}

ميلان كونديرا.. العودة إلى الأصل

نجيب مبارك 7 ديسمبر 2019
هنا/الآن ميلان كونديرا.. العودة إلى الأصل
"علاقته طويلة ومتذبذبة بين الحب والكراهية تجاه بلده الأصلي"
منذ يوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، لن يوصف ميلان كونديرا باعتباره كاتباً فرنسياً من أصول تشيكية فقط، وإنّما سيكون من الواجب والضروري وصفه بالكاتب التشيكي أيضاً، لأنّه عاد مواطناً تشيكياً من جديد بعد أن قرّرت الحكومة التشيكية تمكينه من جنسيته الأصلية التي فَقَدها منذ أربعين عاماً.
احتفال مدني بسيط
"بعد أربعين عاماً، يحصل ميلان كونديرا على جنسيتنا مرّة أخرى"- هذا هو العنوان الرئيسي الذي اختارته صحيفة "برافو" التشيكية في عددها ليوم الثلاثاء 3 ديسمبر/ كانون الأول، وهي اليومية اليسارية الوحيدة التي وضعت على صفحتها الأولى صورة قديمة للمؤلف، وتحتها مقابلة مع السفير التشيكي في باريس، الّذي منح كونديرا شهادة تضفي الطابع الرسمي على استرداد الجنسية، لكن الخبر سرعان ما انتشر على نطاق واسع بين جميع وسائل الإعلام في براغ. وقد علّق الدبلوماسي التشيكي بعد تسليمه الوثيقة: "إنّها لفتة رمزية مهمّة للغاية، وهي جبر للضّرر وتعويض عن الظّلم الذي ارتكبه النظام الشيوعي السابق تجاه أفضل كاتب تشيكي".
وقام السفير بتسليم الوثيقة في احتفال مدني بسيط، في شقّة الكاتب، من دون وجود العلم التشيكي أو عزف النشيد الوطني، واعتذر له نيابة عن الجمهورية التشيكية عن "الهجمات التي تعرّض لها لسنوات". ولم تحضر الحفل سوى زوجة الروائي فيرا. وجرت الأمور في جوّ من البساطة والود: "لقد كان في مزاج جيّد، تسلّم الوثيقة وقال: شكراً لك"، حسب تعليق السفير.
 ويأتي استرجاع هذه الجنسية إثر مقابلة أجريت مؤخراً مع زوجته فيرا كونديرا (المولودة في براغ عام 1935)، من قبل المجلة الأدبية الشهرية "هوست". وفي هذه المقابلة غير المسبوقة، قالت زوجة الكاتب (هي التي لا تتحدّث مطلقاً في وسائل الإعلام التشيكية) إنّ "الهجرة هي أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الشخص في حياته"، موضّحة أنّ "العودة إلى البلد الأصلي بعد ثورة 1989 لم يكن ممكناً بسبب المنشقّين الّذين كانوا يكرهون زوجي". لكنّها اعترفت أيضاً بأنّها اكتشفت على نحو غير متوقّع، خلال قيامها ببعض الإجراءات الإدارية، أنّها لم تكن فاقدة للجنسية التشيكية، بعكس ما وقع لزوجها في عام 1979.
وصرّح سفير الجمهورية التشيكية في فرنسا بيتر درولاك للإذاعة العامة التشيكية بأنّه سلّم كونديرا شهادة الاعتراف به كمواطن يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني في شقّته بباريس. لكن التحضير لاسترداد الجنسية كان قد جرى منذ عام تقريباً، حين التقى رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس مع كونديرا في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 في باريس وعرض عليه الحصول من جديد على جنسية بلده الأصلي، باعتباره الروائي التشيكي الأكثر شعبية منذ فرانز كافكا، بالرغم من العلاقة المتوتّرة التي ربطته على الدوام ببلده الأصلي، حتى بعد سقوط النظام الشيوعي وعودة الديمقراطية إلى البلاد، إلى حدّ اعتمد اللغة الفرنسية وسيلة للتعبير الأدبي ورفض مشاريع الترجمات التشيكية لأعماله.
 
 
كاتب غير مرئي
كان كونديرا، البالغ من العمر 90 عاماً، قد اختار المنفى في فرنسا عام 1975، بعد قبول طلبه التدريس في جامعة رين، وتمّ تجديد تأشيرته مرّتين بعد ذلك. لكن في عام 1979، بعد نشره لمقاطع من "كتاب الضحك والنسيان" في مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور"، وإجرائه لحوار مع صحيفة "لوموند"، قامت السلطات التشيكية بتجريده من الجنسية. ومباشرة بعد وصول فرانسوا ميتران إلى الرئاسة في فرنسا، وتعيين جاك لانغ وزيراً للثقافة، سوف يحصل كونديرا على الجنسية الفرنسية في يوليو/تموز 1981، ثمّ سينتقل إلى الكتابة بالفرنسية منذ عام 1994 إلى اليوم. وبعد "الثورة المخملية" (أو الناعمة) في عام 1989، وهي ثورة سلمية قادها الطلاب والمتظاهرون ضدّ حكم الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، تمكّن العديد من التشيك، الذين فقدوا جنسيتهم نتيجة "انقلاب براغ" عام 1968، من استعادة جنسيتهم من جديد. ولم تكن هذه هي الحال مع ميلان كونديرا، الّذي شعر أنّه ليس مضطرّاً إلى القيام بالإجراءات الإدارية للحصول على جنسية تمّ سحبها منه بشكل تعسّفي.
 وخلال الثلاثين عاماً الماضية، أصبح كونديرا كاتباً غير مرئي تقريباً، ولا يُجري مطلقاً الحوارات الصحافية ولا يظهر في وسائل الإعلام، ولا يُشاهد كثيراً في الأماكن العامة. وخلال اندلاع أحداث "ربيع براغ" في 1968، كان أحد ممثّلي المعارضة للنظام التشيكوسلوفاكي الموالي للسوفييت، وهو النظام الذي سيقوم بطرده لاحقاً من الحزب الشيوعي ويحظر عليه النشر في المنابر المحلية. وقد نال هجاؤه للشيوعية الستالينية، من خلال روايته "المزحة"، اعترافاً أدبياً في بلاده، ولكن مع نهاية فترة الانفتاح المؤقتة، وإعادة تنصيب حكومة جديدة موالية للاتحاد السوفييتي، سوف يتمّ التضييق عليه من جديد ومهاجمة كتاباته. في هذه الفترة، سيخرج كونديرا إلى منفاه الفرنسي، وهناك سيكتب أشهر أعماله باللغة التشيكية "كتاب الضحك والنسيان"، "خفة الكائن التي لا تحتمل" و"الخلود" وغيرها.
علاقة حب وكراهية
رغم ما حقّقته روايته الشهيرة "خفة الكائن التي لا تحتمل" (1984) من نجاح تجاري كبير، وهي تحكي عن ثلاثة عشاق يمثّلون عدّة أجيال تشيكية، ويتأمّلون معنى الحياة والعودة الأبدية، لم يكتب لهذه الرواية أن تُنشر في جمهورية التشيك إلّا في عام 2006. وقد رفض كونديرا الكثير من دعوات السفر بلاده، الّتي لم يزرها منذ حوالي 25 عاماً، كما أنّه لم يحضر تسليم جائزة الأدب الوطني في عام 2007، وهو ما اعتبره البعض في بلاده تصرّفاً متعجرفاً. وعموماً، فإنّ كونديرا على الرغم من ابتعاده الطويل عن بلاده، إلّا أن ماضيه التشيكي ظلّ يطارده حتى اليوم، إذ اتّهمه المعهد التشيكي لدراسة الأنظمة الاستبدادية (USTRCR) في عام 2008 بالوشاية بأحد أصدقائه عام 1950، الذي كان جاسوساً انتهى به المطاف في السجن لمدة 14 عاماً، وآنذاك كان كونديرا يبلغ العشرين من عمره تقريباً. لكن الكاتب سرعان ما خرج عن صمته المعتاد وعلّق على هذه الاتهامات -عن طريق بيان- واصفاً إيّاها بأنّها عبارة عن "كذب خالص"، لأنّ المحضر الذي يثبت الوشاية لم يكن يحمل توقيعه.
قد ينهي استرجاع الجنسية التشيكية بالنسبة لكونديرا، هو الذي احتفل بعيد ميلاده التسعين في الأوّل من أبريل/نيسان الماضي، علاقة طويلة ومتذبذبة بين الحب والكراهية تجاه بلده الأصلي، بينما يأمل مواطنوه في المستقبل القريب أن يتمكّنوا من قراءة ترجمة لرواياته المكتوبة باللغة الفرنسية أثناء نفيه، وهي روايات متاحة بكلّ لغات العالم باستثناء اللّغة التشيكية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.