}

آثارنا تدلّ عليهم

الصحبي العلاني 9 مايو 2016
إناسة آثارنا تدلّ عليهم
متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك، يحتوي على وثائق إسلامية(Getty)

بفائض من التهليل والتكبير ووافر من النشوة والابتهاج تسارع جلّ مؤسساتنا الثقافية العربيّة إلى إقامة مراسم استقبال فخمة احتفاء بعودة بعض المخطوطات الثمينة أو القطع الأثريّة النادرة إلى موطنها الأصليّ، بعد رحلات لها طويلة متشعّبة قضّتها في "بلاد الخواجات"، متنقّلة من مجموعة شخصيّة إلى أخرى ومن مزادٍ علنيّ إلى آخر ومن متحف إلى سواه.

لسنا استثناء في هذا السياق، وليس ثمّة في ما نقوم به شبهةُ بدعةٍ أو جنوحٍ، لأنّ سائر الأمم تحرص مثلنا -وربّما أكثر منّا- على استرجاع مخطوطاتها وآثارها وكلّ ما يشهد بأنّ لها جذورا ضاربة في أعماق التاريخ وإسهامات جليلة في إعـلاء صرح التراث الإنساني المشترك، حتّى وإن كان ذلك الشاهد مجرّد وُرَيْقة ممزّقة الأطراف ذابلة الخطوط، أو فانوس من الفخّار مهشّم الحواشي، أو ضرس نخره السوس ليس له من فضل سوى أنّه يعود إلى ستّة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو فضل عظيم لدى المتخصّصين في البحوث الأثريّة!

أفراحنا المُــرّة!
ولكنّ أفراحنا الغامرة بعودة مخطوطاتنا وآثارنا إلينا لا يمكنها أن تُـزيل طعم المرارة العالق في الحناجر. صحيح أنّ استرجاع جزء من رصيدنا التاريخي يمثّل شكلا من أشكال المصالحة مع الذات ومكسبا لا يمكن لأحد أن يشكّك فيه، ولكنّ حدث الاسترجاع نفسه يثير فينا ذكريات أليمة عن ماضينا القريب والأبعد، ذكريات يبدو فيها أجدادنا على قدر فائق من حسن النيّة وسلامة الطويّة، إلى درجة أنّ الكثيرين منهم لم يتفطّنوا إلى قيمة ما بين أيديهم من مخطوطات وإلى أهميّة ما عثروا عليه من آثار فكان أن فرّطوا فيها دون أن يُـبـدوا حرصا كافيا على الاحتفاظ بها وحمايتها والذود عنها.

فمنذ أواسط القرن الثامن عشر تنامت النوازع الاستشراقيّة بشكل ملحوظ وتزايد الاهتمام الغربيّ بالشرق في ما يشبه الحمّى، التي انتابت قطاعات واسعة من الأوروبيّين الذين صاروا مفتونين بكل "الأشياء" التي تأتيهم من مطلع الشمس والأنوار، وهي "أشياء" بدت لهم غريبة، ثمينة، لا نظير لها.

ولكنّ طور الإعجاب والافتتان سرعان ما أفسح المجال لطور آخر أكثر أهميّة وعمقا، ونعني بذلك طور تشكّل الاستشراق مؤسّسة ترنو إلى أن تكون ذات أسس علميّة ونوازع معرفيّة. ففي سنة 1822، بعث الفرنسيّون "المجلّة الآسيويّة" وخصّصوها لدراسة لغات الشعوب الشرقيّة وثقافاتها وأخلاقها، وفي سنة 1838 أضافوا إلى معاجمهم مصطلح "الاستشراق" وعيّنوا دلالاته ومجالاته، ثمّ توّجوا ذلك كلّه بمؤتمر للمستشرقين استضافته باريس سنة 1873. ولعلّ أهمّ ما يلفت الانتباه في هذه التواريخ أنّها شكّلت مسارا متدرّجا رسّخ لدى الغربيّين الاقتناع بأنّ الهيمنة على الشرق لا يمكن أن تكون شأنا من شؤون الفكر المحض أو مسألة من المسائل النظريّة الخالصة. كان لا بدّ -في اعتقادهم- من تجاوز حالة الافتتان بـ"الأشياء الشرقيّة" والتعلّق بها إلى مستوى الاستحواذ عليها وامتلاكها والتصرّف فيها من أجل استنطاقها. بعبارة أخرى، كان الغرب في حاجة إلى موادّ ذات طبيعة ماديّة ملموسة يستوعب من خلالها وبواسطتها الشرق و"يأتي عليه" دراسة وتمحيصا، وبحثا وتنقيبا، من أجل أن يُـتـمّ على أفضل وجه مهمّته الأصليّة معه، مهمّة الاستعمار المباشر والهيمنة العسكريّة.

وفي خضمّ هذه التفاعلات التي اختلطت فيها المواقف الوجدانيّة والنوازع المعرفية والعوامل السياسيّة صارت بلاد الشرق مرتعا لعديد المغامرين الذين لبسوا أحيانا زيّ القناصل والسفراء، وأحيانا أخرى زيّ الرسّامين والأدباء والشعراء، ومرّات عديدة زيّ البحّاثة والرحّالة والعلماء. ورغم اختلاف أزياء هؤلاء وصفاتهم وجنسيّاتهم ومشاربهم فقد جمعهم -أو كاد- أمر واحد مشترك ألا وهو الإقبال على المخطوطات وقراءتها والولع بالتنقيب عن الآثار ومحاولة والكشف عنها في سياق كتابة تاريخ "شرق آخر" غير الشرق الذي كان أهله يكتبون تاريخه ويعيشونه. وسرعان ما انتقلت من ضفّة إلى أخرى وبشتى الوسائل والطرق آلاف الأعمال المخطوطة والآثار المنهوبة التي أثّثت مادّتها خزائن المكتبات الأوروبيّة والمتاحف الغربيّة في حمّى جديدة غير مسبوقة، حمّى التنافس على اقتناء الكنوز الشرقيّة لإقامة أجنحة تاريخ قديم، تاريخ ما أهمله التاريخ.

التاريخ المضادّ
بنهاية القرن التاسع عشر، فرغ الانتداب البريطاني من بسط سلطانه على جلّ بلدان المشرق وأتمّت الحماية الفرنسية ترسيخ هيمنتها على بلاد المغرب. وبموازاة هذا التاريخ الاستعماري الذي اكتنفت جنباته الدماء كان ثمّة على الضفّة الأخرى تاريخ آخر بصدد التشكّل هو أشبه بالتاريخ المضادّ. فلفرط ما تمّ نقله من مخطوطات شرقيّة عربيّة وفارسيّة وعثمانية وعبريّة وأورديّة وهنديّة سنسكريتيّة وغيرها، ولفرط ما تمّ نهبه من آثار فرعونيّة وسومريّة وآكاديّة وبابليّة وكلدانية (وكثير منها كان عبارة عن ألواح طينيّة ونقائش هي في حكم المخطوطات وأقرب إلى روحها)، وجد الاستشراق نفسه أمام رهانات غير مسبوقة وتحدّيات لا نظير لها. فقد خـفّـت وطأة الحمّى التي انتابت الأوروبيّين طيلة القرون الماضية وجعلتهم أسرى الافتتان بـ"الأشياء الشرقيّة"، وحلّ محلّها واقع جديد فرض على المستشرقين مزيدا من التخصّص والانكباب على قطاعات معرفيّة محدّدة كالمصريّات والآشوريّات والإسلاميّات وعلم النقائش العربيّة... وغيرها.

بشكل ما، كان التطوّر الكميّ الناتج عن تراكم الموادّ المخطوطة والآثار المنهوبة التي تمّ نقلها إلى أوروبا بغرض دعم أرصدة مكتباتها وتوسعة أجنحة متاحفها، سببا في تفتّت النواة الصلبة للاستشراق الذي وجد نفسه أمام مهامّ معرفيّة في حاجة إلى مزيد من الضبط والدقة وتوضيح المسالك. وهذا ما يفسّر انكباب أعلامه المشهورين وغيرهم من المغمورين على الفهرسة والتصنيف والتبويب. وهي مهامّ شاقّة مضنية ولكنّ ثمارها ونتائجها العلميّة أتاحت للمستشرقين أن يقتربوا أكثر فأكثر من المادّة التي بين أيديهم، ومكّنتهم من التنبّه إلى ما بينها من فروق في مستوى الدقائق والتفاصيل والجزئيّات. فاكتشفوا –من بين ما اكتشفوه- اختلاف اللغة السومريّة عن سائر اللغات التي اعتمدت الكتابة المسماريّة؛ وتفطّنوا إلى وجود نصوص ذات قيمة استثنائيّة كانت الثقافة العربيّة الإسلاميّة ذاهلة عنها غير مدركة للأهميّة التي تنطوي عليها كما الشأن مع "مقدّمة" ابن خلدون التي ترجمها وعرّف بها المستشرق الفرنسي البارون دي سلان 1801-1879، نفس المستشرق الذي حقّق وطبع لأوّل مرّة ديوان الشاعر الجاهلي امرئ القيس تحت عنوان "نزهة ذوي الكيس وتحفة الأدباء في قصائد امرئ القيس" 1837.

والذي يعنينا من كلّ هذا -ورغم المرارة التي تظلّ عالقة في الحناجر- أنّ مخطوطاتنا وآثارنا التي نقلت من ضفّة إلى أخرى لم تذهب كلّها أدراج الرياح بل تمّت المحافظة عليها والاعتناء بها وتحقيقها وإخراجها من ظلمات المكتبات إلى أنوار المطابع. وهذا فضل لا يمكن أن نجحده على من نهض بأعبائه تماما كما لا يمكننا أن ننكر تقصيرنا فيه إلى حين ظهور جيل المحقّقين العرب الأفذاذ الذين كان لهم إسهام غزير في إخراج أهمّ النصوص العربيّة إلى نور الوجود مثل الأب أنستاس الكرملي 1947، ومحمد كرد علي 1953، وحسن حسني عبد الوهاب 1968، ومحمد أبو الفضل إبراهيم 1981، وعبد السلام هارون 1988، محمود محمد شاكر 1997، وعائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ 1998، وإحسان عباس 2003، وناصر الدين الأسد 2015، وغيرهم. ولكن، ما حال المخطوطات عندنا بعد أن طوى الموت صفحات جيل المحقّقين الكبار؟ وكيف هي حال الآثار؟


نصوص قديمة في سياقات جديدة
رحل كبار المحقّقين العرب من الجيل الأوّل والجيل الذي يليه، ورحل قبلهم ومعهم أعلام الاستشراق حتى ساد الانطباع بأنّ زمن التحقيق قد ولّى وانقضى تماما كزمن الاستشراق، هذا الذي تحوّل وانكفأ على نفسه وصار مجرّد خدمة استشاريّة تطلبها بعض الدوائر الخاصة في وزارات الخارجيّة.

أنجز الفريقان -عربا ومستشرقين- المطلوب منهما والممكن بل والمستحيل أحيانا، كلٌّ في سياقه المعرفي وحسب مقتضيات الظرفيّة التاريخيّة التي اكتنفته. وها أنّنا اليوم نشهد لدى الجميع ما يشبه العزوف عن التحقيق وأدواته. والأسباب في ذلك عديدة منها ما هو ذاتيّ راجع إلى طبيعة التكوين الذي تتلقّاه الأجيال الجديدة، وهو تكوين يدفعها إلى أن تتعلّق أكثر فأكثر بمُحدث النظريّات والتيارات الفكرية والنقديّة ويزهّدها في مشاقّ تصفّح المخطوطات واستنشاق غبارها. وبعضها موضوعيّ يعود إلى تقلّص رصيد المخطوطات التي تبدو جديرة بالتحقيق، إلاّ في ما ندر من الحالات. فكأنّ الأوائل لم يتركوا للأواخر كبير جهد في هذا المجال.

ولكنّ ما يلفت النظر ضمن هذه السياقات الجديدة التي نحن فيها أنّ الجهود الغربيّة في التعامل مع المخطوطات العربيّة وغير العربيّة المحفوظة في كبريات المكتبات الأوروبيّة قد اتّـجـهـت وجهة تقنيّة خالصة. ومن أبرز الشواهد على ذلك أنّ خزائن المخطوطات صارت مجهّزة بمخابر على غاية من الحرفيّة مهمّتها الأساسيّة تعقيم الوثائق حفاظا عليها من التآكل الذاتيّ عبر الزمن، وترميمها اعتمادا على الوسائل والأدوات الأكثر مناسبة للمادّة الورقيّة أو البرديّة أو الجلديّة التي كتبت عليها، وتصويرها رقميّا قبل إيداعها على مواقع الأنترنيت لتمكين الباحثين والمهتمّين وحتّى الفضوليّين من الاطلاع عليها والاستفادة منها.

وإزاء تطوّرات كهذه هدفها الحفاظ على المخطوطات واتّخاذها رصيدا إنسانيّا مشاعا مشتركا، بصرف النظر عن أصولها اللغوية والعرقية والدينية، أحزن حين أتذكّر حالة الدمار التي ألحقها بعض بني جلدتنا بمكتبات مدينة تمبكتو الماليّة الشهيرة، هذه التي ظلّت إلى عهد قريب حصن الذاكرة العربيّة الإسلاميّة الأخير؛ وتنتابني رعشة حين أستحضر ما جرى لتدمر ونينوى والموصل وغيرها... ولا أتمالك عن وضع نقطه استفهام ونقطة تعجّب أمام القول العربيّ المأثور: آثــارنا تدلّ علينا؟! فهل ما زالت هذه الآثار تدلّ علينا حقّا؟ أم لعلّ من الأوفق أن نترك مخطوطاتنا وآثارنا هنالك في الضفّة الأخرى لأنّــها صارت تدلّ عليهم؟!

(كاتب تونسي)

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.