}
قراءات

فلسطين: عن النكبة التي لا بدّ أن تتواصل

الصحبي العلاني

2 سبتمبر 2018
 

كان رهانا خاسراً ذاك الذي منّت به الزعيمة الصهيونيّة غولدا مائير (1898-1978) نفسَها ووعدت به أهلها حين تحدّثت عن الفلسطينيّين ذات يوم من أيام أيار/مايو 1948 وقالت في شأنهم قولتها الشهيرة: "غداً يموت الكبار، وينسى الصغار!". ففي غمرة انتشائها بالنصر، نصرها، وفي ذروة احتفائها بلحظة التأسيس، تأسيس كيان دولتها الغاصِب، استوت لديها المعايير وتداخلت المقاييس حتّى إنّها حملت حُكمَ الموتِ المحدودِ بحدود البيولوجيا، محمل أحكام الذاكرة التي تخترق الأزمنة وتصرّ على التواصل وتنجح في البقاء. وقد فاتها في ذلك كلّه أنّ الإنسان -في لحظة ما- يموت، بل لا بدّ أن يموت، ولكنّ ذاكرته/ ذكراه/ ذِكره من المستحيل أن تمضي معه إلى القبر بلا رجعة. فالبيولوجيا (بالرغم من كونها حقيقة لا يصمد أمامها جسد، ولا يُجادل فيها أحدٌ) لا يمكنها البتّة أن تختزل آفاق الأنطولوجيا التي تظلّ (رغماً عن الجميع) حقيقة الحقائق مفتوحة على المعنى يتشكّل في كلّ حين ويتجدّد في كلّ لحظة، وإلى الأبد.

وفي المفترق بين البيولوجيا والأنطولوجيا، بين الفناء والبقاء، بين حتميّة العدم وإرادة الحياة، وضع الكاتب الفلسطيني رمزي بارود كتابه الأخير الصادر باللّغة الإنكليزيّة عن دار بليتو بريس اللّندنيّة تحت عنوان: "الأرض الأخيرة- حكاية فلسطينيّة".

 

مقياس الزمن... ومعيار الوجود!

عندما فتح الكاتب الفلسطيني رمزي بارود عينيه على العالم سنة 1972، كانت الأحداث الجسام قد مرّت مُشكّلة معها خارطةً جغرافيّةً سياسيّةً للشرق الأوسط غير تلك التي عرفها الجميع طيلة قرون. ففي سنوات ما بين نكبة 1948 ونكسة 1967 رُسمت حدودٌ غير الحدود، وأُطلقت على البلاد أسماء غير الأسماء، وتغيّرت ملامح كثيرة، وحُرِّفت تفاصيل لا حصر لها. وفي خضمّ ذلك كلّه، وجد شعبٌ كاملٌ نفسه تحت الخيام، تُظلّه سماء غير سمائه وتُقلّه أرض غير أرضه.

ولم تكن حرب أكتوبر/تشرين 1973، هذه التي لم يبلغ فيها رمزي بارود الفطام بَعْدُ، إلا فصلاً آخر مكرّراً من فصول شبيهة ظلّت تتوالى على الشعب الفلسطينيّ دون أن يأتي لاحقها بالجديد، بل إنّها سرعان ما أفضت إلى معاهدة لم يتوقّعها أحد، ونعني بذلك معاهدة كامب ديفيد (أيلول/سبتمبر 1978) التي لم تزد العرب إلاّ انقساماً وتشتّتاً.. أمّا بقيّة الحكاية وأهمّ تواريخ الصراع العربي الصهيوني، فلا شكّ في أنّ ذاكرة القرّاء ما زالت تحتفظ بها: من اجتياح لبنان (يونيو/حزيران 1982) ومجزرة صبرا وشاتيلا (أيلول/سبتمبر 1982) وصولاً إلى آخر الحروب التي صار معها كلّ شيء مستباحا في ظلّ الصمت الدولي والتواطؤ الإقليمي.

واعتبارًا للأهميّة القصوى التي تكتسيها هذه المحطّات الزمنيّة المتلاحقة في سياق الصراع العربي الصهيوني، بل في تاريخ المنطقة وفي مسار العلاقات الدوليّة، فإنّ رمزي بارود لم يُهملها ولم يصرف نظره عنها. ولكنّ اهتمامه بها واستحضاره إيّاها لم يدفعاه إلى الإغراق فيها والوقوف عند حدودها. وهذا ما أكسب كتابه "الأرض الأخيرة-حكاية فلسطينيّة" سمته المميّزة وطابعه الاستثنائي.

لم ينشغل رمزي بارود بالزمن الجمعي في مقاييسه المُتواضَع عليها بحساب السنوات والأيّام، ولم ينصرف إلى تحديد الأسباب والنتائج أو إلى بيان الدوافع والغايات، ولم يقف من المادّة التي بين يديه موقف المؤرّخ الذي يأسره الحدث فينغمس فيه وفي ما يترتّب عليه من استتباعات؛ بل إنّه ندب نفسه وقلمه إلى مهمّة أخرى: مهمّة كتابة الوجود في مستواه الفرديّ الإنسانيّ العفويّ المباشر.

ولعلّ أخطر ما في هذه المهمّة أنّها تُوقِفُنا على حقيقة غالباً ما تغيب عن أذهاننا، حقيقة أنّ التاريخ يُصاغُ في مدوّنتَيْن على الأقلّ: مدوّنة أولى "قياسيّة/ قاعديّة/ أساسيّة" (standard)، لا يعنينا كثيرا كونُها رسميّة أو أكاديميّة (لأنّ الرسميّ والأكاديميّ يلتقيان في نهاية المطاف في مستوى ما من "المعقول/المقبول"!)؛ ومدوّنة أخرى "منفلتة/غير منضبطة"، هي مدوّنة الذوات (individuals) التي اكتوَتْ بحرائق التاريخ والتي تريد أن يعلم الآخرون بأنها كانت وقوداً للمحرقة، محرقتها التي غالباً ما تُنسى!

ومن هذا المستوى الثاني، مستوى "المنفلت/غير المنضبط"، مستوى "المحرقة المُهملة"، محرقة التاريخ الفلسطيني الفرديّ الحديث والمعاصر، ومحرقة اليوميّ الراهن استمدّ رمزي بارود مادّة كتابه وأكسبَها طابع الشهادة...

 

القلم، شهادته واستشهاده!

على امتداد متن الكتاب الواقع بين الصفحة 3 والصفحة 262، دوّن رمزي بارود سِيَرَ أشخاصٍ حقيقيّين التقى بهم واستمع إليهم ونقل عنهم تفاصيل ما جرى وما يجري. وقد توزّع هذا المتن الذي يمثّل جوهر العمل ومركز الثقل فيه على ثمانية فصول/ حكايات اختار لها الكاتب العناوين التالية: "نهر القاذورات" (صص. 3-38)، "أبو صندل-الشخص ذو النعلَيْن" (صص. 41-75)، "روح البستان" (صص. 79-112)، "قسيمة وفاة" (صص. 115-150)، "يسوعُ بيتِ جالا" (صص. 153-181)، "رسائل إلى هبة" (صص. 185-217)، "على قيد الحياة في غزة" (صص. 221-246)، "السماء الأخيرة" (صص. 249-262).

ولعلّ من أهمّ ما يلفت الانتباه في هذه الفصول/الحكايات أنّ الكاتب يفتتحها دائما بإشارة لا تتجاوز الفقرة أو الفقرتَيْن؛ وهي إشارة غالبا ما يرسم من خلالها بعض ملامح الشخص الذي يمثّل محور الحكاية، أو هو يبيّن طبيعة العلاقة التي تربطه به. ولئن تكرّر مثل هذا الأمر في الصفحات 1 و39 و77 و113 و151 و183 و219 و247 فإنّنا نودّ التوقّف بصورة خاصّة عند الصفحة 183 هذه التي مهّدت للفصل السادس/الحكاية السادسة وقد حمل/حملت عنوان: "رسائل إلى هبة".

وما كنّا لنختار هذا الفصل/الحكاية دون سائر الفصول/الحكايات إلاّ لأنّه يكشف لنا بصورة جليّة واضحة طبيعة المهمّة التي تصدّى لها رمزي بارود ونهض بأعبائها. وممّا جاء في تمهيد الفصل السادس/الحكاية السادسة قول الكاتب: "عندما تَحاوَرْنا معاً للمرّة الأولى، أنا وعليّ، كان الهدفُ من وراء محاورتنا تلك محاولةَ مساعدته على نشر كلمة عن عائلته في سورية [...] أَصْلُ الحكايةِ أنّ عليّاً طلب منّي صياغة رسالةٍ على لسانه، رسالةٍ موجّهةٍ إلى ابنته تستلمُها عن طريق الهلال الأحمر. ولكنّ ما قَصَدْنا أن يكون رسالة قصيرة محدَّدَةً أضحى قصّة حياة طويلةً شاملة".

والذي يعنينا ممّا تقدّم أنّ الإشارة التي استهلّ بها رمزي بارود فصله السادس/حكايته السادسة تكشف لنا في ذات الحين عن "أفق الانتظار" عند متقبّليه (ونعني بالمتقبّلين هنا قارئ رسالته/نصّه الأوّل، عليّاً، ثمّ قرّاء الحكاية/ الحكايات/ الأثر اللاحقين المفترضين والواقعيّين، ونحن من ضمنهم!)؛ تماما مثلما تكشف لنا عن حدود الكتابة عنده وعن إكراهاتها (إن كان ثمّة إكراهات حقّاً!).

ولكن، ماذا لو طرحنا المسألة من خارج معاييرنا النقديّة المألوفة؟!

ما الذي يمنعنا من النظر إليها وفيها بعيداً عن "أفق القراءة" وعن "الشروط" التي "يمليها" المتقبّلون (أيّاً تكن المنزلة التي يحتلّون)، وبعيداً عن "آفاق الكتابة الحرّة" وعن "إكراهاتها العصيّة التي لا تُحتمل"، (عِلْماً بأنّ هذه "الإكراهات" ليست سوى قفا الحريّة ذاتِها ووجهها الخفيّ المستتر)؟!

لماذا لا نعتبر الكتابة في جدليّتها الصميمة القصوى؟ جدليّة الشهادة بالقلم الفرد (قلم رمزي بارود) واستشهاده الرمزي/ الحكائيّ من أجل الآخرين (الآخرين الذين نُقلت عنهم الحكايات) واستشهاد قرّائه معه (لحظة قراءتهم لنصوص الحكايات)؟

 

الكتابة من الأسفل!

في ظاهره وسطح خطابه، يبدو كتاب "الأرض الأخيرة- حكاية فلسطينيّة" مجرّد عمل "بسيط ساذج" لم يُكلّف صاحبَه من جهد سوى جهد تجميع المادّة التي أتيحت له؛ تلك التي وجدها مبذولة بين يديه، فنَقَلها "كما هي"، ورواها "على عِلاّتها" دون تصرّف أو تعديل. وهذا ما يذكّرنا بتمييز لطيف أقامه الناقد الفرنسيّ الشهير رولان بارط (1915-1980) بين من أسبغ عليهم صفة "الكاتب" (écrivain)، من ناحية؛ ومن نزّلهم منزلة "الصائغ" (écrivant)، من ناحية أخرى. وهو تمييز قريب كلّ القرب ممّا شاع في بعض نصوصنا النقديّة القديمة وفي جُلِّ نصوصنا المُحدثة بين "الشاعر الحقّ" و"النّاظم المتكلّف".

هل كان رمزي بارود "كاتباً" حقّاً (بكلّ ما في الكلمة من إجلال وتفخيم وتوقير) أم إنّه مجرّد "صائغ" (لا أكثر ولا أقلّ) رأى فيه من يقاسمونه الهويّة الفلسطينيّة لسان حالٍ لهم، لديه من القدرة على تصريف القول ما لا يستطيعون الإتيان بمثله؟!

"الحكم على الشيء فرع من تصوُّرِه". تلك قاعدة من قواعد الأجداد في علم الأصول وما كنّا لنستحضرها ونستشهد بها في مقامنا هذا لولا وعيُنا بأنّ ما أتاه رمزي بارود في كتابه "الأرض الأخيرة- حكاية فلسطينيّة" ليس من جنس الكتابة التسجيليّة "الوضيعة" ولا من جنس الكتابة التخييليّة "الرفيعة"، ولكنّ عمله واقعٌ في منزلة بين المنزلتَيْن، جامع بين الفضِيلَتَيْن، متجاوزٌ لكِلْتَيْهما في ذات الحين!

وإذا جاز لنا أن تبتدع لكتابته نعتاً يناسبُها ويستوفي خصائصها فليس أفضل من أن نطلق عليه صفة "الكتابة من الأسفل"!

ونحن نقصد بـ"الكتابة من الأسفل" أن ينطلق صاحب النصّ من المعطيات الأساسيّة الدنيا التي تمدّه بها مصادره الأولى المباشرة، وأن يُغرق في الإنصات إليها، ويَغرق في النقل عنها، في حالٍ من التماهي والذوبان تنتفي معها الحدود بين الذات والموضوع، إلى درجةِ تغييبِ رمزي بارود "كاتباً" وإعلان موته "صاحب أثر".

ولكنّ هذه الدرجة القصوى التي يعلن فيها نمطُ الكتابة وأسلوبُها عن "موت المؤلّف" ليست إلا المعنى الآخر الذي يتمّ من خلاله إثبات أبديّته وخلوده، شأنه في ذلك شأن جميع شخوص حكايات الكِتاب. وهي شخوص استطاعت أن تتجاوز الموت في أحكامه القاهرة وقوانينه الظاهرة لأنّ الرؤية السرديّة التي شُكِّلت وفقها هذه الشخوص لم تقم على مفهوم "البطولة" بل على نقض هذا المفهوم وتقويضه.

 

ليس ثمّة في أيّة حكاية من الحكايات التي رواها رمزي بارود "بطلٌ" بالمعنى التفخيميّ المألوف للمصطلح، وحتّى من ظننّاهم "أبطالا"، للوهلة الأولى، (سواء أكانوا في بطولاتهم تلك خارقين أم منكسرين أم منتصرين أم غير ذلك من الصفات الأقرب إلى التعبير عن حالاتهم) سرعان ما تَخَلَّوْا عن "شرف البطولة" ليتقاسموه مع سائر من أثّثوا نسيج السرد وتفاصيل الحكاية. وبهذا المعنى، يمكننا القول إنّ البطولة في "الأرض الأخيرة" قد أضحت شأناً مشتركاً مُعمَّماً مغروساً في كلّ فرد يحمل هويّة فلسطين أو يتعاطف مع قضيّتها.. هويّة وقضيّة لم ينفكّ رمزي بارود عن تذكيرنا من خلال الحكايات التي نقلها وصاغها وشكّل بها متن كتابه بأنّها تتأسّس على حدث مركزيّ صميم: حدث النكبة الذي لا بدّ أن نكفّ عن اعتباره يوماً من أيّام التاريخ الأليم البعيد، وأن نتوقّف عن الاحتفاء به وعن استذكاره واسترجاعه "كلّ سنة مرّة"، في انتظار أن نُعيدَ الكرّة في المرّة القادمة!

النكبة لحظة تدفعنا دراميّتها إلى اقتطاعها من سياق الزمن لإلقائها في "سلّة الذكريات"!

النكبة جرح يسعى الكثيرون إلى مداواته ومداراته!

ولكنّ "الكتابة من الأسفل"، هذه التي اختار رمزي بارود السير على نهجها، تحملنا حملاً على تكثيف وعينا بالتاريخ؛ لا من أجل استحضار الحدث الذي مضى وانقضى وكأنّه أمرٌ لم يَقَعْ، بل من أجل تجذير هذا الحدث الغائب في صميم الشاهد وتنزيله في تفاصيل الراهن. فليست المآسي الصامتة التي يعيشها الفلسطينيّون اليوم في الداخل وفي عالم الشتات إلاّ نتيجة لما ضجّ أجدادهم بالشكوى منه وما رفعوا عقيرتهم احتجاجاً عليه.

تلك هي "الحكايات الحقيقيّة" التي نبّه رمزي بارود في حاشية كتابه (وتحديداً في الصفحة 266 منه) إلى ضرورة أن تُكتب. وهي "حكايات أخرى لا يمكن أن تختزل تاريخ [الفلسطينيّين] في جدول زمنيّ للصراع" السياسي أو الإيديولوجي أو الطائفي أو الفصائلي أو الإقليمي أو الدولي.. هي حكايات أخرى أخرجها رمزي بارود إلى النور بطريقته البعيدة عن بؤس البروباغندا فكتب بها تاريخاً آخر مغايراً، تاريخ أناسٍ بسطاء تتقاذفهم الإنسانيّة المفعمة بالهشاشة والعظمة، وهم لا يُدركون -لفرط بساطتهم- أنّهم أبطالٌ، وأنّهم كانوا وما زالوا -تماماً مثل أجدادهم، ومنذ أجدادهم الذين عاصروا نكبة 1948-وقود محرقة لا يكاد يعترف بها أحد!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.