}

السطو على البتراء.. هجمة إسرائيلية على المدينة الأثرية الأردنية

آثار السطو على البتراء.. هجمة إسرائيلية على المدينة الأثرية الأردنية
معالم أثريّة مبهرة (بولنت دورك/الأناضول)
انتشرت مؤخراً في مواقع التواصل الاجتماعي، صورة تظهر فيها مدينة البتراء النبطية الأردنية وآثارها، بوصفها مَعْلماً سياحيّاً "إسرائيليّاً"، وقد تداولها الفيسبوكيّون الغيورون على الأردن وسيادته في أرضه وسمائه، وعلى مواقعه الأثرية، الصورة هي دليل واحد من بين أدلّة كثيرة على عمليات السطو والنهب التي تقوم بها إسرائيل (الدولة ومؤسساتها الرسمية والأهلية، الدينيّة والسياحيّة) على ممتلكات عربية، فضلا عن الفلسطينية، من تراث وآثار ومقدّسات، فضلا عن شراء البيوت والأراضي الزراعية والمشاريع الناجحة في غير مجال.
أمام هذه الهجمة الإسرائيلية (واليهودية الصهيونية أيضا)، نفكر أن الإسرائيليين ربّما يعتقدون بضرورة وإمكانية "استعادة" جزء من "مملكة سليمان"، وأنهم ما يزالون يتذكّرون أن أجدادهم اليهود، بقيادة الملك سليمان، قد بسطوا سيطرتهم على هذه المنطقة لمدة مائتي عام، بعد أن هزموا الأدوميّين، وقبل قيام البابليّين بغزو فلسطين، وأخذ اليهود أسرى وسبايا.. ثمّ عودة الأدوميّين إليها، وتعايشهم مع الأنباط (وهم قبيلة بدوية ينحدرون من أصول عربية) الذين قاموا باجتياح هذه المنطقة وإقامة مملكتهم فيها، وعاشوا معا في حياة أكثر استقراراً.
المسألة كما تجسّدها الصورة إذن، تراوح بين ما هو سياحيّ من جانب، وما هو تاريخيّ وسياسيّ وسياديّ من جانب آخر. ورغم وجود اتفاقيات "سلام" بين عمّان وتل أبيب، منذ عام 1994، إلا أن الحكومة الأردنية تفضل التعامل مع الأمر من جانبه السياحيّ التجاريّ والتسويقيّ البحت، ويستبعد المسؤولون التعامل بأية قنوات أخرى، أن تقدّم بلاده شكوى بحق تلك المكاتب الإسرائيلية أو تسجيل احتجاجات ضدها، لأن المشكلة من وجهة نظره "تمّت معالجتها من خلال الإجراءات التي اتُّخذت، وكذلك برامج الترويج المكثفة".
فما هي هذه "الإجراءات"؟ وهل هي كافية وتكفل استمرار تدفّق السيّاح والسياحة على هذا الموقع التاريخيّ العريق؟ وبما يسمح للمواطن الأردني بالحصول على رحلة مريحة إلى المدينة؟
أتذكّر أنّ المواطن الأردني، قبل عقود من السنوات القليلة، كان يحظى بفرص زيارة المدينة كلّها، ما فيها وما حولها من معالم، مجّاناً، أو قليلة الكلفة، وشبه مجّانية، يعني من دون أيّة كلفة ماليّة تتعلّق برسوم دخول أو غيرها، فليس ثمة سوى مصروفاته الشخصية، وما يصطحبه معه من موادّ غذائية وترفيهية للرحلة، لذا كنّا نجد الرّحلات العائلية والمدرسيّة والجامعيّة (الترفيهيّة والتعليميّة) لا تتوقّف.
وعلى سبيل التذكّر، الآن، أراني أسير في حَواري التاريخ وأزقّته، أعود إلى حينٍ كنّا فيه أطفالا وشُبّانا نقف مبهورين أمام معالم أثريّة تاريخيّة، ولا ندري ولا نصدّق إن كانت من "خلق" الطبيعة أم من صنيع يد الإنسان، فالمدينة التي تقع في محافظة معان في جنوب الأردن، وأعاد اكتشافها المستشرق السويسري يوهان لودفيغ بركهارت عام 1812، قام العرب الأنباط بتأسيسها عام 312 ق.م كعاصمة لمملكتهم العتيدة.
وقد تعلّمتُ من كتب التاريخ أيضا أن "موقع البتراء المتوسط بين حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والجزيرة العربية ومصر، منحها أهمية اقتصادية مميزة، فقد أمسكت دولة الأنباط بزمام التجارة بين حضارات هذه المناطق وسكانها"، إذ كانت البتراء "عاصمة لدولة الأنباط وأهم مدن مملكتهم العربية التي دامت ما بين 400 ق.م وحتى 106 م، وقد امتدت حدودها من ساحل عسقلان في فلسطين غربًا وحتى صحراء بلاد الشام شرقًا، ومن دمشق بالشمال وحتى البحر الأحمر جنوبًا".
وللمزيد تاريخيّا، "كان الأنباط قد حققوا السيطرة التامة على المنطقة، وبنوا لأنفسهم مستعمرة حضرية، حيث قاموا بنحت أحيائهم السكنية ومبانيهم وقبورهم في الصخور بجانب الجبال. وفي أوج ازدهارهم في القرن الأول قبل الميلاد، كان يعيش في مدينة البتراء ما يقارب ثلاثين ألف نسمة، كان يحكمهم ملك منذ عام 168 قبل الميلاد، وأنشأوا دولة تمثل ديمقراطية، حيث كان الملك عرضة للمحاسبة عن كل أفعاله".
ويقال إنه "خلال وقت قصير، أصبح الأنباط أثرياء وأقوياء بما فيه الكفاية، ليبسطوا سيطرتهم على المنطقة. ولكونهم زادوا ثراءً تحسن أسلوب حياتهم، وهو ما انعكس بدوره على الديكورات الفخمة الموجودة على قبور الأنباط الجدد".
وعلى الصعيد الثقافيّ، نعرف أن "الأنباط كانوا يتكلمون لغة تشبه الآرامية، وقد أصبحت البتراء عاصمة ثقافية موازية ومساوية للمدن الفينيقية واليونانية، حيث يُعتقد أن الخط العربي الأبجدي قد نشأ وتطور في هذه المنطقة، على يد الأنباط العرب، كما كُتب به الحرف العبري في مرحلة ما". وثقافيّا أيضا، شهد عام 1985 إدراج المدينة (البتراء) على لائحة التراث العالميّ التابعة لليونسكو، فضلا عن أنها تم اختيارها عام 2007 كواحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة.
ونعود إلى الرّاهن، إلى "التشبيح" و"السّلبطة" في سلوك العدوّ الصهيوني تجاه تراثنا هذا، فماذا فعلنا لصدّ هذه الهجمة؟ ليس فقط لحماية السياحة التي تعتبر من أهم مصادر الدّخل للأردن، بل لحماية التاريخ والموروث اللذين يشكّلان عناصر مهمّة في تكوين الهويّة الوطنية والقوميّة والحضارية لبلادنا؟ نتساءل في ظل وجود معاهدة لما يسمى "السّلام" يفترض بها، ورغم الرفض الشعبيّ الكامل لها، أن تحدد تفاصيل العلاقة بين الأردن والكيان الصهيوني، فما الذي قامت أو تقوم به الحكومة الأردنية في هذا الإطار؟
هذا ما ينبغي أن تقوم به وزارة السياحة، ووزارة الخارجية أيضا، لكن ما الذي جرى فعليّا؟ يجيب عن ذلك وكيل وزارة السياحة والأثار الأردنية، عيسى قموه، قائلاً إن الحكومة تقوم بحملات للتسويق والترويج، كما أنها "اتخذت عددا من الإجراءات، للتصدي لممارسات مكاتب سياحة إسرائيلية تروّج لمدينة البتراء الأثرية على أنها معلم إسرائيلي، وتقع ضمن حدود الأراضي المحتلة التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني". فماذا عن هذه الإجراءات التي تواجه الحكومة بها تلك الممارسات الإسرائيلية؟ يوضح قموه "أن من بين تلك الحملات، رفع رسوم تذاكر الدخول إلى البتراء، للسياح القادمين ليوم واحد، وليس على برنامجهم المبيت، من 50 دينارا (أي 70.5 دولارا حاليّا) إلى 90 دينارا (126.9 دولارا) للشخص الواحد".
إذا كانت هذه هي الإجراءات، أو أبرزها على وجه الدقّة، فنحن أمام سؤال حول ما تفعله إجراءاتُنا وحملاتُنا، فأعتقد، مجرّد اعتقاد جازم، أن مكاتب وشركات السياحة الإسرائيلية لن تتأثّر سلبا بإجراءات كهذه، وأن المتضرّر بالتأكيد هو السّائح الذي سيضطر إلى دفع كلفة مضاعفة، ما يعني أنه سوف يفكّر ألف مرة قبل اتّخاذ قراره بالتوجّه إلى البتراء، وسيبحث عن وجهة أخرى، ما يعني أن السياحة في اتجاه البتراء ستغدو في مهبّ هذا التفكير.
فهل هذا ما تسعى وزارة السياحة، ومن خلفها الحكومة الأردنية، إلى "إنجازه"؟ أليس من حلول قانونية ما دامت ثمة "معاهدة سلام" تضبط العلاقة بين الأردن والكيان، حسب المواثيق والقوانين والاتفاقيات الدولية؟
ربّما يتطلب الأمر بحثا آخر، في وقت آخر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.