}

إسماعيل كداري:أشعر بالذنب تجاه جائزة نوبل لأني لم أنلها!

محمد المزديوي 31 يناير 2017
هنا/الآن إسماعيل كداري:أشعر بالذنب تجاه جائزة نوبل لأني لم أنلها!
إسماعيل كاداري

نادراً ما يتحدث الكاتب الألباني الكبير إسماعيل كداري في لقاءات عامة، وربما يكون في تقدمه في السنّ ما يبرّر ذلك. لكن مناسبة إصداره مؤلفه الجديد "صباحيات في مقهى روستاند"، عن دار فايار، كانت فرصة للقاء مع عشاق أدبه، وخاصة من قبل شباب الجالية الألبانية النشيطة والقديمة في باريس، بسبب ارتباط وثيق بين فرنسا وألبانيا، ولعلّ تفرد ألبانيا من بين دول البلقان باستخدام الخط اللاتيني في الكتابة، له دور ما في هذا القرب. وكان لا بد لكداري (28 يناير 1936) أن يتطرق إلى مواضيع قد يكون اضْطُرّ، في حياته الطويلة، أن يتناولها أكثر من مرة. 


"متى قرّرت أن أكون كاتباً"

عن بدايات القراءة والرغبة في الكتابة، يعترف: "في سنّ الحادية عشرة وقع كتاب لشكسبير بين يديّ، قرأته وأعجبت بشخصية الشبح فيه، وبرغم أن حضورها كان قصيرًا إلا أن الأمر راقني جدًا، فقررتُ أن أصبح كاتباً وأن أكتب مثله. وعلى الفور أيّدني صديق لي وهو من أقاربي، بالقول: أنت قادرٌ على أن تكتب أفضل من شكسبير!".

في هذا الوقت قرّر إسماعيل كداري أن يكون كاتباً.

ويستذكر مسقط رأسه الذي يقع بالقرب من مسقط رأس الديكتاتور الرهيب أنور خوجه، في حارة لا تزال تسمى "حارة المجانين"، ويقول ضاحكاً: "كانت ألبانيا لا تزال شيوعية، لم أكن أجد ما أقوله حين كان الصحافيون يسألونني عن العلاقة بين حارة المجانين وبين الديكتاتور المجنون".

وعن سر إقامته في موسكو، يقول: "كان التلاميذ في ذلك الوقت يشرئبون بأعناقهم نحو موسكو، فوجدت نفسي في معهد غوركي للأدب. وصلتُ إلى موسكو في سن الثانية والعشرين، وكنت قد أنهيت ماجستير في الأدب في تيرانا، وبما أني كنتُ أنوي أن أصبح كاتبا، فقد كان هذا المعهد هو الوحيد في كل المعسكر الاشتراكي الذي يُكوّن كُتّابا، أي إعداد "كتيبة الكُتّاب"، الطليعة القادرة على تكسير وجه الأدب البورجوازي والمنحطّ... كان المعهد يستقبل كتّابا قدموا من كل أنحاء العالم، من نحو عشرين جنسية".

وبرغم أن جميع الطُلاب كانوا تحت سطوة الأيديولوجيا الرسمية إلا أن كداري يجد في الأمر متنفسا: "لا أخفي أن التقاء جنسيات عديدة أمرٌ بالغ الأهمية، لأننا كنا نتحدث عن الأدب ولكن كل واحد منا كان يتحدث أيضا عن بلده وتجربته، التي هي مختلفة عن الآخرين.. كنا في عام 1958، وكانت ثمة ملامح الانشقاق، لأنه في هذه الأثناء ظهرت إشاعات عن ستالين، وكان بالإمكان حينها انتقاد ستالين، بالقول إنه لم يحترم تعاليم الشيوعية وتعاليم لينين، وكان المستفيد هو لينين، إذن، إلى أن قال لي رفيق من ليتوانيا إن لينين لا يقل سوءاً عن ستالين، بل هو الأسوأ، ولا يستطيع أحدٌ أن يعترف بالأمر... ثم سألني صديقي الليتواني: نحن قريبون من روسيا ولا خيار لنا، ولكن لماذا قدمتم أنتم معنا، رغم بعدكم 3000 كيلومتر عن الاتحاد السوفييتي؟ كنت أعرف الجواب ولكني لم أجرؤ على الحديث".

ثم تحدث عن سؤال الكتابة في دولة شيوعية، فقال: "إنه سؤال معقد على أي كاتب.. فأن تكون كاتبا في بلد دكتاتوري شيوعي مسألة صعبة، لأن الكتابة مهنة تتناقض مع طبيعة النظام التوتاليتاري. ويصعب تفسير وجود الأدب في مثل هذه البلدان الشيوعية. وهنا رأيان، رأي الكتّاب (الرديئين) الذين يقولون إن النظام هو الذي كان سيّئاً وليس نحن، ولكن ثمة رأيٌ آخر يقول بأن النظام يستطيع أن يدمّر كل شيء إلاّ الأدب. يمكن أن يسبب له بعض الأذى ولكنه لن يدمره. وأنا من أنصار الرأي الثاني، على الرغم من أن كل شيء كان ضدي، لأني كنت كاتبا معروفا جدا في تلك الفترة. بإمكاني أن أقول إنه كان بإمكاني أن أكون أفضل لو لم يكن ثمة مثل هذا النظام. ولكني لا أجرؤُ على قول هذا. بكل صدق، لست أدري لو لم يكن هذا النظام موجودا بالطريقة التي كان عليها، هل كنت سأكتب بشكل أفضل أو العكس؟ لست أدري. لأن النظام يزعج الأدب بعصبيته ومواقفه ولكنه، أيضا، يساعد الأدب بمأساويته، لأن الحالات المأساوية العميقة جيّدة بالنسبة للأدب، وكذا التناقضات الداخلية. ربما، نحن الكتاب، كنّا أناسا غير عاديين في بلد عادي، أو العكس. ما كنا نصبو إليه هو أن نكون أناسا أحياء في بلد ميّت".

ظروف الكتابة والنشر في ألبانيا

كما تطرّق كداري في لقائه الأخير هذا إلى وضعيته المتميزة، فقد ترجمت كثير من رواياته إلى لغات أجنبية، بعضها دون أن يكون على علم بها، وقبل أن تنشر في ألبانيا باللغة الأصلية، كما أن العديد من مؤلفاته تعرضت للرقابة، فقال: "ظروف النشر كانت صعبة في ألبانيا، ولم يكن أحدٌ يعرف إن كان كتابه سينتشر كاملا، أم يُطلب منه إجراء رتوش، أم يقود صاحبه إلى السجن، لأنه ألَّف كتابا سلبيّا ضد النظام. وكان ثمة انطباع بأن الكاتب الألباني إذا كان معروفا في الخارج، أو ترجمت بعض أعماله محظوظٌ في البلد، هذا صحيح، ولكنه كان أيضا أكثر الناس موضعا للشبهة. وحين كنت ألقي محاضرات كان الجمهور ينقسم إلى شطرين، شطر يحبني، وهو ضد النظام ويبحث عن أمل ما، والآخر ضدي لأن كتبي ترجمت والغرب يحبني، ويتكون من رجال الشرطة السرية وأعضاء الحزب الشيوعي والمجرمين الذين أطلق سراحهم".

وعن الخروج من ألبانيا والسفر إلى باريس، يقول: "إن أول كتاب لي ترجم إلى اللغة الفرنسية هو "جنرال الجيش الميت" وصدر عن دار ألبان ميشيل. وعلى الفور رحب به النقاد وعرف نجاحاً كبيراً، في ألبانيا والعالم. وقد صدر عام 1970، في باريس، دون علمي. ولم أسمع عنه إلا صدفة".

ويضيف: "وكانت كلّما وُجّهت إليّ دعوة لزيارة الخارج، تكفل النظام بالرد، بأنه يعاني من وعكة صحية، وحينما كانت الدعوة توجه لي ولزوجتي، كان الرد الحكومي: إن زوجته حاملٌ". يضحك كداري ويقول: "ذات يوم سيقول لي ناشري، كلود ديرانClaude Durand، في دار فايار (والذي كان يدعى "بابا النشر"، وهو من نشر سولجنتسين واكتشف وترجم غابرييل غارسيا ماركيز، ورحل في 6 مايو 2015)، ضاحكاً: حسب ردود السلطات الألبانية فإن عليك أن تكون أباً لثلاثين ابناً".

وكشف كداري غصة لا تزال في قلبه منذ عقود، وهي تفسر صعوبة العلاقة بين الكاتب والناشر، أحياناً، قال: "حين قدمت إلى باريس، رفض ناشري، ألبان ميشيل، لقائي، ولا أجد حتى الساعة أي تفسير لموقف دار النشر ولا أعرف سبب رفض هذه الدار نشر أعمالي الأخرى. لقد حدث شيءٌ ما غريب وبالغ الحزن،  جعل هذه الدار، التي كانت سبّاقة في التعريف بمؤلفاتي في فرنسا، تتجاهلني. ربما سيُعرَف الأمر، ذات يوم". وهو ما جعله يغير ناشره، ويتعرّف إلى كلود ديران، الذي أصبح ناشره وصديقه الحميم (كان يُخبئ مخطوطاتي، حين يزورني في تيرانا في حقيبته مع مخطوطات أخرى كثيرة للتمويه على رجال الجمارك الألبانيين... وهكذا استطاع إنقاذ مخطوطات كداري من التلف).

حاز إسماعيل كداري على جوائز رفيعة منها جائزة أمير أستورياس الإسبانية الرفيعة. وفي كل سنة يرشح اسمه للفوز بجائزة نوبل، ولكن إسماعيل كداري يعلق بسخرية: "أحسّ بالذنب تجاه جائزة نوبل، لأني أقول في نفسي: ربما الخطأ فيّ لأني لم أحْصُل عليها".

هل ما يكتبه كداري يدخل في إطار الحكاية أم هو الواقع، وهل يوجد في رأس كداري نوع من الأخلاق الفلسفية؟ يجيب: "لا يتعلق الأمر بالتخييل ولا بالأخلاق، وأنا ضدّ كل كتابة أخلاقية، لأنه طيلة حياتنا لم نسمع سوى نصائح أخلاقية، فمثلاً، تغضبني جملة: "يجب على الكاتب أن يكون متواضعاً"، ليس لأني لست متواضعًا، بل لأن التواضع في كل الحقب الشيوعية يعني أن تكون خاضعاً ومستسلماً. وكنا نسمع في كل المؤتمرات الشيوعية، من يقول: أنتم معشر الكُتّاب، لا شيء مقارنة بالشعب، والشعب هو كل شيء".

 

يواصل كداري: "قال جوزيف برودسكي، مرة، وهو يتحدث عن تدمير الأدب في الدول الشيوعية: إن النظام الشيوعي يحاول تدمير الأدب كما لو أنه مَعبد يُدك بالمدافع، ولكنّ تدمير المعبد ليس هو الشيء الأخطر، بل الأخطر هو محاولة الدولة  تدمير القرميد، وبالتالي فالمَعبد سيهوي من تلقاء نفسه. هذه الأنظمة تدمر كل شيء من أجل بناء الإنسان الجديد، أكبر مساوئ الشيوعية".

يعشق كداري المقاهي، سواء في موسكو أو تيرانا أو باريس وخاصة مقهى روستاند، الذي يرتاده منذ أربعين سنة، ويجلس في نفس الطاولة، المواجهة لحديقة لوكسمبورغ، فيعترف: "أنا معتاد على ضجيج المقهى، وأشعر بأني في أمان".

كما كشف عن أن أجمل اللحظات في حياته: "حين أكون في المراحل الأولى من الكتابة، والتي لا أعرف إن كانت ستؤدي إلى كِتَاب أم أنّ عليها أن تنتظر سنوات بل قروناً".

يعترف أيضاً أنه لا يستطيع أن يفسّر كل ما يكتبه: "الأمر يتجاوزني. ويهمني الجانب اللامرئي من العالم. هل من الجيّد للأدب أن يفسر الأشياء؟ أعتقد أن الأمر ليس جيداً دائماً. مثلاً إننا لا نعرف شيئاً عن هوميروس عدا أنه كان أعمى. هل كان أعمى، حقيقة؟ أو هل توجَّبَ عليه أن يكون أعمى بعض الشيء؟ أليست زوجة هوميروس هي التي كتبت الأوديسة؟ ما هو الدور الذي لعبته زوجة هوميروس، لا أحد طرح السؤال بشكل جدي".

كما يرفض كداري وصف مؤلفه بالسيرة الذاتية، لأنها "جنس أدبيّ غير ذي قيمة"، لأن الكاتب في نظره: "ليس له الحق في كتابة سيرته الذاتية، قد يكتب كتاباً قريباً جداً منها، فقط".


الثلاثي الشرير

وعن "الثلاثي الشرير، كافكا وجويس وبروست"، كما كانوا يُعرفون في الاتحاد السوفييتي، يتذكّر كداري أنهم دُرّسوا في معهد غوركي، وقال إنه وزملاؤه استفادوا حقاً من هذه الدروس، التي خصصت لوصمهم وانتقادهم، "لأننا وجدنا لديهم أدباً رائعاً وإلهياً. كنّا مفتونين، حقاً، بهؤلاء الكتاب الذين كانوا محظورين في الشرق (الأوروبي)".

كتب كداري، إضافة إلى الرواية، أشعاراً ومسرحيات، لكنه يقول بصراحة: "لن أقول إن الشعر هو جوهرة الأدب أو قمة الكلام الإلهي. الأدب لا يعرف تراتبيات الجنس الأدبي".

وأخيراً تحدث عن مترجِمَيْه إلى الفرنسية بكثير من التأثر: "حين مات مترجمي الأول يوسف فريومي (عام 2001)، والذي بادر إلى ترجمتي من تلقاء نفسه، وكان قد خرج من السجن، حيث قضى نحو 13 عامًا، ويبدو أنه وجد ما يعادلها في مؤلفاتي، تصور البعض أني انتهيت. درس يوسف في صغره في باريس، وحين عاد إلى بلده سجن عام 1947، وبعدها أصبح سفيرا لألبانيا في اليونسكو، وترجم كل أعمالي إضافة إلى أعمال الديكتاتور الألباني أيضاً، واستقر في باريس عام 1989. أما مترجمي الحالي تيدي بابافرامي، من مواليد 1971، فهو موسيقي شهير، قدم إلى باريس في الثالثة عشرة من عمره لدراسة الموسيقى. اكتشف أدبي ومؤلفاتي بالصدفة فترجمها بكثير من النجاح، في الوقت الذي كان فيه كثيرون يقولون: إن إسماعيل كداري انتهى لأن مترجمه مات".

ويعترف كداري أنه لا يراجع ترجماته، بل المترجم هو الذي يراجعه حين يصادف مسألة صعبة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.