لم يستمر تقلّبه طويلا في فراشه، إذ سمع طرقات عنيفة على باب غرفته، طرقات مختلفة الحدّة، لا بُدّ وأنها تأتي من أشخاص عديدين، فاضطر للنهوض وفتح الباب. وهناك ارتمى عليه شخصان بعنف وأسقطاه أرضا. سمع صوتا يقول: شرطة. لم يُقاومْ. كانت صرخة وزير الداخلية الفرنسي "شارل باسَكْوا" قد سبقته: "يجب إرهاب الإرهابيين"، وبالفعل امتلك رجال الشرطة أجنحة ومنحت لهم صلاحيات إضافية.
سيفهم الفتى العشريني أنّ عامل الفندق هو الذي "باعه". اتَّصل بالشرطة، وقال لهم إن شخصا بملامح عربية يتواجد بالفندق، يحمل حقيبة صغيرة، ولا يملك سوى جواز سفر. وحين تمزّقت حقيبته ولم يُعثَر فيها على شيء مشبوه، قال له أحد الشرطيين، مازحا: "كنا نعتقد أنك، القادم من المغرب، تحمل مخدرات!".
لم ينم تلك الليلة، قطّ. كان ينتظر أن يعاود الميترو نشاطه اليومي، فيبدأ رحلة البحث عن العنوان السحري. التوتر والغضب الكبيران دفعاه إلى مغادرة الفندق، قبل الأوان.
كان يتصور أن العنوان يوجد في باريس. هكذا قيل له، حين تسلَّمه. ولكنه أدرك أن المنطقة توجد في الضاحية الباريسية. وأدرك أن الميترو لا يُوصل إليها. وقضى قسما من الصباح وهو هائم على وجهه، تتقاذفه تعليمات متناقضة من هذا وذاك. وأخيرا عثر على شخص يسير في الاتجاه نفسه.
- سيدي، هذا العنوان، هو لحيّ جامعي، بل هو أكبر حيّ جامعي في فرنسا.
شكره، بهزّة من رأسه. وضمّ إليه حقيبته الممزقة، خوفا من إضاعة بعض الشواهد والوثائق الموجودة فيها.
كثيرة من الأشياء تراقصت في ذاكرته، وهو جالس في قطار الضواحي السريع، ولكن القلق كان سيّد الموقف. القلق من الآتي الغامض. ولم تكن زيارة الشرطة واستجوابها له في عنف جسدي "مجاني"، ليمنحه الثقة في أيام مريحة قادمة.
وأخيرا وصل إلى الحيّ. مدينة جامعية لم يرها من قبل. عمارات وأجنحة عديدة. وكافتيريا ضخمة ومطعم جامعي فسيح. دخل الكافيتريا، طلب كأس قهوة وجلس إلى طاولة، وحيدا. يدقق النظر في وُجوه مرتادي الكافيتريا. وحين يرتاح لسحنة "عربية" ينهض ويسألها: "هل تعرف عبد السلام المغربي؟". العرب المتواجدون في الحيّ الجامعي من كل الجنسيات: مغاربة وجزائريون وتونسيون ويمنيون وسوريون وعراقيون وليبيون وغيرهم... أكثر من عشر محاولات فاشلة. وأخيرا، الفرج. طالبٌ مغربي يقول: نعم أعرفه، ولكن سافر إلى بريطانيا لزيارة أخته. متى يعود؟ لست أدري.
صدمة أخرى تلسعه، لم يفكر فيها من قبل، رغم أنها كانت واردة، فالشخص لم يكن على علم بوصول هذا القريب. ولكن للسفر إكراهاته، وهو ما تقبّلَهُ الشاب العشريني، ولكن على مضض.
وبعصبية خفيّة يكاد يُبديها، استغرق في قراءة صحيفة عربية كانت في حقيبته. رفع رأسه، لينظر إلى المحيط، وكأنه اشتمّ من يراقبه. لمح شخصا ملتحيا، كأن إحدى قدميه تؤلمه، يقترب منه ويجلس إلى طاولته وبيده كأس قهوة.
وكأنه استغرب الصحيفة العربية في يد الشاب، سأله:
- الأخ عربي. ويبدو أنك واصلٌ اليومَ؟!
- نعم، مغربي.
- أنا لبناني... أنت قدمتَ للدراسة، أكيد. أيّ تخصص؟
- الأدب العربي..
- جميل، أكيد أنك مُطّلعٌ على الأدب اللبناني...
- شوية، أطروحتي للماجستير عن إلياس خوري..
- مغربي يشتغل على الأدب اللبناني!
- نعم، وأقرأ ما استطاع جيبي من المجلات الثقافية اللبنانية والملاحق الأدبية للمجلات السياسية اللبنانية.
- أكيد أنه سبق لك أن قرأت مجلة "الكفاح العربي".
- نعم، وأحتفظ بملاحق أدبية كثيرة لهذه المجلة.
كأن الرجل الملتحي استغرب الجواب الأخير، فسأل الشاب: وهل قرأت لكاتب اسمه سركيس عزيزه..
قال الشاب، بثبات ويقين:
- نعم قرأتُ لسركيس عزيزه...
- أنا سركيس عزيزه!
"كمْ هو صغيرٌ هذا العالم!"، قال الشاب في سره. وكأنّ الرجلَ كان يقرأ في أفكار محدثه، سأله:
- أكيد، أنك تعرف شخصا ما في هذا الحي الجامعي؟
- نعم، عبد السلام المغربي، ولكنه مسافر...
- لا تقلق يا هذا. فأنا مقيم في غرفة عبد السلام المغربي، وبإمكانك انتظار عودته من سفره!