}
عروض

سلوى زكزك تكتب بالشفرة على جسد دمشق العاري

نسرين طرابلسي

9 فبراير 2020
منذ أن اكتشفتُ الكاتبة سلوى زكزك التي تدوّن مشاهداتها عن يوميات دمشق على فيسبوك، لم تتوقف دهشتي بهذه القدرة السحرية على نقل الواقع. وذلك النفس النزق والطويل في آنٍ معا لرصد التفاصيل اليومية وتحويلها إلى مخرز يفقأ عين القارئ البعيد، بوصفةٍ ترش ملحاً في موضع الجرح، فيدمن القارئ ذلك الألم الذي يريحه، وفي نفس الوقت يوقظه كلما طاب له الخدر أو ابتلعه النسيان، أو سرقته سكاكين الغربة.

مع متابعتي لما تكتبه السيدة زكزك تعززت فكرتي عن أهمية الكتابة من داخل رحم المدينة. فمنذ أن بدأت الثورة السورية في عام 2011 اتخذت الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي شكل الحمّى الجماعية لقول الحقيقة، في مواجهة التعتيم الإعلامي وأكاذيب البروباغندا السياسية التي تهدف للتشويش على سردية ما يحدث حقاً في سورية. ومع تغول الحرب وازدياد موجات النزوح والهجرة إلى دول الجوار وأوروبا، بدأ بريق العديد من الأقلام يخفت شيئاً فشيئاً حتى تلاشى تماماً واختفى أصحابها إما في غياهب سجون النظام أو تحت وطأة الخوف من التهديد والاعتقال، أو على طوابير الـ “Job center” أو في مدارس تعليم اللغات الجديدة للبلدان المضيفة أو في اكتئابات الحسرة والمرض والانشغال بالمرض النفسي المزمن على وقع اليأس وشح الأمل، ثم الموت في أسوأ الأحوال، كما حدث للكاتبة باسمة الجزائري. فهل الصورة في الخارج أشد قتامة من الداخل؟ ما هي قوة الداخل؟ وكيف استطاعت سلوى زكزك النجاة بالكلمة حتى صدور مجموعتها القصصية الأولى "يوم لبست وجه خالتي الغريبة"؟

القصص القصيرة قصائد في فن الالتقاط
تقول الروائية إيزابيل ألليندي: "الرواية تصنع بالعمل والقصة القصيرة بالإلهام". أجل إن القصة القصيرة مثل القصيدة، تأتي دفعة واحدة بالإلهام أولا، ومن ثم يتم العمل النقدي حتى صدورها في كتاب. على عكس الرواية التي هي عبارة عن مخطط يبدأ العمل على بنائه منذ البداية. من هنا أستطيع وصف يوميات سلوى زكزك على الفيسبوك بالإلهام الخام على وقع المشاهدات، بلغة ساخنة ما زالت تقطر من شفرة الكتابة على جسد المدينة العاري. وهو ما يسبب صدمة تصفع القارئ وتشده إلى صفحتها، حتى أصبح لديها في غضون عام الآلاف من المتابعين الذي ينتظرون مثلي يوميا مراسلتنا من دمشق، وهي تعرض علينا اللقطات الحقيقية لصراع الفقراء والبسطاء اليومي لتأمين لقمة العيش، ذلك الصراع الذي تعمى عنه عين الإعلام. كما تحرص على أن تسجل لنا الحوار الخاطف الجارح، الصادق والجريء الذي تحذفه الرقابة هذه الأيام، بعد أن كانت تبني عليه دراما المسلسلات فتبيعنه وتشتري فيه.

 سيشعر السوريون بحرارة قصص سلوى زكزك التي تستمد نبضها من تفاصيل الحياة الدقيقة وعقباتها في زمن الحرب


















"يوم لبست وجه خالتي الغريبة"
وفي محاولة جادة من سلوى زكزك لتجميع بعض تلك البوستات الفيسبوكية وتحويلها إلى قصص قصيرة، تصدر مجموعتها القصصية عن دار ميار، بتسعين صفحة فقط. قرأتها مرتين متتاليتين بحثا عن نزق لغة سلوى زكزك على السوشال ميديا التي تتسم بالسرعة والعفوية والطزاجة وتنزلق إلى العامية في أغلب الأحيان. لكن المفاجأة أنها وبتمكن احترافي استطاعت أن تضبط ذلك النزق، وتنقل كل ما يميز كتابتها بلغة أدبية جادة ورصينة احتفظت بكامل مميزات العفوية والطزاجة وإن بإيقاع أهدأ فرضه التمعّن والعناية باللغة والتفاصيل.
تجد في المجموعة ستة عشر نصاً قصصياً، بعناوين مختارة بعناية. تتراوح بين كلمة واحدة مثل "جنين"، "رحيل"، "معايدة"؛ أو كلمتين مثل "التابوت المصدف"، ليفة للاستحمام"، "مجرد اشتياق"؛ أو جمل قصيرة مثل "الثامنة صباحاً بتوقيت المدينة"، "أليس وشهوة الموت"، "يوم لبست وجه خالتي الغريبة".

وفي هذه النصوص المهداة "إلى السوريات البهيات" والتي بمجملها تسلط الضوء على النساء بمختلف الشرائح العمرية والظروف القاهرة، لا تنسى سلوى الأطفال وهم الفئة الثانية الأكثر تضرراً في الحرب، كما لا تنسى الرجال المقهورين أيضاً. فسلوى كمدونة وكاتبة تنحاز بالمطلق للبسطاء والفقراء والمحتاجين، هذه الطبقة التي دفعت الثمن غالياً جراء الحرب والنزوح والتهجير، وما زالت تدفع الثمن يوميا في معركة البقاء على قيد الحياة في ظل شبح الموت الذي يطل برأسه من جحيم غلاء المعيشة.


إضاءة في قراءة سريعة
لم تتملكني الحيرة وأنا أحاول اختيار مقتطفات من قصص المجموعة، فهذه المجموعة القيمة مثل وجبة لذيذة، تُلتهم كاملة رغم أنها حافلة بالغصات. بل إن ما أربكني هو مقاومة الاستفاضة والاختصار في اختياراتي وهو ما فشلت فيه.
الثامنة صباحاً بتوقيت المدينة: يصور هذا النص عمالة الأطفال وكبسة دورية بلدية على بسطاتهم. يبدأ بعبارة "في تمام الثامنة صباحا يحضر الله بقوة في تفاصيل المدينة". حيث يحفل السرد بالمشاهد والأصوات والحركة السريعة والروائح ودرجة الحرارة أيضا، بحيث يصبح القارئ داخل المشهد الذي التقطته عين الكاتبة يحف به الصخب والضجيج. وفي تناقض صارخ مع القسوة والظلم بحق هؤلاء الأطفال، تختار الكاتبة أمام القصر العدلي مكاناً لمجريات القصة، والأهم بحضور الله:
"يغرقون في بحر من الأمنيات مستحلفين الله في سرهم بتعب أقل وخسارات أقل، لا يبحثون عنه في السماء ولا في مكان قريب، فهو حاضرٌ بينهم بقوة".

دغدغة مرهمية: لم تصدق السيدة التي تقطف الخبيزة من الحدائق بيديها الخشنتين وتبيعها للمارة عندما تأتي سيدة وتقدم لها مرهما مطريا لليدين، فتصاب بنوبة فرحٍ وضحكٍ هستيرية. وعلى الرغم من جمال توصيف فرحة السيدة بالمرهم المطرّي، إلا أن الكاتبة انساقت وراء جماليات اللغة والتعبير باندفاع، فارتكبت خطأين تقنيين: الأول، هو وضع لغة عالية لا تتناسب مع بساطة الشخصية؛ الثاني هو تداخل صوت الراوي فجأة مع صوت المتكلم.

الحرب
تشكل الحرب خلفية للقطات في قصص مجموعة "يوم لبست وجه خالتي الغريبة". وتلقي بظلالها على الأفعال وردود الأفعال والانفعالات العاطفية وتظهر واضحة في السرد الأدبي ومنطق الشخصيات، فالنزوح والتشرد والفقر وتردي الحالة الاقتصادية وعمالة الأطفال ومعاناة الأمهات مع غياب الأبناء ومعاناة العجائز في وحدتهن والمشاعر المرافقة لكل هؤلاء من آثار الحرب وتبعاتها، تشكل بمجملها ثيمة القصص وأرضيتها.
ففي قصة "التابوت المصدف" تتخذ سيدة نازحة من صندوق مصدف في مستودع مكانا للنوم، تحف بها المخاوف وتسمع أصوات الحرب، حتى أنها تجد في أسفل الصندوق أرقاما وتواريخ لأولاد ربما اختبأوا في هذا الصندوق يوما. وقد وجدتُ في القصة إسقاطاً وتشبيها لزنازين الاعتقال الانفرادية حتى وإن خارج أسوار السجن.

أما في قصة "فاصل من الموسيقا" التي تبدو أشبه بقصيدة ذاتية، تنجح الأم في الذهاب إلى فرنسا للقاء ابنها الذي لم تره منذ سبع سنوات، وفي عبثية قدرية يكون الابن مضطرا في يوم وصولها للمشاركة في حفل موسيقي، فيرسل صديقه لاستقبالها "بدوت مخرجة فاشلة لملحمة عاطفية كبيرة، حتى أنني أضعت أمومتي كلها في تلك اللحظة". القصة تطرح سؤال الزمن "زمن اللقاء وزمن الفراق وزمن اللهفة". يمكن لهذه القصة الإنسانية أن تدخل أدبيات الهجرة واللجوء حيث تقدم لنا عالمين، عالم مقيد بانتظار الغائبين وعالم الغائبين الذين أصبح لديهم ارتباط بمكان جديد ومختلف يخضعون لشروطه وظروفه.
في قصة "فائض عن الحاجة" تطرح الكاتبة موضوعا ملحاً عن الحمل خارج الزواج في زمن الحرب. وفي قصة "مجرد اشتياق" تطرح ثلاثية الحرب والوحدة والحاجة إلى رفقة لامرأة عجوز هي السيدة رمزية التي تجد في سائق تاكسي ابن حلال عوناً وونساً، حتى تضطره الظروف للابتعاد فيكون مصيرها الذهاب لدار المسنين.
أما قصة "هدوء نسبي" فتطرح قضية الهجرة المعاكسة في العودة إلى القرية "طلبا للسلامة والنجاة" بعد أن عاشت بطلة القصة سميرة عمرا في دمشق، وها هي تعود ثانية إليها تحت إلحاح الشوق "لحيوية متعبة وقاهرة لكنها دينامية تمنح الحياة معنى وتملؤها بالتفاصيل الجذابة رغم التعب". ويتصادف وجود سميرة في أحد الأسواق الشعبية مع سقوط قذيفة على مقربة من المكان، يتضمن توصيفا دقيقاً لردود أفعال الناس في تلك اللحظة، بينما يعطي القارئ إحساسا بمعنى أن تعيش تحت مظلة الحرب "يواصل البشر حياتهم الطبيعية، كما يدّعون، بين قذيفةٍ وأخرى".

وفي قصة "جنازات للفرجة" تلتقط الكاتبة مشاهد دقيقة من حياة مجموعة من النساء، حيث أصبحت العروض الأكثر مشاهدة في المكان هي الجنازات. " وفي هذه القصة تستمر زكزك ببراعة في التقاط الأصوات والصور والحركة والرائحة والطعم والنكهة والوصفة أيضاً. كما تبرع الكاتبة بتمرير شيفراتها لتوضح نسيج البلد وتنوعه من خلال لمسات بسيطة كألقاب نسائها في القصة.
في قصة "جنين" تحضر الحرب باسمها وأثرها في معضلة الزوجة الشابة التي يمضي زوجها الخدمة الإلزامية، وتضطر لإخفاء زواجها لتُقبل بالعمل في أحد المصانع. وعلى الرغم من رغبة الأم الاحتفاظ بالطفل في دلالة على أن الحمل في الحرب هو استمرار للحياة، إلا أن العائلة تطالبها بالإجهاض.
سيشعر السوريون بحرارة قصص سلوى التي تستمد نبضها من تفاصيل الحياة الدقيقة وعقباتها في زمن الحرب، ولا أدل على ذلك من قصة "حالة طوارئ" وهي تصور الوقت القليل الذي تصل فيه المياه إلى المنازل فيحاول الناس أن ينجزوا أكبر قدر من الأعمال بأقل قدر من الوقت، كتعبئة المياه والغسيل والاستحمام وما يصاحب ذلك من فوضى ومشاق.


السوريات البهيات
سيرافق إهداء سلوى قصصها للسوريات البهيات كل قارئ، كلما لوحت أمٌ لغائب أو ذرفت دمعة على جنين أجهض أو دبرت وجبة لعائلة أو تحايلت على القديم ليصبح جديداً أو لاح وشم على يد متغضنة، أو تحايلت نازحة تعيش في الحديقة العامة منذ ثلاث سنوات، لتبتكر منزلاً يقيها الغرق بالأمطار كما في قصة "معايدة". فتسرق دفتين خشبيتين من عمال بناء "حين استغلت انشغالهم بكاميرات التلفزيون التي جاءت تصور الحدث العظيم، وتنقل بالصورة وليس بالخبر فقط الإصلاحات العظيمة". إذاً لا تغفل سلوى في قصتها أن تنتقد الإعلام وطريقة تعاطيه الفجة الخالية من الإحساس مع آلام الناس وحاجتهم. وها هي ساكنة الحديقة تجد نفسها في وسط بؤسها وجها لوجه مع مذيعة تعايدها برأس السنة وتسألها عن أمنياتها بالعام الجديد! فماذا تمنت النازحة يا ترى؟


وفي قصة "يوم لبست وجه خالتي الغريبة" قدمت الكاتبة كل مشاعر الغربة التي تلتهم سكان دمشق دفعة واحدة، بل إنها استعملت كلمة الغربة بتكرار ملفت، الغربة المحلية التي تبدو معادلاً للموت البطيء. ولعل اختيارها لعنوان هذه القصة ليكون عنوان المجموعة ككل أشبه بصرخة استغاثة من أبناء العز الذين ذلتهم الحرب وأصبحوا غرباء على أرضهم وما زالوا يتمتعون بالكبرياء وعزة النفس. "شعورٌ غامر بالغربة"، "بدا الباص مثقلاً برائحة الغربة"، "عمري سرق وابني الوحيد غريبٌ هناك وأنا غريبة هنا، والمصاري وسخ العالم"، "أنا الهاربة من رائحة الغربة"، "وصفة للشفاء من قروح الغربة"، "تعثرت بغربتها"، "صباح حاشد بالغربة"، "وشمها يمعن في غربته"، "غربة إثر غربة".

 تشكل الحرب خلفية للقطات في قصص مجموعة "يوم لبست وجه خالتي الغريبة". وتلقي بظلالها على الأفعال وردود الأفعال والانفعالات العاطفية


















سأختم هذه القراءة بعبارة من قصة "إعلان عائلي" تقدم لنا سلوى فيها نموذجاً لحضور الأم السورية الطاغي، التي تبيع خاتم زواجها لتشتري بثمنه محبسين لخطيبتي ولديها الغائبين.

أجل، فالأفراح تستمر، ومهما ضاقت الدنيا في زمن الحرب والفقر تستطيع أمٌ أن تصنع حالة فرح، بثقتها بنفسها وقدرتها وطاقتها الهائلة على الإمساك بزمام الأمور الفالتة. توجه الكاتبة إهداءها إذاً إلى السوريات البهيات، وأشد أنا بدوري على يدي سلوى زكزك وروح المرأة القوية فيها، لتستمر في التنقل ما بين الميكروباص وسوق الخضار والبالة، وحيث يتجمع الأطفال العاملون في شوارع دمشق وعلى باب القصر العدلي وفي الدير وفي الشارع والحدائق العامة، وحيث يوجد ويتجمع ويقاوم ضحايا الحرب والمهزومون، لتجمع لنا حكايات المأساة، وتحفظ لنا الحقيقة التي سيتجاهلها المنتصرون حين يكتبون التاريخ. فـ"غداً ستنتهي الحرب! سترحل بعيداً معترفةً بأنها لم تهزم امرأة قط".

*كاتبة سورية مقيمة في لندن

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.