم "تيت مودرن"، التي باتت واحدة من بين أهم صالات العرض ومتاحف الفنون العالمية التي يرتادها ملايين الزوار، متجاوزة في ذلك المتحف البريطاني. وساعد على ذلك موقعها في وسط لندن في منطقة "بانك سايد"، التي تضم عددًا من دور السينما والمسارح وقاعات العرض، والأمسيات الثقافية، ومعارض الكتب، ومسرح شكسبير "غلوب"، الذي تمت إعادة بنائه على نحو جميل، ليعرض مسرحيات الكاتب.

بدأ كل شيء في القرن التاسع عشر، عندما قام هنري تيت، رجل الأعمال الثري الذي كون ثروته من تكرير السكر، بجمع أعمال لفنانين إنكليز لم يجدوا مكانهم في المعرض الوطني في لندن. وفي عام 1889، أي قبل وفاته بعشر سنوات، قرر أن يتبرع بالأعمال الفنية التي يمتلكها، ومعها 80 ألف جنيه إسترليني، من أجل بناء صالة لعرض الأعمال الفنية، أخذت اسم المعرض الوطني للفنون البريطانية، وحملت اسمه كبادرة تكريم. وفي وقت لاحق، بعد أن أصبح المكان ضيقًا للغاية، قررت الهيئة المشرفة في عام 2000 الفصل بين القديم والحديث من الأعمال الفنية، وصار لكل منهما مبنى خاص، المقتنيات القديمة تم تجميعها للعرض في قاعات تقوم على موقع سجن قديم، وتحتوي حصريًا على أعمال فنية بريطانية، بينما احتلت الأعمال الحديثة، بريطانية وعالمية، مبنى شركة الكهرباء، وهكذا ولدت Tate Modern.
لم يتم تغيير أي شيء في شكل مبنى شركة توليد الكهرباء من الخارج، بل حافظ على طرازه الهندسي وألوانه الرمادية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الداخل، الذي يتمتع بإضاءة عالية توفرها نوافذ عالية عمودية، وحصلت تعديلات داخلية من أجل تقسيم المساحات كي تتناسب مع الوظيفة الجديدة، وتم تحويل غرفة مولد الكهرباء الضخمة "قاعة توربين" إلى قاعة عرض، على ارتفاع كبير، وبذلك باتت أكبر مساحة للفن الحديث في لندن، تضم طوابقها السبعة مجموعة من أهم أعمال الفن المعاصر في العالم، عدا عن أنها نموذج ناجح لإعادة تكييف الأبنية القديمة، ومنحها حياة جديدة، جعلت منها المتحف الأشهر للفن الحديث والمعاصر بكل صرعاته. ومن أحدث الإضافات لهذه المنطقة جسر ملينيوم الذي صممه اللورد نورمان فوستر مع النحات أنتوني كارو، وبلغت تكلفته 14 مليون جنيه إسترليني، ليعمل حلقة وصل بين صالة "تيت مودرن" وكاتدرائية "سانت بول"، التي تقع على الضفة الشمالية لنهر التايمز.




قام المهندسان المعماريان اللذان فازا بالمنافسة بتصميم بسيط يقوم على إعادة بناء المبنى السابق لشركة توليد الكهرباء، بدلًا من تدميره، مما زاد من مساحة المعرض الإجمالية بنسبة 60 في المئة، وساعد على ذلك طبيعة البناء المبني من الطوب على شكل ثلاث صالات متوازية ومدخنة كبيرة وذات طاقة قوية، وتمت الاستفادة من كل هياكل ومساحات المبنى بما في ذلك غرفة التوربينات، ومن الأهداف الأساسية تقديم أفكار جذابة تناسب الابتكار والخلق في الفن، وتتماشى مع التطورات، بما في ذلك مجاراة مباني الوسط التجاري الذي يعتمد على السياحة، وحققت هذه الخلطة عناصر جاذبة في عدد الزوار الذي بلغ قبل جائحة كورونا حوالي ستة ملايين زائر سنويًا، بما يفوق عدد زوار المتحف الوطني البريطاني.

منظر عام لمبنى معرض تيت للفن الحديث في لندن (3/ 6/ 2023/ Getty)


يضم المبنى مقهًى ومتجرًا وقاعات لعرض الأعمال الكبيرة، ومجالًا لجولات الزوار، مثلما يحصل في أي ساحة أخرى. وتكشف غرف العرض الرئيسية المرتبة في ثلاثة مستويات عن تنوع كبير في المساحات. وتأتي الإنارة العلوية إلى المتحف من خلال لوحات مستطيلة تقوم بتصفية الضوء الطبيعي والأضواء الكاشفة من سقف كل غرفة. وفقًا للنظريات المشتركة مع Rémy Zaugg في مساحات العرض، حيث يتم عرض المجموعة في بيئات استبطانية مترابطة بواسطة نظام تداول يتضمن مناظر مميزة على لندن، من كل من شرفات الرصيف بالجسم الرئيسي والمراقبة في الجزء العلوي من المدخنة، يواجه معرض Tate الجديد المدينة مثل حصن يقدم الفن إلى عامة الناس.
الدخول إلى المتحف مجاني، باستثناء المعارض الخاصة التي تقام بصفة دورية. ويقصده أكثر من خمسة ملايين زائر سنويًا من المهتمين بالأعمال الفنية التي يتراوح تاريخها بين عام 1900 وحتى اليوم. ويعمل القائمون على إدارة "تيت مودرن"، وبلدية لندن، على تطوير هذا الصرح بما يناسب لندن مدينة ثقافية عالمية مفتوحة، ويسعون من خلال الأنشطة والفعاليات والمعارض، ليس لاستقبال أكبر عدد من الزوار فقط، وإنما الانفتاح على الأفكار والأشكال والمضامين الجديدة من شتى أنحاء العالم، وفي ذلك رسالة إلى الساسة الذين قادوا عملية إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لفصلها عن قلب العالم. ويلاحظ الزائر أن هنالك كثيرًا من الأعمال من أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأميركا الجنوبية، مع ما يقرب من 75 في المئة من الأعمال المعروضة يعود تاريخ إنتاجها إلى ما بعد عام 2000، ونجد أن أعمال بعض الفنانين الكبار، مثل بيكاسو، وماتيس، تعرض في الجناح القديم. وتضم "تيت مودرن" بعض الأعمال الفنية من القرن العشرين، بالإضافة إلى أساليب جديدة للفن من باريس، نيويورك، وعوالم أخرى، مثل ساو باولو، زغرب، وطوكيو، وذلك إلى جوار التصوير الفوتوغرافي والفن التفاعلي، وتتوزع المعارض الدائمة، أو المؤقتة، على سبعة طوابق، يتم تنظيمها حسب الموضوع: الإيماءات المادية، الشعر، الحلم، النماذج المفاهيمية، فكرة، كائن، وحالة التدفق.




غير أن هذا النجاح اصطدم بدعاوى من عدد من سكان المنطقة الذين يسكنون شققًا تطل على النهر، وتبلغ قيمة كل منها ملايين عدة من الجنيهات. فمنذ أعوام، تشهد المحكمة العليا في لندن دعاوى قضائية من طرف ساكني أربع شقق تحت بند الخصوصية، وادعوا أن زوار القاعات العليا من المتحف يستطيعون مشاهدة تفاصيل حياتهم من خلال الجدران الزجاجية للشقق. تمت إثارة الدعوى عام 2016، بعد أن استحدثت الصالة منصة بانورامية في الطابق العلوي، تمنح الزوار إطلالات واضحة إلى داخل بعض الشقق. وتطالب الشكوى المحكمة العليا باستصدار أمر قضائي يطالب "تيت مودرن" بمنع الزوار من مشاهدة شققهم، والتي قال أحد أصحابها إنهم "مراقبون باستمرار".
في عام 2019، رفض قاضي المحكمة العليا القضية، واقترح على السكان خفض الستائر، أو تركيب ستائر شبكية. كما خسروا الاستئناف في العام التالي. ولكن في العام الحالي، ألغت المحكمة العليا تلك القرارات بأغلبية 3 ـ 2، وأعادت القضية إلى المحكمة العليا لتحديد ما إذا كان ينبغي إصدار أمر قضائي، أو ما إذا كان يجب على المدعين تلقي أي تعويضات من "تيت مودرن". وفي حكم المحكمة المكتوب، قال القاضي "لا يجوز إلزام المدعين بالعيش خلف ستائر شبكية، وستائرهم مسحوبة طوال اليوم لحماية أنفسهم من عواقب التطفل الناجم عن الاستخدام غير الطبيعي الذي تقوم به شركة تيت مودرن". وأضاف أن الشقق كانت "تحت المراقبة المستمرة" من المنصة التي تستقطب مئات الآلاف من الزوار كل عام، بعضهم يلتقط صورًا وينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. وقال القاضي "ليس من الصعب أن نتخيّل مدى القمع في مثل هذه الظروف لأي شخص عادي، يشبه إلى حد كبير الظهور في حديقة حيوان".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.