}

الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحوّل الديمقراطي(5)

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 12 ديسمبر 2019
هنا/الآن الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحوّل الديمقراطي(5)
"تميز حراك 2019 بالوعي الجديد في صفوف المتظاهرين"
نتابع ملفا فتحناه في "ضفة ثالثة" نتناول فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية. ألسنا مجدداً أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ هل بلورت تلك الموجات التي لا تزال بدون رأس سياسي ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟

توجهنا بهذا التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب، باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في طرح آرائهم تعميقاً لفهم الموضوع، وتعزيزاً للنقاش المستمر حوله. هنا الجزء الخامس من الملف:


شفيق ناظم الغبرا (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت):
حراك 2019 يتميّز بالوعي الجديد
تتدفق الأخبار عبر الكيان العربي المشتت بين دول بعضها صغير وبعضها كبير، لكنها تتساوى بشكل أو بآخر بمحن عدة. فهي تتميز، وإن بدرجات مختلفة، بضعف المؤسسات وانعدام الحريات، وغلق المساحات العامة في ظل معاقبة من يجرؤ على فتحها.
حالة العرب هي الأغرب في العصر الحديث: شعوب محاصرة من قبل أنظمتها، دول هشّة من الداخل والخارج، بينما تخضع بطرق مختلفة للإرادات الإقليمية والدولية المختلفة. لقد سقط العرب في الامتحان الإنساني والحضاري، لكنهم لم ينهزموا، فما زالت فيهم روح مقاومة وروح صعود. ومن هنا تنبع القيمة التاريخية الكبرى لثورات 2011 ثم للحراكات الثورية المندلعة في 2019. والأوضح في حراكات وثورات 2019 أنها وقعت في مجتمعات عربية لم يشملها الربيع العربي الأول في 2011.   
عند السؤال بماذا تختلف ثورات 2011 عن 2019، تبدو ظاهرة الفساد والحكم الرشيد في المقدمة، بل وفي المقدمة قضايا الاقتصاد والبطالة والفساد والكهرباء والمياه الملوث والغلاء وسقوط العملة وازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء. لكن الجزائر تحركت بفضل قضية سياسية، هي دورة جديدة لحكم الرئيس بوتفليقة، الذي لم يعد يقوى على القيام بأي واجب تجاه الشعب.  إن ثورات وحراكات 2019 أدخلت، ومن الباب الواسع، كتلاً اجتماعية مهمشة من فقراء المدن إلى الحياة السياسية. ففي 2011 لعبت الطبقات الوسطى، كما وطلاب الجامعات، والخريجون الجدد، والمثقفون، دورا كبيرا، لكن في حراكات 2019 اختلف الدور بسبب خروج أكثر الفئات تهميشا نحو المساحات العامة. وقد تبين في الحراكات الجديدة صعود دور المرأة، فهي حاضرة بصورة غير مسبوقة. وفي هذا يمثل لبنان نموذجاً صارخا.
لكن الحراكات العربية في 2019 سرعان ما توجهت ضد كل النخب الحاكمة في السلطة، وشعاراتها شملت كل المتورطين. كما تميزت الحراكات بالوعي بأن سقوط الرئيس (بوتفليقة في الجزائر، والبشير في السودان) أو فئة صغيرة من القادة في النظام لا يعني تحقيق المطالب. بذل الجهد في المرحلة التي تلي الانفجار الأول هو المسؤولية الأكبر التي تواجهها حراكات 2019، ويبدو أن بعض الوضوح ينير طريق تلك الحراكات.


في 2019، يحمل التغير نفسا براغماتيا. فالمتظاهرون لا يسعون للسلطة أو لأخذ دور في الدولة، بل يبحثون عما يجعلهم قوة ضغط، ولوبيا شعبيا كبيرا على الطبقة الحاكمة وقراراتها. مثلا في لبنان، يتميز الواقع اللبناني بوجود جيش وطني لبناني يجمع عليه اللبنانيون، وجيش لحزب الله محط إجماع من نمط آخر، خاصة إن ركز بصورة أكبر على حماية الجنوب وعدم التدخل في المعادلات الداخلية.  ومع ذلك يسعى التيار الشعبي للضغط على الدولة برمتها وكل النخب لتغير النهج.
وبينما يسجل التاريخ أن ثورات 2011 كانت سلمية، وأن سورية وليبيا تعسكرتا بفضل دموية النظامين، فإن ثورات 2019 أكثر التزاما بالسلمية، وأكثر وعيا بطرق الحفاظ عليها.  الرصاص المنهمر على المتظاهرين في العراق، وفي حالات في السودان، والقمع الذي واجه متظاهري بيروت والجزائر، لم يتم التعامل معه من قبل المتظاهرين إلا بالسلمية الحقيقية. وبنفس الوقت، يتردد المتظاهرون في إبراز قادة جدد، وذلك خوفا من مصادرة مطالب التغير أو قتل القادة. هكذا تبدو معظم الحراكات بلا رأس وبلا قيادات. مع ذلك، تمهد دورة الربيع العربي الثانية 2019 لبروز نمط جديد من القادة الميدانيين، ونمط جديد من الأحزاب اللاطائفية، وغير المنحازة لأقليات أو أغلبيات أو قوميات مختلفة ضمن المشهد الوطني.
لقد تميز حراك 2019 بالوعي الجديد في صفوف المتظاهرين الذي ينطلق من أهمية استيعاب كل الفئات والطوائف والقبائل. لهذا بالتحديد لا نجد الاسلام الشيعي أو السني، السياسيين في قيادة الحراكات، ولا نجد سيطرة للقوى الحزبية العربية التقليدية. إن السعي لبناء هوية إنسانية جامعة لكل الفئات التي يتشكل منها المجتمع يميز هذه الحراكات، فهناك حالة مواطنة صاعدة في 2019. العربي يريد أن يكون مواطنا صالحا في بلد يتفاعل مع تأمين مطالبه وحماية حقوقه الإنسانية كاملة، في بلد يستطيع اختيار قادته وعزلهم.
في حراكات 2019 ترتفع نسب الوعي حول ضرورة الحد من دور الجيوش في السياسة كما هو الوضع والموقف في السودان والجزائر، وهذا تغير هام مقارنة بمرحلة 2011، إن الوعي بدور الجيوش ومخاطر سيطرتها على السلطة السياسية والاقتصادية، يستمد زخمه من دور الجيش المصري منذ انقلاب 2013. إن دفع الجيوش للعودة لثكناتها ليس من وحي الخيال، بل أصبح أمرا مرتبطا بحراك قائم في عدة بلدان عربية.
سيكون التحدي الأكبر في المرحلة القادمة إمكانية نجاح نموذج واحد للتغير الديمقراطي في نظام عربي عسكري، كما أن نجاح رحلة تغير وإصلاح تنتهي بحكومة مساءلة فعلا، وتستمد سلطتها من الشعب في دولة جمهورية أم ملكية، سيشكل سابقة في مشهد التغير المستمر. سنستقبل عام 2020 في ظل حراكات مرشحة لمراكمة التجربة في ظل فرص الانتشار نحو مجتمعات عربية أخرى.

جنى الدهيبي (كاتبة وصحافية لبنانية):
"الرّبيع العربيّ" لم يلفظ أنفاسه
يُشارف العام 2019 على طيّ صفحته، لنستقبل العام 2020 شاهداً على ولادة موجةٍ ثانيةٍ من موجات "الربيع العربي". وما بين ثورات 2010 وثورات 2019، عايشت الشعوب العربية تسع سنوات من التّوق إلى الحريّة والكرامة، وكانت سنواتٌ عجاف مليئة بالخذلان والموت والقهر والدّم. ومع ذلك، لم تنطفئ شرارة "الربيع" ولم يصبح "خريفاً"، رغم كلّ المآسي، كما أرادته الأنظمة الحاكمة لهذه الشعوب.
قد يكون ما أفرزته الانتفاضات الشعبية التي اندلعت منذ العام 2010، في تونس وسورية وليبيا واليمن ومصر، جزءاً لا يتجزأ من مشهديات الانتفاضات الشعبية التي بدأت عدواها تتنقل هذا العام كالنار في الهشيم بين العراق ولبنان والجزائر. ثمّة ما يجزم أنّ "الرّبيع العربيّ" لم يلفظ أنفاسه، وإنّما هو روحٌ تتجدد وتحيا في كلّ مرّة تُضرب نحوه سهام ورصاصات السلطات وحاشيتها وأتباعها، من أجل قتله والقضاء عليه شيطنةً وفتنةً وتخويناً.

هي لحظات تاريخيّة مجيدة نعيشها، بين لبنان والعراق، لتقاطع الأحداث وتشابهها، مع اختلاف الظروف والتركيبة النظامية في البلدين. وبينما تعلو فيهما أصوات شعبيّة ضدّ الطائفية والمناطقية ومنطق المحاصصات والفساد المستشري في قطاعات الدولتين ومفاصلهما العميقة، فأكثر ما يشدّ الأنظار في ساحات هذين البلدين، هي ثورة شبابية غير معهودة، هزّت عروش الأحزاب وكسرت قدسية الزعامات في طريق سحق رمزياتها "المُألهة".
وواقع الحال، هو أنّ هذه الثورات يديرها ويشعل فتيلها، شباب وشابات جيل التسعينيات، وحتّى أوائل الألفين. هذا الجيل العصري، لم يستطع أن يسجل دوراً تشاركياً فعالاً في الموجة الأولى من ثورات "الربيع العربي"، لصغر سنّه حينها ربما، أو لأنّه كان مسحوقاً ومهمشاً من أجيالٍ سبقته، لا تتوانى عن إطلاق الاتهامات "التنمرية" بحقّه جزافاً، على أنّه "جيل البابجي" (نسبة للعبة بابجي الإلكترونية) و"جيل الإنترنت والسناب شات"، وأنّه جيل خمولٌ وكسولٌ لا يقرأ ولا يتابع ما يدور حوله، ويمضي وقته بأسخف الأمور وأقلّها منفعة. لكنّ اندلاع شرارة الموجة الثانية من الثورات العربية، جاء فرصةً ذهبيةً لهذا الجيل، لكي يقلب الطاولة على النظام والسلطة بأدواته ووسائله، وحتّى ينتقم من ادعاءات أجيالٍ سبقته، آباءً وأمهات وأجداداً، وحتّى ينتقم أيضاً لأحلامه ومستقبله في بلادٍ كان يعيش فيها غريباً ومنسلخاً عن انتماءات لا تشبهه، قبل أن يعلنها ثورةً ليستردّ هذه البلاد، وكلّ ما سُلب منه قسراً.
هذا الجيل الذي كسر كلّ الحواجز وتخطّاها عبر الشبكة العنكبوتية، لم يعد يستوعب موروثات كان يتلقاها حشوا، وتدفع به للتقوقع تحت لواء الحزب والطائفة والمنطقة، فتمرد على كلّ هذه العصبيات التي لم تجلب لأجيالٍ سبقته سوى الخراب والحروب. في الشكل، هي ثورات مطلبية وحقوقية ضدّ الفساد والمفسدين، من أجل لقمة العيش والطبابة والتعليم والحصول على أدنى مقومات العيش الكريم. لكنّها في المضمون، هي ثورات يقودها جيل جديد على الأنظمة في عمقها، وتعبّد الطريق لإعادة انتاج منظومةٍ سياسية واجتماعية وثقافية، تكون عابرةً للطوائف والمناطق، وتقف على طرفيّ نقيضٍ مع منظوماتٍ سبقتها.
يُدرك الثائرون والثائرات في الساحات العربية، أنّ مشوار الثورة بموجتها الثانية محفوف بالدّم والألغام والمخاطر، وأنّ إزالة النظام الطائفي لصناعة تيارٍ مدني لا طائفي، ليست مهمةً سهلة يمكن إنجازها بين ليلةٍ وضحاها. دفع الفاتورة في هذا المشوار، لهو أمر حتمي، وقد يكون الثمن باهظاً. ومع ذلك، كانت أدوات هذا الجيل الثائر وأساليب تعبيره الثورية فتنةً ودهشةً للنظر والعدسات التي توثّقها، وهو يواجه في الشارع سلطات هرمة وعجوز ومترهلة، لا تعرف غير البطش في قمعها، بالشعارات الحداثية والألوان والفنّ والموسيقى، وعبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي بالفيديوهات والصور. أمّا ما يميزها، فهي أنّها ثورات بلا رأسٍ يقودها، جعلت سلطات الأنظمة حائرةً بخصمها، ولا تجد سبيلاً لمواجهته سوى بالقتل والاعتقالات والتخوين والتشكيك واختلاق سيناريوهات مزيفة سعياً لتبرئة ذمتها.

هذا الجيل الذي يقود ثورته، وتجاريه أجيال سبقته، يطمح لبناء دول أقلّ طائفية وديكتاتورية، وأكثر ديمقراطية وعدالة اجتماعية. لذا، نجد أنّ أبناء هذه الثورات، قد يميلون إلى استيعاب الدروس المستفادة من الثورات العربية السابقة، ويتفادون أخطاءها بالوقوع في مستنقع الهويات والانتماءات، دفاعاً عن هويتهم الوطنية الجامعة والموحدة. ولأنّها ثورة اتصالات أيضاً كسرت الحواجز واستبدلتها بجسورٍ وأوصالٍ بين الدول، نجد أنّ الساحات في العراق والجزائر ولبنان، تتوحد تحت مطلب واحد، وهو إنجاز تغيير جذري بالطبقة الحاكمة، وتحقيق تحوّل ملموس، عبر تفعيل الديمقراطية بانتخابات برلمانية تصدر نتائجها من الشعب خارج أيّ قيدٍ طائفي أو مذهبي أو مناطقي. فهل يتحقق هذا الحلم الذي أرادته الأنظمة مستحيلاً؟


علي سفر (شاعر وصحافي سوري):
نؤمن أن الثورات حياة لا تنتهي
الثورات، وكما تشرح المادية التاريخية في النظرية الماركسية، لا تحدث بسبب نزعة يمتلكها فرد أو مجموعة بشرية، بل تتفجر وطبقاً لقوانين الديالكتيك من بؤرة التناقضات الاجتماعية، حيث يؤدي صراع المكونات المجتمعية إلى ما يعرف بنفي النفي. فكل مرحلة تنفي بالضرورة ما سبقها، وأي اجتماع مؤقت بين مرحلتين لا بد أن تحتشد فيه قوة التناقض ما يجعل إمكانية الوفاق والهدوء مستحيلة الاستمرار!
التحليل الماركسي هنا ما زال صالحاً، وهذا ليس مديحا للنظرية، بل إقرار بأن وعي الجدل المادي وكذلك التاريخي، يجعلنا نفسّر لمن لا يريدون أن يعوا أنهم في مرحلة تغيير كبرى: لماذا لم ولن يتوقف الربيع العربي، ولماذا كنا حين انتمينا إليه، إنما ننتمي لقوة المستقبل، وليس لقوة الماضي المتقهقر؟
منذ بدأت ثورات بعض الشعوب العربية في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وصولاً إلى ثورات شعوب أخرى تفجرت في نهاية هذ العقد، كنا نسجل في الروزنامة أو المفكرة الزمنية ذروتي مخاض طويل، قوامهما الصراع بين أنظمة ذات تكوين هجين مائع يجمع بنى اشتراكية مشوهة مع برجوازية بيروقراطية، وكذلك أخرى طفيلية، مع أحزاب ملحقة بها، وبين ثائرين وجدوا أنفسهم وحيدين وعزلاً في مواجهة كارثة كبرى هي تحالف الأنظمة ومعارضاتها التقليدية والتيارات الإسلامية الجهادية من بينها، لقد عاشت مكونات هذا الحلف مع بعضها وتغذت بذات الغذاء من خلال حبل سرتهما المشترك، وقادت البلاد والعباد إلى مستويات غير مسبوقة من الفساد والتخلف، ما جعلها تتشابه وتتحالف في مواجهة الثورات الطافحة بعنفوان شبابي غير قابل للمهادنة، الأمر الذي أدى في المحصلة إلى وقوع فرز حادٍ بين الفئات المجتمعية بشكل عام، فإما أن تقف مع الأنظمة التي باتت عنواناً للقمع والفساد، وكذلك المنظمات المتطرفة التي صارت صورة للتخلف وللعنف، وإما أن تنتمي للثورات التي قامت من أجل نفي الماضي واكتساب المستقبل! وضمن هذا المسار كنا وما زلنا نتحدث في نقاشاتنا المستمرة عن تحالف بين عدوين للثورة ضدها، وضد شبابها، وضد وجهها الساطع المنير!
بين الذروتين السابقتين، سيكون المخاض مؤلماً ومرعباً في دمويته وفي أثمانه الكبرى، إذ إن تحالف القمع والفساد والتخلف والعنف ضد الثورات النقية سيجد دعماً لا محدوداً من دول خليجية محددة، ومن تيارات في دول أخرى بالغت في براغماتيتها أثناء تدخلها في السياقات المحلية للثورات، وسيصطلح على هذا الدعم والتدخل بتسمية لائقة هي "الثورات المضادة"!
وكذلك سيجد دعماً غير قليل، وليس بسهل المواجهة، نتج عن تعقدات الصراعات الجيوسياسية في المنطقة أدى إلى تدخل قوى إقليمية كبرى، نقلت تناقضاتها فيما بينها إلى المساحات الداخلية للبلدان التي قامت فيها الثورات، فصارت بعض قوى الثورات أدوات بيد بعض هذه الدول، وصارت بعض الأنظمة واجهات لسيطرة دول أخرى كإيران وروسيا، مع دعم إسرائيلي لم يخف على أحد لبقاء هذا النظام أو ذاك.

ولعل الجميع يعرف أن الثمن الدموي الذي دفعته الثورة السورية، أريد به أن يكون المثال المفجع لما يمكن أن يلحق بمن يرفضون الانصياع، ولكن فات من يديرون هذه المقتلة أن الثورات ليست قراراً شخصياً لهذا الفرد أو ذاك، أو لهذه المجموعة البشرية أو تلك، إنها ثورات لا حزبية، فهي غير مرتبطة بالأيديولوجيا، كما أنها وقبل أي شيء عفوية في إطارها العام وليست مؤامرات ضد الأنظمة خطط لها ذات ليل كما يعتقد مؤيدوها. وهي قابلة للتجدد والاستمرار بشكل دائم، طالما أنها تكونت إجرائياً في مساحات شبكات التواصل الاجتماعي، فصارت منفتحة على آفاق حضارية مختلفة، وعلى تجارب عالمية في التغيير أدت إلى نمو المجتمعات وتغير بناها الاقتصادية والذهاب نحو رفاه الفرد، مروراً بتداولية السلطة والتحولات الديموقراطية التي تغير بنى مؤسساتها.
ومع كل ما سبق، يمكن العودة إلى بداية الفرضية ونقضها، فنحن لسنا أمام موجتين، بل نحن أمام واحدة، نلمح لها ذرى متعددة، تمتد على مساحات زمنية لا يمكن تحديدها، بل يمكن توصيفها بأنها مرحلة الثورات، وكذلك لا يمكن الحديث عن فرادة هذه الثورات، فهي لا تختلف عما حدث في أوروبا في القرن التاسع عشر، أي في المرحلة التي أعقبت الثورة الفرنسية، سوى بتفاصيلها المحلية.


نور القيسي (إعلامية عراقية):
الموجة الارتدادية الأولى للربيع العربي
عاد في نهاية عام 2018 مشهد توافد الشباب إلى الشوارع بلافتات "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى الواجهة، من الجزائر إلى السودان، ثم مصر وبغداد وبيروت، حيث ترتسم الآن في هذه اللحظات ملامح أكثر وضوحاً لأول موجة ارتدادية لثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس عام 2010.
موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية الرافضة لسياسات الأنظمة الحاكمة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، أو ما يتعلق بجوانب الإصلاح السياسي وحرية التعبير وحقوق الإنسان.
قد تختلف طبيعة ومضمون ثورات الربيع العربي بموجتيها الأولى والثانية في بعض الدول، كما تختلف الخصوصية الثورية التي يتميز بها كل بلد من البلدان التي وصل اليها الربيع أو ارتداده نظراً لخصوصية كل دولة، وتركيبتها الديمغرافية والعرقية والطائفية والاجتماعية بصفة عامة، وحتى أدوار القوى الخارجية التي تتقاطع أو تتداخل مصالحها مع الثورة، لكن لهذه الثورات أرضية مشتركة انطلقت منها كانت أهم أسبابها:

أولاً، تعتبر الشعوب العربية من أكثر الشعوب الفتية، لكن رغم ذلك لا توجد أي خطوات جدية من قبل الحكومات لاستيعاب هذه الموارد البشرية.
ثانياً، شعور هذه الطبقة من الشباب بالغضب والإحباط بعد أن تمت سرقة ثورتها من قبل أنظمة وأحزاب لا تمثل طموحاتها.
ثالثاً، عجز الحكومات ومؤسساتها عن استيعاب طريقة تفكير هذا الجيل، إذ ما زالت هذه الحكومات تفكر بطريقة تقليدية لا ترقى لروح العصر.
رابعاً، تفشي الفساد المالي والسياسي في دول الربيع العربي.
خامساً، لم تستوعب الأنظمة الجديدة حجم التغير في الوعي الذي أنتجته ثورات الربيع العربي الأولى والتغيرات الفكرية والاجتماعية والأيديولوجية التي طرأت على فكر الشباب الثائر.
سادساً، جاءت الموجة الارتدادية التي نعيش أحداثها الآن طامحة إلى تصحيح أخطاء الموجة الأولى، التي أدت إلى انتكاسات؛ حروب داخلية، كما في سورية واليمن وليبيا؛ بروز الخطاب الاسلامي المتشدد؛ ضياع الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية.

السمات الأساسية لِثورات 2019:
-    الطابع السلمي للاحتجاجات، حيث أن الشباب في البلدان التي تشهد ثورة ضد أنظمتها يصرون على الحفاظ على سلمية احتجاجاتهم، رغم القمع الحكومي الشرس في بعض البلدان مثل العراق، إلا أن المحتجين هناك ما زالوا مصرّين على تفويت الفرصة على الحكومة في جرِّهم إلى صراع مسلح، وإعادة السيناريو السوري في العراق.
-    بدأ في هذه الموجة تبلور أفكار تؤسس لوعي جديد، منها فكرة أهمية مشاركة المرأة في العمل الثوري، والتأكيد على دورها في صنع الحراك، والحفاظ على وجودها كوقود للثورة.
-    ذوبان الهويات الفرعية والرجوع إلى الهوية الوطنية، كما في العراق ولبنان. نعم، ما زالت أمام هذه الموجات الثورية وصانعيها تحديات حقيقية، لكن ما يبدو واضحاً للعيان، أن لشباب هذه الثورات قدرة هائلة بالسرعة والتعلم من أخطائهم، وقدرة بارعة على إدارة أنفسهم واستغلالها موارد لضمانة استدامة هذا الحراك.
-         تقويض السلطة الدينية والحزبية التي كانت جاثمة على صدور هذه الشعوب طويلاً.
-    التكافل الاجتماعي الذي أنتجته "اللاسلطوية" التي انتهجها، بدون تخطيط مسبق، شباب الثورة لإدامة زخم التظاهرات، نعم هو منهج غير مفيد ومؤذ على المدى البعيد، لكن ما زال هو الحل الأمثل للوضع الراهن، حيث يلتحف الثائرون السماء، ويتوسدون الأرض، لحين تحقيق مطالبهم المشروعة.
واخيراً، أقول: أثبت العام 2019 أن دوافع ثورات ربيع عام 2011 لا تزال موجودة بقوة في دول عدة، وأن فترة الهدوء التي استمرت لثمانية أعوام كانت كافية بالنسبة للشباب لإعادة الحسابات، ودراسة الأخطاء والبدء بموجة الجديدة.
وتبدو الموجة الراهنة من الثورات أكثر تركيزا على تحطيم الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي، والمؤسسات الغارقة في الفساد والمحسوبية، واستنزاف موارد الدول لصالح الطبقات السياسية الحاكمة المتنفذة. وختاما أستطيع القول إنه بات واضحاً أن دوام الموجات الارتدادية الثورية من دوام فساد السلطة واستبدادها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.