}

الشعر المصري الجديد: إشكاليات التواصل والقطيعة (2-2)

سارة عابدين 20 يونيو 2018
هنا/الآن الشعر المصري الجديد: إشكاليات التواصل والقطيعة (2-2)
لوحة للفنان رشيد قريشي

هناك تساؤل مستمر حول علاقة الشعر المصري الجديد بالأجيال السابقة، والتجربة الشعرية القديمة، وهل يمثل الشعر الجديد استمرارا لمسيرة التطور الشعري، أم أن الحركة الشعرية المصرية الجديدة، منقطعة تماما عن التراث الشعري القديم، وتمثل تجربة شعرية جديدة مستقلة بشكل كبير، إلى درجة أن البعض يرى أنها بلغت حدا من النثرية والتجريب أكبر مما هو محتمل داخل القصيدة.

هنا القسم الثاني والأخير من إجابات مجموعة من الشعراء والنقاد على هذا التساؤل الذي طرحناه عليهم:

سمير درويش: "قصيدة النثر"

فتحت أمام الشعرية طرقًا جديدة

الشاعر المصري سمير درويش، رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة، يتفق على عدم انقطاع الفن عما سبقه، ويرى أنه لا توجد ثقافة ولا يوجد فن وأدب يمكن أن يولد من فراغ منقطعًا عمَّا سبقه، ومن ذلك الشعر الجديد بالتأكيد، ويشير إلى أن الحداثيين أنفسهم قالوا إن كل نص جديد بداخله مجموعة من النصوص القديمة. لكن هذا لا يعني في الوقت نفسه أن الشعر يتطور في خط مستقيم، أي أن كل تجديد مبني على ما سبقه بالضرورة، فالتأثير قد يكون سلبيًّا أحيانًا، بمعنى أن جمود الشعر في مرحلة ما، وتكراره لنفسه من حيث الموضوعات وتقنيات الكتابة، قد يدفع الشعراء إلى القفز إلى الأمام قفزة واسعة. يعتقد درويش أن هذا ما حدث في حالة الشعرية الجديدة، لأن القصيدة التقليدية من العمودي إلى التفعيلة كانت قد وصلت إلى طريق مسدود، والذهاب إلى "قصيدة النثر" فتح أمامها طرقًا جديدة وأعطاها دفعة للأمام، والدليل أنه بدلًا من أن الشاعر كان يجتر قصائد جاهزة أصبح التجريب مفتوحًا أمامه على مصراعيه، بحيث أن كل نص جديد هو بمثابة تأثيث جديد للكتابة، وهو يتحدث هنا عن النصوص الجيدة.

أما عن أهم المؤثرات في الشعر الجديد في مصر، أو ما يُطلق عليه "قصيدة النثر"، فيقول درويش إنه أصبح لا يلتفت للمحظورات النقدية القديمة، ويستفيد من تقنيات كل الأنواع الأدبية الأخرى: القصة القصيرة والرواية والمسرح، وحتى المقال والفلسفة، فمن المألوف أن تجد في القصيدة حوارًا وحبكة قصصية وتصاعدًا دراميًّا وتحليلًا ثقافيًّا، كما يستفيد من الفنون جميعًا: الموسيقى والفن التشكيلي والسينما وغيرها، فتتردد في النصوص الجديدة أسماء الموسيقيين وتأثير مقطوعاتهم، وكذلك أسماء الفنانين التشكيليين ولوحاتهم، إضافة إلى الاحتفاء بالألوان والأصوات والإضاءة. والأهم أنه أصبح ذاتيًّا، يعتمد بشكل رئيسي على حياة الشاعر وتجاربه الشخصية وسيرته وعلاقاته وأسراره وإحباطاته، ورؤاه وأفكاره، وفضائحه أحيانًا، وأصبح لا يلتفت كثيرًا - ظاهريًّا- إلى الهموم الوطنية العامة كما كان في السابق، وهو ما جعله أكثر صدقًا وأقرب من حيث التعبير عن المكان والزمان اللذين كتب فيهما، كما أن الشاعر لم يعد نبيًّا يحمل رسالة كما كان مفهومًا، بل إنسانًا عاديًّا، يكتب قصائده- لوحاته- مشاهده بالكثير من الحياد دون أن يتورط في موضوعه أو يصبح جزءًا منه.

من وجهة نظر درويش بلغت النثرية بالفعل حدا أكبر مما هو محتمل داخل القصيدة، فمن متابعته الجيدة واليومية للمشهد الشعري المصري الجديد، يعتقد أن بعضه يعاني من (خفِّة) ما ناتجة عن أن المساحة ضاقت جدًّا، بل تلاشت في بعض الحالات، بين اللغة داخل النص واللغة العادية اليومية، وأن بعضًا مما يقرأ لا يدهشه، بمعنى أنه لا يترك شيئًا ما داخله يتذكره إذا مر بإحساس مشابه، وقليلًا ما يبتسم لأنه اكتشف لعبة جمالية، أو قبض على نفسه متلبسًا بحسد شاعر من أجل قصيدته. لكن هذا لا ينفي أن هناك تجارب رائعة يستمتع بها لشعراء من الأجيال الجديدة ومن جيله على السواء، كما أنه في الوقت نفسه لا يصادر حق أحد في أن يكتب ما يشاء بالطريقة التي يراها.

يقول درويش: حكمنا الآن منقوص لأننا مجايلون، لنا وجهات نظرنا التي تنحاز لطريقتنا في الكتابة، وهي ليست صحيحة في كل الأحوال بالطبع. هذه (الخِفَّة) أتصور أنها ناتجة عن انتشار نماذج معينة على مواقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك خصوصًا، فتلك النصوص مغرية لأنها تلقى استجابة أعلى من القراء والمتابعين الذين لا يملكون الوقت الكافي ولا الثقافة ولا الرغبة في التوقف مدة أطول أمام نص أكثر عمقًا.

عن أهم التجارب العربية والعالمية المؤثرة في الشعرية المصرية الجديدة، يعتقد درويش أن شعراء جماعة شعر في لبنان لعبوا دورًا كبيرًا في هدم الشكل التقليدي للقصيدة العربية: أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط ويوسف الخال وغيرهم، بالرغم من أن أغلبهم كان يكتب بجماليات قصيدة التفعيلة، فكان لتأثر شعراء السبعينيات بهم، والاحتفاء بدواوينهم، أثر كبير في تحول القصيدة العربية، وانفتاحها على احتمالات أخرى تخرجها من جمودها، كما ساهم الشعر المترجم في توسيع الصورة والاطلاع على نماذج أكثر تطورًا وصدقًا، فكان كتاب "ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر" الذي صدر للدكتور عبد الغفار مكاوي عام 1970، بمثابة مانيفستو للجيل الجديد من الشعراء المصريين والعرب، وقد أعيدت طباعته عدة مرات، وكان من الصعب ألا يحتفظ به شاعر في مكتبته، هذا الكتاب فتح أعين هذا الجيل والأجيال التالية على الشعراء الألمان، وكذلك انتبهوا للكثير من الشعراء الأوروبيين والأميركيين من ترجمات أخرى.

أما عن متابعة المشهد الشعري العالمي، فيقول درويش إن الثورة التي حدثت في الاتصالات في العشرين عامًا الأخيرة، جعلت من السهل أن يرى الإنسان العالم كله من خلال جهاز هاتفه النقَّال، وسهلت على الشاعر الاتصال المباشر بأقرانه في كل دول العالم، وقراءة قصائدهم أولًا بأول على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي بلغتها الأصلية، بالذات مع اهتمام الأجيال الجديدة بتعلم اللغات الأجنبية، كما أن نشر الكتب على نطاق واسع على الإنترنت بطريقة pdf، سهَّل الاطلاع على الإنتاج الأدبي والنقدي سواء بلغاته الأصلية أو مترجمًا، ودون مقابل، وهو ما فتح أفق الشعر العربي أكثر وأكثر.

شيرين أبو النجا: لا يمكن إغفال

تأثير الصورة في الشعر الجديد

الناقدة المصرية وأستاذة الأدب الإنجليزي شيرين أبو النجا تتحدث عن التواصل والانقطاع وترى أنه لا يوجد شاعر يتيم أو قصيدة يتيمة، التواصل كائن بقوة حتى لو كان في شكل اتخاذ مسار معرفي جديد ومختلف. وهذا الوعي بالاختلاف هو في حد ذاته أحد أشكال التواصل.

تضيف أبو النجا أن أهم المؤثرات في الشعر المصري الجديد نابعة من تاريخ قصيدة النثر التي سُميت في لحظة ما "القصيدة الخرساء"، هي قصيدة تسعى إلى إثبات وجودها في سياق رسمي يلفظها ولا يعتد بها. لكن هناك مؤثرات أخرى: لحظة تاريخية فارقة وقاسية ولا تعتد بالفرد ولا الفردانية، فيعلو صوت القصيدة وتتوجه صورها إلى الداخل في محاولة من الفرد للوجود والبحث عن تاريخ شخصي، (لا أقصد أن تتحول القصيدة إلى سيرة ذاتية) لكنها تمثل إعادة قراءة شخصية للتاريخ الجمعي المزيف.

عن بلوغ النثرية حدا أكبر مما هو محتمل داخل القصيدة، تقول أبو النجا: يبدو الأمر للبعض هكذا، لكن طالما تداخلت الصور وتحولت إلى فكرة إذن هناك قصيدة. هذا إذا نحينا إشكالية قصيدة النثر جانبا. يبقى السؤال النقدي الشائك: متى تكون القصيدة شعرا ومتى تكون نثرا؟ إن مجرد طرح السؤال يُعتبر تشكيكا في قصيدة النثر. لا يُمكن إعادة الزمن إلى الخلف، لننظر إلى الأمام ونُحلل مدى تفاعل الصورة مع سياق أكبر: هل ترمزه أم تعارضه أم تتحول هي ذاتها إلى الأصل؟

تتحدث أبو النجا عن أهم التجارب العربية والعالمية المؤثرة في الشعرية المصرية الجديدة، وتذكر أن هذا الأمر كان في البدايات يتعلق بترجمة كبار الشعراء، وهو حال القصيدة في كل مكان. إلا أنها تعتقد أن الشعر الجديد- لبؤس اللحظة والعالم- لا يستبطن كثيرا التجارب العالمية وإن كان على وعي بها. الشعر الجديد مشغول بذاته المطحونة، بتفاصيل يومه المؤلم، بسحق الفردانية، بألمه العظيم، بمفردات الشارع. هي قصيدة ترثي حالها وحالنا. وبالرغم من كل هذا لا يمكن إغفال تأثير الصورة في الشعر الجديد، سواء كانت صورة السينما أو الفن التشكيلي، لأننا نعيش عصر الصورة. تؤكد أبو النجا أن متابعة المشهد الشعري العالمي عبر الترجمة أو القراءات المباشرة من اللغات الأخرى تعتمد في نهاية الأمر على ثقافة الشاعر الشخصية.

عمر شهريار: لا يمكن أن تنطلق أي

شعرية سوى بإحداث قطيعة وتواصل

يتحدث الناقد المصري عمر شهريار عن التواصل والانقطاع، ويرى أنه لا يمكن أن تنطلق شعرية ما سوى بإحداث شيئين يبدوان متناقضين: القطيعة والتواصل. فشاعر قصيدة النثر الآن ينطلق من قطيعة حقيقية مع التراث، تراث قصيدة النثر نفسها أو تراث الشعر العربي بشكل عام، بمعنى أنه يقدم تجربة مغايرة تماما عن تجربة اﻷسلاف، مغايرة في جمالياتها ورؤاها وموقفها من العالم، هكذا يبدو وجه القطيعة. أما وجه التواصل، فهو أنه لا يوجد شاعر يمكن أن يقدم تجربة لها ثقلها إلا إذا كان على تواصل جيد مع تراثه، سواء تراث قصيدة النثر العربية، أو تراث الشعرية العربية بشكل عام، أو تراث الشعر في العالم بشكل أعم.

ويُضيف: لا يمكن لأحد ادعاء أنه عبّد مسارا جديدا إلا إذا كان على معرفة حقيقية وأصيلة بالمسارات الجديدة الموجودة بالفعل. فضلا عن أن تراث اﻷسلاف موجود تحت جلودنا، حتى دون أن ندري، ويسكننا بشكل أو بآخر، فحتى لو لم يطلع الشاعر الشاب على تجربة المتنبي مثلا فإنها قطعا تسربت له عبر وسائط شتى.

أما أهم ما يؤثر في الشعر المصري الجديد فيقول شهريار إنه شأنه شأن كل التيارات الشعرية، يتأثر بثلاثة أشياء تتفاعل معا لتنتج هذه التجربة الجديدة: أولا العالم، بما يموج به من أفكار ورؤى وتحولات سياسية واجتماعية، وبنى اقتصادية، وأنماط إنتاج. فالعالم، هنا واﻵن، مؤثر كبير من مؤثرات أي تجربة، هي في نهاية المطاف بنت واقعها وسياقها ولحظتها الحضارية. ثانيا: الذات بكل ما تشتمل عليه من مرجعيات ومنطلقات اجتماعية وطبقية وجندرية، وبقناعاتها الإيديولوجية والسياسية والوجودية والفكرية، فرغم أن العالم اﻵن هو ذاته الذي يكتب في ظله كل الشعراء الحاليين، فإن طبيعة الذات وطريقة تلقيها وتفاعلها مع العالم كمعطى هو الذي يجعل كل شاعر مختلفا عن اﻵخر. فكل ذات تمثل بصمة لا تشبه غيرها من البصمات، بانحدارها من مناطق مختلفة عن اﻷخرى، ومن ثم تكون لها لغتها الخاصة وطرائقها الجمالية المستقلة في التعبير عن هذا الواقع أو الاشتباك معه. ثالثا: المدونة الشعرية التي يتكئ عليها كل شاعر. فكل شاعر يختار أسلافه، وعلى حسب انفتاح كل شاعر على موروث الشعر العالمي، وليس العربي فقط، وعلى موروث الفكر والفلسفة والمعارف كافة، يكون مقدار عمق تجربته.

ويتابع: نحن إذن أمام مثلث يتكون من الذات والعالم والموروث، فالعالم هنا واﻵن واحد بالنسبة لكل الشعراء الحاليين، لكن اختلاف الذوات هو الذي يخلق اختلاف النصوص، أما عمق القراءة والاطلاع على الموروث العالمي فهو الذي يفرق بين نص وآخر، على مستوى العمق.

يتفق شهريار مع إيغال بعض التجارب الجديدة في النثرية، حتى أصبحت قصائد بعض الشعراء أقرب إلى القصة القصيرة منها إلى الشعر، فلا صور ولا مجاز، بل محض سرد كامل، أو انحرافات شعرية. وهذا النموذج، وإن كان نادرا، فإنه موجود، ويتعاطى أصحاب هذا الاتجاه مع هذا التوجه بوصفه طريقة في التجريب. يعتقد شهريار أن قصيدة النثر يمكنها استيعاب ذلك، بوصفها نصا عابرا للأنواع والفنون، شريطة ألا يصبح هذا الاتجاه مسيطرا عليها بشكل كلي، وهو ما لم يحدث حتى اﻵن.

من وجهة نظر شهريار يصعب حاليا حصر التجارب الشعرية المؤثرة في مشهد قصيدة النثر الراهنة، ففي فترات ماضية، وتحديدا في السبعينيات، كان النموذج المؤثر هو تجارب بعض الشعراء الفرنسيين، وتنظيرات سوزان برنار، فضلا عن تجربة مجلة "شعر" اللبنانية وروادها أدونيس وأنسي الحاج. أما اﻵن، ومع انفجار عصر المعلوماتية وتكنولوجيا المعلومات، فقد أصبحت التجارب المؤثرة كثيرة جدا، ولكنه تأثير التفاعل اﻹيجابي غالبا، والتقليد أحيانا بالطبع. لكن يمكن اﻹشارة إلى مجموعة من التجارب المهمة التي يتفاعل معها الشعراء المصريون، مثل تجارب: وديع سعادة، رياض الصالح حسين، سيلفيا بلاث، صلاح فائق، وغيرهم، فضلا عن تفاعل الشعراء المصريين الشبان مع تجارب بعضهم، ومع تجارب الشعراء السابقين عليهم، مثل: جمال القصاص، محمد صالح، حلمي سالم، عماد أبو صالح.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.