}

هذه هافانا: لم يبق من غيفارا غير صوره

مروان علي 18 أبريل 2017

 

الصورة التي رأيناها جميعاً في الكتب والمطارات ويوميات غيفارا ووكالات السياحة والسفر عن كوبا  وهاڤانا والثورة.. تختلف كلياً عن الصورة الحقيقية.. التي ستصدم كل من يزور هافانا فور نزوله من الطائرة.. مطار بدائي وطريقة فظة في استقبال القادمين من دول كثيرة أغلبهم من أوروبا وكندا والولايات المتحدة وقلة قليلة من الدول المجاورة لكوبا.

ينشغل شرطي الهجرة بزميلته الشرطية التي تلبس جوارب مشققة ورقيقة تحت تنورة كاكية اللون تشبه جاكيت فيدل كاسترو.

لكن فحص الحقائب يسير بسرعة وسهولة والجمارك غائبة تقريباً عند القدوم بعكس الفحص الشديد عند المغادرة بحثاً عن العملة الوطنية المخصصة للشعب الكوبي (هذه عملة للكوبيين فقط).

وعن السيجار الكوبي الفاخر والروم والصور التي قد تفضح حقيقة النظام الدكتاتوري الجاثم على صدور الكوبيين. 

هاڤانا الغارقة في العتمة

لم يتحدث سائق سيارة الأجرة بكلمة واحدة خلال الطريق من المطار إلى الفندق، كان منهمكاً بقيادة السيارة في طريق معتمة مليئة بالحفر والتصدعات.. وعدد من الدراجات النارية والهوائية القديمة التي تسير دون مصابيح.

مررنا ببيوت قديمة آيلة للسقوط تختبئ بين أشجار خضراء.

نحن في أطراف هافانا.. قالت لي الصديقة التي تعرف المدينة جيداً وزارتها مرات كثيرة وأردفت:

في كل زيارة تتراجع المدينة للوراء.. التلوث افتقاد الخدمات وازدياد البؤس والشقاء. ومع الاقتراب من مركز المدينة بدأت الاضواء بالظهور.. قليلة لكنها تجنب السائق الاصطدام بالسيارات التي تسير على الطريق نفسها.

تبدو المدينة مهجورة رغم أن الليل في أوله.. لكن الأضواء تظهر فور الاقتراب من  مركز المدينة وثمة حركة وسيارات خصوصاً عند المرور بالقرب من الفنادق التي تشكل عَصّب حياة المدينة وأهلها.

الرجل الذي خلف الباب

توقفت سيارة الأجرة أمام باب الفندق ولم يساعدني السائق في حمل حقيبتي كعادة سائقي سيارات الأجرة في كل بلاد العالم. لكن الرجل الذي يقف خلف باب الفندق، فتح الباب وساعدني في جر حقيبتي الكبيرة  حتى استعلامات الفندق.

طلبت موظفة الاستقبال جواز السفر وكان علي دفع ثمن الليلة الأولى  نقداً. استخدام بطاقات الائتمان  شبه نادر في هافانا ويقتصر على بعض المحلات وفندق واحد (هافانا ليبيري) أو هيلتون هافانا سابقاً.

الرجل الذي يقف خلف الباب، عرفت في اليوم الثاني أنه رجل مخابرات متعدد الوظائف.. يتجسس على النزلاء والموظفين ويمنع اصطحاب النزلاء لبائعات الهوى الى غرفهم ويقوم بتبديل العملة للنزلاء اذا أرادوا وتأمين صديقة من طرفه لمن يرغب ولكن مقابل مبلغ يتفق عليه ولديه غرفة صغيرة في الفندق تجد فيها كل أنواع السيجار الكوبي الأصلي والمزور.

لا يعرف الرجل الذي يقف خلف االباب الكثير عن العالم، لا وقت لديه ولا يريد أن يعرف  فهو لا يحتاج لهذه المعرفة طالما سيقضي كل حياته في كوبا وهو يركض خلف خبز أطفاله كما قال لي حرفياً.

ولد بعد انتصار الثورة بعقدين تماماً وكبر على حب الثورة والزعيم فيديل وغيفارا وقرأ "يوميات بوليفيا وقصائد خوسيه مارتي"  ولا يتذكر منها أي شيء.

يحب غيفارا ويقدم لكل من يشتري منه صندوق سيجار علبة خشبية صغيرة فيها كل الأدوات اللازمة للسيجار وعليها صورة غيفارا وتحتها شعار كوهيبا الناصع.

تزوج من رفيقة كانت تكبره بسنوات كثيرة ولكنها كانت متنفذة في الحزب وهي التي فتحت له أبواب العمل في جهاز الأمن الداخلي وأنجبت منه رفيقة صغيرة واحدة قبل أن تترك له رسالة قصيرة (ماذا فعلتم  بالبلاد يا رفاق...) وتهاجر خلسة إلى أحضان الأمبريالية الأميركية.

موبايل سامسونغ صيني رديء

الحصول على شريحة للهاتف الجوال يحتاج إلى انتظار طويل يدوم لساعات في مكتب ضيق وغير مكيف وتحقيق رسمي حول أسباب الزيارة وفترة الإقامة وصورة شخصية وليس بالضرورة  أنك ستحصل على الهاتف الجوال (لا يمكن الحصول على البطاقة "الشريحة") دون استئجار الهاتف وهو على الاغلب سامسونغ صيني قديم تستطيع دائرة التجسس التنصت على كل المكالمات. وأسعار المكالمات الداخلية حوالي دولار ونصف للدقيقة الواحدة وأكثر من خمسة دولارات للمكالمات الخارجية.

بعد انتظار ساعات خرجت دون أن أتمكن من الحصول على الشريحة لاستخدامها في جهاز الايفون 6S لعدم توفر الشريحة المناسبة، كما تذرعت الموظفة المتجهمة الوجه والتي تضع مكياجاً فاقعاً مثل نادلات الملاهي الليلية.

نادراً ما تجد في شوارع هافانا من يستخدم الموبايل  للاتصالات، أغلب  الذين كنت أصادفهم  وهم من الشباب كانوا يستخدمون هواتفهم الذكية للتواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي وخصوصاً فيسبوك.

كوبا الجميلة.. كوبا القبيحة

 فقد الكوبيون كل أمل بحدوث تغيير في  حياتهم لذلك لم يعلقوا آمالاً كثيرة على زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما.. لكنهم رأوا فيها نافذة صغيرة قد تساعد على هبوب رياح التغيير خصوصا في الجانب الاقتصادي بسبب تدفق السياح الأميركيين والطلاب ورجال الأعمال لأكتشاف فرص الاستثمار في هذه البلاد إذا ما قرر النظام الشيوعي فتح الباب أمام الاستثمارات.

فالسكان لا يعيشون من الرواتب بالنسبة للموظفين والعمال، فسقف الرواتب لا يتجاوز الخمسة عشر دولارا في أفضل الحالات. وهنا يجد السكان في السياحة الفرصة الوحيدة لهم للبقاء على قيد الحياة.

وقالت لي صديقة أميركية من أصول إيرانية  تتابع عن كثب الأوضاع في كوبا: بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوقف المساعدات السنوية التي كان السوفيات يتبرعون بها وبسخاء  لكوبا.. انتشرت المجاعة فيها بسبب فقدان المواد الأساسية كالطحين والسكر والرز والزيت وكل أنواع الأدوية وامتدت هذه الفترة من 1990 وحتى 1996 وفرض النظام الشيوعي قيوداً صارمة على وسائل الإعلام لمنع وصول صور آثار المجاعة وموت الالاف جوعاً إلى العالم.

كوبا جميلة للسياح فقط وللمتنفذين والمقربين من النظام أما بالنسبة للشعب الكوبي فكوبا أقبح بلاد العالم بلا منازع.

شرطة الآيس كريم

حين انطلق سائق السيارة في جولة سياحية تستغرق ثلاث ساعات بسعر معقول عشرين دولارا.. توقف عند حديقة عامة  صغيرة وقال: هذه هي حديقة الآيس كريم، المكان الوحيد  الذي يستطيع أي موطن كوبي تناول الآيس كريم فيه مقابل سعر معقول، لأن الشرطة الوطنية هي التي تشرف على توزيعها لكي يحصل كل مواطن على كمية متساوية تحقيقا للعدالة الأجتماعية.

ظلت فكرة شرطة الآيس كريم تشغلني بسبب شاعرية الاسم من جهة وتخيل شكل الشرطي الواقف خلف ماكينة الآيس كريم، بكل تأكيد لم تخطر هذه الفكرة  للروائي العظيم غابرئيل غارثيا ماركيز صاحب "مائة عام من العزلة" وصديق الزعيم الكوبي فيديل كاسترو.

في اليوم الثاني ذهبنا لاستكشاف حديقة الآيس كريم الكوبية كنت بصحبة الشاعرة السورية ملك مصطفى، والشاعر السعودي المعروف علي الحازمي، والشعراء الأتراك هيلال كاهرمان صاحبة تجربة شعرية مهمة جداً، ومتين جنكيز أو عاشق فلسطين لأنه كتب نصوصاً كثيرة عن فلسطين والفلسطينيين، وميسر الشاعرة المغرمة بالشعر الجاهلي وخصوصاً المعلقات.

في طريقنا إلى حديقة الآيس كريم.. كان هناك طابور من المنتظرين يمتد على مسافة كيلو متر تقريباً، وحين وصلنا إلى باب الحديقة اكتشفنا أن الطابور هو طابور المنتظرين منذ ساعات في انتظار قيام الشرطة بتوزيع الآيس كريم حيث يقدم المواطن بطاقته والثمن ويسجل اسمه وعنوانه ثم يحصل على الآيس كريم وبثمن معقول 10 سنتات للشخص الوحد.

أسوأ وأغلى إنترنت في العالم

يتواصل الكوبيون وخصوصاً الشباب مع بعضهم ومع العالم عبر شبكات التواصل الاجتماعي وخصوصا فيسبوك بسبب الخدمات الكثيرة لهذه الشبكة ومنها الاتصال الهاتفي المجاني.

استخدام الإنترنت ليس بالسهولة التي نتصورها بسبب الرقابة الشديدة من قبل الدولة أولاً، ولا تمنع استخدام الإنترنت لكنها ترفع الأسعار جداً وبطريقة خيالية. سعر ساعة الإنترنت في كوبا تتراوح بين ثلاثة دولارات وخمسة نظرياً لكن الساعة الواحدة تتجاوز العشرة دولارات.

يوفر النظام الكوبي الإنترنت في أماكن محددة في كل مدينة، ولذلك تجد تجمعات كبيرة ليلاً ونهاراً في هذه الأماكن التي تخضع لرقابة دقيقة من الشرطة.

وللدخول إلى الشبكة العنكبوتية لا بد من شراء بطاقة مسبقة الدفع بمبلغ ثلاثة دولارات وتباع البطاقة نفسها في السوق السوداء بخمسة دولارات، وهي وحسب المعلومات المكتوبة عليها تكفي لساعة كاملة لكن بمجرد الدخول وبعد عشر ينقطع الاتصال وبمجرد محاولة تكتشف أن بطاقتك فارغة وعليك استخدام بطاقة جديدة.

غيفارا الواقف بين السياح

في ساحة تشي غيفارا، وتحت أضواء باهتة ثمة فرقة موسيقية من الشباب تعزف موسيقى أغنية تشي غيفارا للسياح وثمة طابور من سيارات التاكسي الأميركية القديمة ينتظر.

في أطراف الساحة  امرأة كبيرة في السن تعرض صوراً للروائي العظيم أرنست همنغواي مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو.

وسط الضجيج والتقاط الصور يقف غيفارا وحيداً وهو يتأمل هافانا وأهلها باحثاً عن الثورة الكوبية وإنجازاتها دون جدوى.

السيجار في كل مكان

كل من يزور كوبا سيحاول تدخين السيجار الكوبي ولو لمرة واحدة اذا لم يكن مدخناً.

هناك محلات مرخصة ورسمية تعرض كل أصناف السيجار الكوبي الفاخر، لكن هناك أيضاً المئات من البائعين الذين يعرضون على الزائر انواعاً كثيرة من السيجار، لكنها كلها مزورة أي صنعت بطريقة بدائية ومن أنواع عادية من ورق التبغ، لكنها تظل كوبية وتحتفظ بحد أدنى من الجودة لمن جرب السيجار الكوبي الأصلي  مقارنة بسعره من دولارين إلى ثلاثة للسيجار الواحد.

لكن الدولة تصنع للمواطنين أنواعاً رخيصة من السيجار بسعر رخيص جداً حيث يصنع من أوراق التبغ التي يصيبها العفن خلال تخزينها.

وهكذا يتحسر الكوبيون على رائحة السيجار الكوبي الأصلي ويعرفون رائحته، ويتذكرون أيام الجنرال باتيستا حيث كان بإمكان أغلب الكوبيين تدخين السيجار المتوسط الجودة.

النظرة الأخيرة

في الطريق إلى المطار، أراقب وجوه الكوبيين على الأرصفة، رائحة القهوة الكوبية الداكنة تفوح من النوافذ والشرفات والابتسامة لا تفارق الوجوه.

هناك أمل طفيف بحدوث شيء ما يغير حياتهم  نحو الأفضل بعد عقود من الحرمان.

إجراءات العودة تنتهي بسلاسة بعد تفتيش الحقائب، تأخرنا في صعود الطائرة المتجهة إلى مدريد.

ترتفع الطائرة ومن السماء تبدو كوبا جميلة وحزينة مثل أهلها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.