}

مديحة دوس وإمام عبدالفتاح: رحيل لم يلفت انتباه القاهرة

هشام أصلان 22 يونيو 2019
هنا/الآن مديحة دوس وإمام عبدالفتاح: رحيل لم يلفت انتباه القاهرة
مديحة دوس وإمام عبد الفتاح
مات الرئيس المعزول محمد مرسي في مشهد شديد الدرامية أثناء محاكمته، فور أن أنهى كلمة طلب أن يقولها من المحكمة. وكان طبيعياً أن يشغل رحيله، خصوصاً بهذه الطريقة، الرأي العام العالمي وليس المصري فقط. وعاشت صفحات التواصل الاجتماعي ساعات أصابها الغليان الحاد في المناقشات بين داعين للترحم عليه من ناحية ويتكئ جزء كبير منهم على ما يقال حول عدم توفير الرعاية الصحية وظروف السجن الآدمي للمسجونين السياسيين، وبين من رأوا أنه "محض إرهابي" لا يستحق الترحم من ناحية أخرى.
في هذا السياق المشتعل، لم يلتفت كثيرون إلى رحيل شخصيتين ثقافيتين مصريتين بارزتين، هما المناضلة المعروفة وأستاذة اللغويات والأدب الفرنسي في جامعة القاهرة مديحة دوس، وأستاذ الفلسفة والعلوم الإنسانية إمام عبد الفتاح، الذي على قيمته الأدبية الكبيرة، عاش هادئاً بعيداً تماماً عن الأضواء، ورحل في شكل مشابه للحياة التي اختارها. واقتصر نعيهما على الأصدقاء، ومرت إجراءات دفنهما مُستحية تلائم ما نعيش من لحظة غرائبية.

مديحة الشابة دائماً
ومديحة دوس، فضلاً عن موقفها السياسي المرافق لثورة 25 يناير، وكونها ابنة شريحة من المناضلين يعتبرون مربين شرعيين لأبناء هذه الثورة، لا تقف أهميتها الأدبية عند حدود القاعات الأكاديمية. تستطيع وصفها مرتاحاً بأنها كانت من المحظوظين بشباب فكري دائم، ما ظهر في اشتباكها المهم في عدد من الجدليات القريبة حول مسألة الكتابة باللغة العامية، كان أقربها ما أثير بعد فوز رواية "المولودة" للكاتبة المصرية نادية كامل بجائزة ساويرس للرواية "فرع كبار الكتاب"، حيث الرواية كُتبت بالعامية المصرية، واعترض كثيرون على قرار لجنة التحكيم. وهو نوع من المعارك الفكرية، الذي لا يزال حتى الآن في منطقة الخبط في التابو، وهي منطقة لمديحة دوس مساهمة مهمة فيها عبر كتابها المعروف "العامية المصرية المكتوبة"، الذي أنجزته بالتعاون مع المستشرق البريطاني همفري ديفيز.
استعادت دوس في هذه الجدلية تجارب مهمة صدرت باللغة العامية المصرية، مثل "مذكرات طالب بعثة" للويس عوض، الذي كتبه عام 1947 ورفضت الهيئة العامة للكتاب نشره،

ليصدر في الستينيات، و "حضن العمر" الذي هو مذكرات فتحية العسال، المكتوبة بالعامية ومنشورة عن إصدارات الهيئة العامة للكتاب نفسها عام 2003، متسائلة عما حدث بين العامين 1947 و2003، هذا التطور على خط الزمن الذي لو أُخذ في الاعتبار يكون طبيعياً أن يتم التعامل مع "المولودة" بوصفها رواية تستحق المنافسة على الجائزة من دون هذه الضجة، مقاومة فكرة أن "العامية فقيرة في التعبير ولا تصلح للكتابة الأدبية". وهي تقول ضمن محاضرة طويلة نُشرت تغطيتها بالعامية: رواية (المولودة) هي رد كاف على الحجة دي، لأن اللغة ثرية، عبرت عن مشاعر ومواقف كتير، بالتالي مش شايفة حكاية إن العامية لغة فقيرة بتيجي منين".
هكذا انتمت مديحة دوس إلى نوع من مثقفين تأهل للحضور الكبير بين أجيال جديدة وجدت عند أشباهها ما تستند إليه في معاركها لكسر التابوهات.

إمام فيلسوف الديمقراطية
فضلاً عن كونه أبرز تلاميذ الفيلسوف الكبير زكي نجيب محمود، وإسهامه المهم بالإشراف على سلسلة "أقدم لك" في المجلس الأعلى للثقافة، التي صدرت منها عشرات الأعمال الفلسفية المهمة، يعني المفكر وأستاذ الفلسفة إمام عبد الفتاح عدداً من المؤلفات والترجمات الموسوعية، منها أجزاء من "موسوعة كوبلستون" في تاريخ الفلسفة الغربية، غير أن علاقته بتجربة الفيلسوف الألماني هيجل تُعد العمود الفقري في تاريخه الفكري الفلسفي، وهي علاقة بدأت برسالته للماجستير المُعنونة بـ"المنهج الجدلي عند هيجل" ثم رسالة الدكتوراه "تطور الجدل

بعد هيجل"، قبل أن يستكمل مشواره في هذه المنطقة بعدد من الدراسات الكبيرة والترجمات التي نقل فيها عدداً من مؤلفات هيجل نفسه إلى العربية، وهي تجربة وصفها هو بأنها مريرة وممتعة في آن واحد: "شرعت أقرأ في نصوص هيجل عامين من دون أن أفهم شيئاً، فلجأت إلى التفسيرات والشروح لكني لم أتقدم خطوة واحدة. ولم تكن صعوبة الفهم راجعة إلى وعورة المصطلحات، وهي وعرة فعلاً، ولا صعوبة الفلسفة الهيجلية وهي صعبة فعلاً، ولا إلى اللغات وكنت أقر بها فحسب. وإنما كانت تعود إلى عامل لم أتبينه بوضوح إلا بعد فترة طويلة، وهو أنني أقدمت على قراءة هذا الفيلسوف بعقلية أرسطية. بمعنى أنني كنت أفهم جميع المصطلحات الفلسفية التي استخدمها هيجل على نحو ما فهمها المعلم الأول".
يستهل إمام عبد الفتاح أحد أهم مؤلفاته، وهو "الطاغية.. دراسة فلسفية لصور الاستبداد"، بإهداء دال جاء فيه: "إلى الذين يعانون من ظلم الطغيان ووطأة الاستبداد ويتوقون إلى الخلاص". وهو إهداء ربما يجيب على أسئلة طبيعية حول فقر التغطية الإعلامية لرحيله في مصر، واكتفائها بسطور قليلة تشبه ما تقدمه "ويكيبيديا" حول الرجل الذي رأى بداهة لا تحتاج إلى اجتهاد كبير في الربط بين سلوك المواطن وما يعيش فيه من حدود للديمقراطية التي يرى لها سلبيات لا تُعالج إلا بـ"مزيد من الديمقراطية"، وكيف أن هذا السلوك البشري، بغض النظر عن شكله، يأتي في تبعات النظام السياسي المعمول به وليس العكس.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.