}

خَواد وعوسّاي: الكشف عن كوْنيّة الشعر الطوارقي

باسم المرعبي 21 مارس 2018
هنا/الآن خَواد وعوسّاي: الكشف عن كوْنيّة الشعر الطوارقي
رجل من الطوارق

 

"لا يستطيع الصحراوي أن يقهر السراب، المتآمر مع الأفق، بدون شعر" ـ إبراهيم الكوني: ديوان النثر البري

 

على إثر إعلان فوز الشاعر الطوارقي محمدين خواد بجائزة الأركانة المغربية، للشعر، بدأت بطلب ما يتوفر عنه من معلومات أو قصائد له، عبر غوغل أو الرجوع إلى أرشيفي الخاص. غير أن مثل هذا البحث لم يُسفر إلا عن اهتمام ضئيل، ووجدت أنّ ما تُرجم للشاعر لا يمثلّ شيئاً، قياساً إلى وفرة نتاجه وتعددّ مجالاته. فما مُتاح من هذا النتاج، عربياً ـ الشعر هنا حصراً ـ هو ثلاث قصائد فقط، بينها مجتزءات، وهي: قصيدة "العهد البدوي" المنشورة في مجلة مواقف العدد 58 ـ إبريل 1989، ترجمة (عائدة أسمر؟) والقصيدة صيغت بلغة أدونيسية ضاع معها أثر الشاعر الأصل، مقارنةً مع القصيدتين الأُخريين لخواد بترجمة التونسي محسن العوني، وهما أكثر جذباً للقارئ بلغتهما الشعرية المتقنة، غير المتكلفة. فهل كانت "العهد البدوي" من ترجمة أدونيس، بالفعل، لكنه آثر استخدام اسم "عائدة أسمر"؟! أم أنه تدخل بالترجمة حدّ طغيان لغته وتقنيته الشعريتين، حتى أضحت قصيدة خواد ممتلكات أدونيسية! (يقول الموتُ لتوأمِه الحياة) ـ هكذا يبدأ نص خواد، على ذمة أدونيس. على أية حال، لقد احتلت القصيدة تسع صفحات من "مواقف"، مع الرسوم، في حين أن النص الأصلي ـ (1987)، صدر في ستين صفحة، مصحوباً بالرسوم، أيضاً. ومن المفارقة أن المعلومات المتداولة على الإنترنت، بالعربية، تشير إلى عدم الاطلاع على نص القصيدة في مواقف، بدليل أن جميع من تطرق إليها ذكرها باسم "وصية البدوي"، إضافة إلى نسبة الترجمة لأدونيس، مع إغفال اسم عائدة أسمر. أما بخصوص القصيدتين بترجمة العوني فأُولاهما كانت، "على خطى المترحل" والمنشورة، في مدونة الباحث صالح الطائي ـ أغسطس 2017 والقصيدة تتكون من 17 شطراً، أما الثانية فهي مستلة من مجموعة "أناشيد العطش والتيه" ـ 1987، وتتكون من 35 شطراً وهي منشورة في صحيفة "قريش" الإلكترونية، ضمن تقرير للكاتب عبد الحق بن رحمون، يغطي حفل استلام الشاعر للجائزة. وإذا جاز الكلام عن أثر داخلي وآخر خارجي للشعر أو أي عمل كتابي أو فني آخر، فالأثر الخارجي المقصود هنا يتعرّف أو يكمن في جذب الاهتمام إلى ثقافة وحالة شعرية أُخرى، كانت متوارية عن القارئ العربي، هي شعرية الطوارق، ومثلما أحدثت جائزة الأركانة أثرها في لفت الأنظار إلى الشاعر على نطاق عربي أوسع، وربما عالمي ـ مع ضرورة أن يكلّل هذا الفوز بترجمة منتظمة، أوسع لقصائده إلى العربية ـ فإنه بالمقابل ستكون أي متابعة لشعر الطوارق، بعد "الأركانة" مدينةً لخواد. ومثلما كان من قبل، الليبي، شاعر النثر، إبراهيم الكوني سفير النثر الطوارقي إلى العالم، بأعماله الروائية المتفردّة ومجمل جهده في الكتابة، فإنّ خواد هو سفير شعر هذه الأمة، وعبر النافذة التي شرعها على هذا الشعر، وبأثر منها، تعرفت إلى شاعر طوارقي آخر عبر ثلاث قصائد له طوال نسبياً، شاعر، بدا أنه لا يقلّ أهمية، ونماذجه المتاحة هي بأهمية قصائد خواد، المذكورة هنا، وتحيل إلى نفس العالم. لتتراءى القصائد الخمس، مجتمعة، في ضوء الشعر الذي لا يخفى، لكأنها النجوم متقدة في ليل صحراء النيجر التي ينتمي لها الشاعران. القصائد المعنية هي للشاعر عيسى عوسّاي بترجمة التونسي إبراهيم درغوثي، عن الفرنسية، وقد نُشرت في مجلة "البيان" الكويتية ـ عدد هذا الشهر شباط (فبراير) ـ 2018.

 

خواد والبريكان.. نبعٌ واحد

محمدين خواد، الشاعر الذي يكتب بلغته المحلية "تاماغات" والمجسدة بالأبجدية الأمازيغية "تيفيناغ" المتوارثة منذ 3500 عام، ولد في النيجر عام 1950. بدأ النشر منذ أواسط الثمانينيات وقد عُرف إلى جانب اهتمامه الأول، الشعر، كرسام وكاتب للمقال السياسي. وهو في كل ذلك "يصدر عن صوت شعبه، سواء في ما كتبه من شعر أو نثر وكذلك في رسومه التشكيلية"، كما يشير إلى ذلك مراد القادري في كلمة احتفائية بحق خواد. أصدر الشاعر مجموعة كبيرة من الكتب المنقولة جميعها إلى الفرنسية بمساعدة زوجته هيلين كلود ـ هواد، كما تُرجمت إلى لغات عديدة أُخرى. تُنبئ قصائد خواد، قارئها، بأنه إزاء شعرية هائلة تتواشج وما هو كوني، بتجاوز كل الأبعاد الآنية، مكاناً وزماناً، وإن انطلقت منهما بالضرورة. وشعرية خواد تلتقي في أفقها مع شعراء كبار كما عبْر نموذج "على خطى المترحل"، وإن كان ثمة إحالة مباشرة إلى شاعر بعينه، لبرهة ما، لكنها برهة الشعر الأبدية. هذا الشاعر هو محمود البريكان في قصيدته "اقفز بين مجرّات"، المؤرخة في مارس/آذار عام 1993:

اقفز بين مجرات

قس قفزاتك بالسنوات الضوئية

فكّر بملايين الأجرام

أكبر بملايين المرات من الكرة الأرضية

 

وفي قصيدة خواد "على خطى المترحل":

انتعل خفّك

وادعس رملا

لم تطأه قدم أيّ عبد..

أيقظ روحك..

تذوّق ينابيع

لم تحم حولها أيّة فراشة..

أطلق فكرك

نحو مجرّات

لم يجرؤ أي مجنون أن يحلم بها..

 

إن التقاء الشاعرين، البريكان وخواد، في فكرة الحثّ على التحرر من نير الأرضي والانطلاق نحو ذُرا الكوني وما يعنيه من سمو ولا نهائية، حتى وإن التقيا حرفياً في شطر أو شطرين: "فكّر بملايين الأجرام" كما عند البريكان و"أطلق فكرك/ نحو مجرات" ـ كما لدى خواد. وكأننا إزاء قصيدة واحدة، غير أن هذا لا يعني تأثر أي منهما بالآخر، لانتفاء الأسباب المباشرة لمثل هذا التأثر، وليس هو المقصود، بأية حال، من هذه الإشارة أو المقارنة، بقدر القصد، أنّ الأفق الذي يروده الشعراء الحقيقيون هو واحد ولا بد أنّهم يلتقون في أكثر من مشترك مهما بعدت بينهم المسافات والأزمان. وما ذلك إلا لأنّ "الشعر كالحياة شيء واحد، فهو في جوهره مادة واحدة متصلة أو طاقة واحدة مستمرة، ومن الوجهة التاريخية هو عبارة عن حركة واحدة متصلة، أو حلقة من المظاهر المتكاملة المتتالية.."، حسب الشاعر والناقد جون وليام مكايل كما يورد عنه ذلك، أ.أ. ريتشاردز، في كتابه، "مبادئ النقد الأدبي والعلم والشعر"، ترجمة: محمد مصطفى بدوي. غير أن ما تقتضي الإشارة إليه، لأهميته، أن قصيدة خواد أكثر شعرية من قصيدة البريكان، فقد بدا المقطع الأول من القصيدة لدى الأخير، المكوّن من واحد وعشرين شطراً، ذهنياً صرفاً.. ومن الواضح أنه وليد قراءات الشاعر العلمية، قبل أن ينعطف في المقطع الثاني إلى رؤية نقدية للإنسان "المنهمك في خطط لصناعة أسلحة أُخرى.." يُنظر ـ "متاهة الفراشة": 165. في حين بدت قصيدة خواد مفعمة بالروح، مجسَّدة، تكاد تُلمس وتُشم وحداتها: "تنسم شذا أزهار لم يغازلها النحل../ تناءَ عن الأسواق والناس/ وتخيَّل معرض النجوم.."، وبالأشطر الثلاثة الاستهلالية: انتعل خفّك/ وادعس رملاً/ لم تطأه قدم أيّ عبد.." يكون الشاعر قد وضع قارئه في قلب مشهدية الصحراء والسماء، في قلب الوجود البكر لعالم لم يلوّث بعد، بالضوضاء والروائح، كمظهرين لما يُبطن من غش ونفاق صارا صفةً، في الغالب، للأسواق والناس. "تناءَ عن الأسواق والناس"، ففي ذلك نشدان لروح الكون ببعد صوفي، صافٍ يليق بجوهر الإنسان، في فطرته، وتطلعه أو ارتفاعه فوق أوحال الواقع أو الجسد، وهو ما يلتقي وجوهر الصحراوي وفهمه للعالم. في ضوء هذه الروح وانطلاقاً منها يمكن قراءة شعرية محمدين خواد، المعمدة بالملموس من الخبرات لا التجريد الخالص، وهو ما يفسّر حرارة تجربته الشعرية بانتمائها الإنساني ووفائها لبيئتها الأصل وحجر الزاوية فيها، الإنسان، الذي لا يريد الشاعر رؤيته إلا حراً، "مثل صقر يحلّق في السماوات.."، فـ "العالم عاصفة رمل منحرفة"، كما يكتب في "أناشيد العطش والتيه"، ليغدو الموقف النقدي من الواقع العابر، اجتماعياً كان أم سياسياً، رؤية وجودية شاملة وموقفاً جذرياً من العالم، بنعمة الشعر.

 

عوسّاي الحالم بالكلمات المجنونة!

إذا كان لخواد بعض الحضور العربي ومنذ سنوات، غير أن مواطنه عيسى عوسّاي، الشاعر، لا حضور له سوى ما تم تقديمه به من قصائد ثلاث على يد إبراهيم درغوثي، مؤخراً. وهو شيء يُحسب للمترجم وربما يكون بدافع أيضاً من فوز خواد بجائزة الأركانة، وهو ما يعزز فرضية الأثر الذي أحدثته هذه الجائزة. وكم كان ضرورياً لو تمّ التعريف بالشاعر على نحو أفضل، ولم يكتف المترجم بالسطر اليتيم في الهامش والذي يشير إلى أنّ للشاعر ديواناً بعنوان، "يوم وليلة، رمال ودم ـ أشعار صحراوية"، صدر عام 2005. ولا شيء سوى ذلك، فلا إشارة عن تاريخ ولادته أو اللغة التي يكتب بها، هل هي الفرنسية أم أن هذه لغة وسيطة، وما إذا كان له أعمال أُخرى..؟ في غياب مثل هذه المعلومات، لتكن، إذن، قصائده هي هويته وسيرته، وهو ما يطمح إليه الشاعر، أيّ شاعر. وعوسّاي يشفّ عبر قصائده عن شاعر محترف، خبير، عركَ الكلمات وعركته، يتمتع برؤية عميقة وتجربة جمالية مؤصّلة، ميدانه الرمال والنجوم، وما ذلك إلا لأنه صنو الحرية والريح والنجوم، ومن سلالة تمتلك الزمان والمكان، كما يخبرنا في قصيدته "الرحالة"، وهو بذلك يذكّر بمقولة بورخس في "صنعة الشعر": بأنّ الكلمات كانت سحرية في البدء وعلى يد الشعراء تعاد إلى السحر. في "الرحالة" يوجز الشاعر حكاية شعب أو أمة بأسرها وما آلت إليه بسبب عوامل السياسة والجغرافيا، يعالج الشاعر ذلك دون السقوط في شعارية صفيقة هي عدوة الشعر، الحق، عادةً.

بالأمس القريب ـ

كانوا يعدون النجوم

كانوا يمتلكون الزمان

والمكان

وحيدين وأحرارا

لا يستمعون إلا لصدى أصواتهم.

هكذا يبدأ عوسّاي قصيدته، ممهداً بذلك ومهيئاً قارئه للتغيّر الذي سيدرك شعبه الرحّال، فالفعل الماضي "كانوا" يُنبئ عن مسار ومصير جديد سينزاح إليه رحالته:

لحافهم الثقيل

يعيق نظراتهم

وما عادوا قادرين على عدّ النجوم

رغم أنهم ما زالوا يحلمون

أحلامهم المضيئة

كدرب التبانة

معلقة على أصوات المدافع

 

في الجملة الأخيرة تصريح بدخول عنصر جديد على المشهد، عنصر مزلزل ومشظٍّ، إنها الحرب عبر رمزها، هنا، "المدافع"، غير أن هذه الحرب وبكل ما تعنيه وتمليه من تغيير لم تكن قادرة على سلبهم أحلامهم، فهي من مادة الضوء. والضوء مادة أساس في قصيدة الشاعر، ينبثق في القصيدة من أكثر من موضع، آتياً من النجوم، ليلاً، ومن الشمس، نهاراً، لكن بما أنّ المصائر باتت مهددة فلا يستبعد الشاعر التفكير بأن:

يمكن لإشعاع النجوم أن يخفت

وللشمس أن تعيش الكسوف

 

إلا أنه يعوّل على الضوء الداخلي، فهو دائم ولا يمكن له أن يغيب:

 

لكن روحي تبقى دائما لامعة

بضوئها الأبدي.

 

وهو حلم معادل لواقع اليأس والهزيمة التي عرفها رحّالته، فالوقائع أقوى وأمضّ منهم، إذ جعلتهم "يترنحون في أرجاء الليل" و"أيديهم الجافة لا تربّت إلا على الأحلام الميتة" ـ القصيدة. وإن بدا الليل موجعاً وبلا نهاية ـ التعبير أيضاً للشاعر، غير أنّ رهان الضوء هو الذي يكسب أخيراً، ما دام ثمة روح ستبقى متقدة:

 

هذا الليل الذي يضطهدنا

الذي سيهلكنا لا محالة

إذا لم نشعل أنوارنا الخالدة

الذي تضطرم خفية

في أعماقنا

بعيدا عن الأنظار.

 

وإذا كان عوسّاي في قصيدته الآنفة، "الرحالة" يمثل صوتاً جماعياً، ما جعلها أقرب إلى النشيد، فإنه في قصيدة "الكلمات"، يلتقط نبرته الشخصية ـ دون انغلاق ـ ومكابدته كشاعر مع الكلمة، كاشفاً عن روح الشاعر الحق، الخبير بلعبة الكلمات، عصية كانت أم طيّعة، خالعاً عليها صفات لا تتأتى إلا لشاعر خبرها وعاشها بكل جوارحه وتقلب معها في كلّ أطوارها:

 

يلزم كثير من الصبر

حتى نروّضها

...........

يكفي قليل القليل حتى تجفل

أظن أنها لا تحب الضجيج

بل تحبذ الوحدة.

 

هي لاحمة وعاشبة

تتغذى بحبة فرح

أو بحبة ألم

وتشرب مياه البحور والمحيطات

أو تكتفي بمياه الجداول الصغيرة

 

والكلمات شتى، حسب رؤية الشاعر:

 

هناك كلمات... بيضاء طاهرة

جذلى كالخرفان

وهناك كلمات سوداء كالغربان

مرّة كالجلادين

...........

ما يلزمني

كلمات جامحة

بلا لجام

كلمات همجية

بلا حد

تتحدى العوائق

لا تحتملها الأوراق

ما يلزمني

كلمات تغتصب الحدود

كلمات رحالة بلا محطات وصول.

...........

أريد كلمات مجنونة

كلمات هائجة...

 

لولا خشية المزيد من الإطالة، لتفرسنا مليّاً في ملامح الجمال التي أتاحها لنا الشاعران عبر قصائدهما وهي جديرة بكل احتفاء. على أن وقفتنا هذه لم تكن نقدية بقدر ما كانت تذوقية، تعريفية بعالم طالما ظل محجوباً عن القارئ العربي. وفي انتظار ديوان الشعر الطوارقي، بالعربية، تلبيةً لحاجة وتعزيزاً لصورة عبقريةٍ شعرية مستمدة من طلاقة الصحراء والسماء، وقد أضحتا رديفاً لهوية أمة.

 

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.